الثلاثاء، 19 مارس 2024

من سورة التوبة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١٧
من سورة التوبة 
﴿لَّقَد تَّابَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلنَّبِیِّ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ وَٱلۡأَنصَارِ ٱلَّذِینَ ٱتَّبَعُوهُ فِی سَاعَةِ ٱلۡعُسۡرَةِ مِنۢ بَعۡدِ مَا كَادَ یَزِیغُ قُلُوبُ فَرِیقࣲ مِّنۡهُمۡ ثُمَّ تَابَ عَلَیۡهِمۡۚ إِنَّهُۥ بِهِمۡ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ﴾ [التوبة ١١٧]

قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَرَجُوا إِلَيْهَا فِي شِدَّةٍ مِنَ الْأَمْرِ فِي سَنَةٍ مُجدبة وَحَرٍّ شَدِيدٍ، وَعُسْرٍ مِنَ الزَّادِ وَالْمَاءِ.قَالَ قَتَادَةُ: خَرَجُوا إِلَى الشَّامِ عَامَ تَبُوكَ فِي لَهَبان الْحَرِّ، عَلَى مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْدِ، أَصَابَهُمْ فِيهَا جَهْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى لَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَيْنِ(١) كَانَا يَشُقَّانِ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ النَّفَرُ يَتَدَاوَلُونَ التَّمْرَةَ بَيْنَهُمْ، يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا، [ثُمَّ يَمُصُّهَا هَذَا، ثُمَّ يَشْرَبُ عَلَيْهَا](٢) فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَقْفَلَهُمْ مِنْ غَزْوَتِهِمْ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عن سعيد بن أبي هِلَالٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَير بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي شَأْنِ الْعُسْرَةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَأَصَابَنَا فِيهِ عَطَش، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ(٣) [حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ](٤) حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثه فَيَشْرَبُهُ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَدْ عَوّدك فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا. قَالَ: "تُحِبُّ ذَلِكَ". قَالَ: نَعَمْ! فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى مَالَتِ السَّمَاءُ فأظَلَّت(٥) ثُمَّ سَكَبَتْ، فملئوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ.(٦)وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ أَيْ: مِنَ النَّفَقَةِ وَالظَّهْرِ وَالزَّادِ وَالْمَاءِ، ﴿مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾(٧) أَيْ: عَنِ الْحَقِّ وَيَشُكُّ فِي دِينِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَيَرْتَابُ، بِالَّذِي نَالَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالشِّدَّةِ فِي سَفَرِهِ وَغَزْوِهِ، ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ يَقُولُ: ثُمَّ رَزَقَهُمُ الْإِنَابَةَ إِلَى رَبِّهِمْ، وَالرُّجُوعَ إِلَى الثَّبَاتِ عَلَى دِينِهِ، ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .

(١) في أ: "رجلين".
(٢) زيادة من أ.
(٣) في ت: "ستقطع".
(٤) زيادة من ت، ك، أ، والطبري.
(٥) في ت، ك، أ: "فأهطلت".
(٦) تفسير الطبري (١٤/٥٤١) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (١٧٠٧) "موارد" والحاكم في المستدرك (١/١٥٩) من طريق حرملة ابن يحيى، ورواه البزار في مسنده برقم (١٨٤١) "كشف الأستار" من طريق أصبغ بن الفرج كلاهما عن ابن وهب به نحوه، وقال الحاكم: "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يخرجاه". قال المؤلف ابن كثير في السيرة (٤/١٦) : "إسناد جيد، ولم يخرجوه من هذا الوجه".
(٧) في أ: "يزيغ".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 18 فبراير 2024

من سورة التوبة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦٥_٦٦
من سورة التوبة 
﴿وَلَىِٕن سَأَلۡتَهُمۡ لَیَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلۡعَبُۚ قُلۡ أَبِٱللَّهِ وَءَایَـٰتِهِۦ وَرَسُولِهِۦ كُنتُمۡ تَسۡتَهۡزِءُونَ (٦٥) لَا تَعۡتَذِرُوا۟ قَدۡ كَفَرۡتُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡۚ إِن نَّعۡفُ عَن طَاۤىِٕفَةࣲ مِّنكُمۡ نُعَذِّبۡ طَاۤىِٕفَةَۢ بِأَنَّهُمۡ كَانُوا۟ مُجۡرِمِینَ (٦٦)﴾ [التوبة ٦٥-٦٦]

قَالَ أَبُو مَعْشَرٍ الْمَدِينِيُّ(١) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي وَغَيْرِهِ قَالُوا: قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: مَا أَرَى قُرّاءنا هَؤُلَاءِ إِلَّا أَرْغَبَنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبَنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنَنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ. فرُفع ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَقَدِ ارْتَحَلَ وَرَكِبَ نَاقَتَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فَقَالَ: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿مُجْرِمِينَ﴾ وَإِنَّ رِجْلَيْهِ لَتَنْسِفَانِ(٢) الْحِجَارَةَ وَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِنِسْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أسلم، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ في غزوة تبوك في مجلس(٣) مَا رَأَيْتُ مِثْلَ قُرائنا هَؤُلَاءِ، أرغبَ بُطُونًا، وَلَا أكذبَ أَلْسُنًا، وَلَا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ. فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ: كذبتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ. لَأُخْبِرَنَّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بحَقَب نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تَنكُبُه(٤) الْحِجَارَةُ(٥) وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ﴿أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ .وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا(٦)وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَديعة بْنُ ثَابِتٍ، أَخُو بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَرَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ يُقَالُ لَهُ: مُخَشّن(٧) بْنُ حُميّر يُشِيرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا؟ وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنين فِي الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مُخَشّن(٨) بْنُ حُمَيّر: وَاللَّهِ لوددتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وإما نَنْفَلتُ أَنْ يُنَزَّلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ -فِيمَا بَلَغَنِي -لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: "أَدْرِكِ الْقَوْمَ، فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا". فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ، فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَاقِفٌ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بحَقَبها: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، [فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ ](٩) فَقَالَ مُخَشّن(١٠) بْنُ حُمّير: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِيَ اسْمِي وَاسْمُ أَبِي. فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَشّن(١١) بْنُ حُمّير، فَتَسَمَّى(١٢) عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُقْتَلَ(١٣) شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ(١٤)وَقَالَ قَتَادَةُ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ ﷺ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَرَكْبٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ يَسِيرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالُوا: يَظُنُّ هَذَا أَنْ يَفْتَحَ قُصُورَ الرُّومِ وَحُصُونَهَا. هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى مَا قَالُوا، فَقَالَ: "عَليَّ بِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ". فَدَعَاهُمْ، فَقَالَ: "قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا". فَحَلَفُوا مَا كُنَّا إِلَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ.وَقَالَ عِكْرِمة فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَفَا عَنْهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنِّي أَسْمَعُ آيَةً أَنَا أعنَى بِهَا، تَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وتجيب مِنْهَا الْقُلُوبُ، اللَّهُمَّ، فَاجْعَلْ وَفَاتِي قَتْلًا فِي سَبِيلِكَ، لَا يَقُولُ أَحَدٌ: أَنَا غُسِّلْتُ، أَنَا كُفِّنْتُ، أَنَا دُفِنْتُ، قَالَ: فَأُصِيبَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا وَقَدْ وُجِدَ غَيْرُهُ(١٥)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ أَيْ: بِهَذَا الْمَقَالِ الَّذِي اسْتَهْزَأْتُمْ بِهِ ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾ أَيْ: لَا يُعْفى عَنْ جَمِيعِكُمْ، وَلَا بُدَّ مِنْ عَذَابِ بَعْضِكُمْ، ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ أَيْ: مُجْرِمِينَ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ الْفَاجِرَةِ الْخَاطِئَةِ.

(١) في أ: "المعدني".
(٢) في هـ: "ليسفعان"، وفي أ: "ليشفعان" والمثبت من الطبري.
(٣) في ت، أ: "مجلس يوما".
(٤) في ت، أ: "يركبه".
(٥) في ت: "بالحجارة".
(٦) رواه الطبري في تفسير (١٤/٣٣٣، ٣٣٤) .
(٧) في أ: "مخشي".
(٨) في أ: "مخشي".
(٩) زيادة من ت، أ، وسيرة ابن هشام.
(١٠) في أ: "مخشي".
(١١) في أ: "مخشي"
(١٢) في أ: "فسمى".
(١٣) في أ: "أن يقتله".
(١٤) السيرة النبوية لابن هشام (٢/٥٢٤) .
(١٥) في أ: "عبرة".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 13 فبراير 2024

من سورة التوبة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥٦_٥٧
من سورة التوبة 
﴿وَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمۡ لَمِنكُمۡ وَمَا هُم مِّنكُمۡ وَلَـٰكِنَّهُمۡ قَوۡمࣱ یَفۡرَقُونَ (٥٦) لَوۡ یَجِدُونَ مَلۡجَـًٔا أَوۡ مَغَـٰرَ ٰ⁠تٍ أَوۡ مُدَّخَلࣰا لَّوَلَّوۡا۟ إِلَیۡهِ وَهُمۡ یَجۡمَحُونَ (٥٧)﴾ [التوبة ٥٦-٥٧]

يُخْبِرُ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، عَنْ جَزَعِهِمْ وَفَزَعِهِمْ وَفَرَقِهِمْ وَهَلَعِهِمْ أَنَّهُمْ ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ﴾ يَمِينًا مُؤَكَّدَةً، ﴿وَمَا هُمْ مِنْكُمْ﴾ أَيْ: فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ﴿وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ﴾ أَيْ: فَهُوَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى الْحَلِفِ. ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً﴾ أَيْ: حِصْنًا يَتَحَصَّنُونَ بِهِ، وَحِرْزًا يَحْتَرِزُونَ بِهِ، ﴿أَوْ مَغَارَاتٍ﴾ وَهِيَ الَّتِي فِي الْجِبَالِ، ﴿أَوْ مُدَّخَلا﴾ وَهُوَ السَّرَب فِي الْأَرْضِ والنفَق. قَالَ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ ابنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: ﴿لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾ أَيْ: يُسْرِعُونَ فِي ذَهَابِهِمْ عَنْكُمْ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يُخَالِطُونَكُمْ كُرْهًا لَا مَحَبَّةً، وَوَدُّوا أَنَّهُمْ لَا يُخَالِطُونَكُمْ، وَلَكِنْ لِلضَّرُورَةِ أَحْكَامٌ؛ وَلِهَذَا لَا يَزَالُونَ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ وغَمٍّ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ لَا يَزَالُ فِي عِزٍّ وَنَصْرٍ وَرِفْعَةٍ؛ فَلِهَذَا كُلَّمَا سُرّ الْمُؤْمِنُونَ سَاءَهُمْ ذَلِكَ، فَهُمْ يَوَدُّونَ أَلَّا يُخَالِطُوا الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ﴾

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2023

من سورة الأنفال

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٦_٣٧
من سورة الأنفال 
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ یُحۡشَرُونَ (٣٦) لِیَمِیزَ ٱللَّهُ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ وَیَجۡعَلَ ٱلۡخَبِیثَ بَعۡضَهُۥ عَلَىٰ بَعۡضࣲ فَیَرۡكُمَهُۥ جَمِیعࣰا فَیَجۡعَلَهُۥ فِی جَهَنَّمَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡخَـٰسِرُونَ (٣٧)﴾ [الأنفال ٣٦-٣٧]

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّان، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، والحُصَيْن بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ بَدْرٍ، وَرَجَعَ فَلُّهم إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِعِيرِه، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ أُصِيبَ آبَاؤُهُمْ، وَأَبْنَاؤُهُمْ وَإِخْوَانُهُمْ بِبَدْرٍ، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَمَنْ كَانَتْ لَهُ فِي تِلْكَ(١) الْعِيرِ مِنْ قُرَيْشٍ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكم وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ، لَعَلَّنَا أَنْ نُدْرِكَ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أُصِيبَ مِنَّا! فَفَعَلُوا. قَالَ: فَفِيهِمْ -كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -أَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ [لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ] ﴾(٢) إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾(٣)وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، والحَكَم بْنِ عُتَيْبَةَ، وقَتَادَةَ، والسُّدِّي، وَابْنِ أبزَى: أَنَّهَا نَزَلَتْ(٤) فِي أَبِي سُفْيَانَ وَنَفَقَتِهِ الْأَمْوَالَ فِي أُحُد لِقِتَالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم.وقال الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَهْلِ بَدْرٍ.وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ، فَهِيَ عَامَّةٌ. وَإِنْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا خَاصًّا، فَقَدْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْكُفَّارَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنِ اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْحَقِّ، فَسَيَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ تَذْهَبُ أَمْوَالُهُمْ، ﴿ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً﴾ أَيْ: نَدَامَةً؛ حَيْثُ لَمْ تُجْدِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ وَظُهُورَ كَلِمَتِهِمْ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَنَاصِرٌ دِينَهُ، ومُعْلِن كَلِمَتَهُ، وَمُظْهِرٌ دِينَهُ عَلَى كُلِّ دِينٍ. فَهَذَا الْخِزْيُ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ، فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ، رَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ مَا يَسُوءُهُ، وَمَنْ قُتِل مِنْهُمْ أَوْ مَاتَ، فَإِلَى الخِزْي الْأَبَدِي وَالْعَذَابِ السَّرْمَدِيّ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ فَيَمِيزَ أَهْلَ السَّعَادَةِ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ(٥) وَقَالَ السُّدِّي: يَمِيزُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ. وَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾ [يُونُسَ:٢٨] ،وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ﴾ [الرُّومِ: ١٤] ،وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ [الرُّومِ٤٣] ،وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ﴾ [يس:٥٩] .وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّمْيِيزُ فِي الدُّنْيَا، بِمَا يَظْهَرُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَتَكُونُ "اللَّامُ" مُعَلِّلَةً لِمَا جَعَلَ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ مِنْ مَالٍ يُنْفِقُونَ فِي الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، أَيْ: إِنَّمَا أَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ؛ ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ﴾ أَيْ: مَنْ يُطِيعُهُ بِقِتَالِ أَعْدَائِهِ الْكَافِرِينَ، أَوْ يَعْصِيهِ بِالنُّكُولِ عَنْ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ:١٦٦، ١٦٧] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٧٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤٢] وَنَظِيرَتُهَا فِي بَرَاءَةَ أَيْضًا.فَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: إِنَّمَا ابْتَلَيْنَاكُمْ بِالْكُفَّارِ يُقَاتِلُونَكُمْ، وَأَقْدَرْنَاهُمْ عَلَى إِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ وَبَذْلِهَا فِي ذَلِكَ؛ لِيَتَمَيَّزَ(٦) الْخَبِيثُ مِنَ الطَّيِّبِ، فَيُجْعَلَ الْخَبِيثُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ أَيْ: يَجْمَعَهُ كُلَّهُ، وَهُوَ جَمْعُ الشَّيْءِ بَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي السَّحَابِ: ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا﴾ [النُّورِ:٤٣] أَيْ: مُتَرَاكِمًا مُتَرَاكِبًا، ﴿فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ أَيْ: هَؤُلَاءِ هُمُ الْخَاسِرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(١) في م، أ: "ذلك".
(٢) زيادة من م.
(٣) ورواه الطبري في تفسيره (١٣/٥٣٢) .
(٤) في م: "أنزلت".
(٥) في أ: "الشقاوة"
(٦) في د، م: "ليميز الله".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 16 أكتوبر 2023

من سورة الفيل

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٥ 
من سورة الفيل 
﴿أَلَمۡ تَرَ كَیۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَـٰبِ ٱلۡفِیلِ (١) أَلَمۡ یَجۡعَلۡ كَیۡدَهُمۡ فِی تَضۡلِیلࣲ (٢) وَأَرۡسَلَ عَلَیۡهِمۡ طَیۡرًا أَبَابِیلَ (٣) تَرۡمِیهِم بِحِجَارَةࣲ مِّن سِجِّیلࣲ (٤) فَجَعَلَهُمۡ كَعَصۡفࣲ مَّأۡكُولِۭ (٥)﴾ [الفيل ١-٥]

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْفِيلِوَهِيَ مَكِّيَّةٌ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *هَذِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ، فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنَ الْوُجُودِ، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ، وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدهم بِشَرِّ خَيْبَةٍ. وَكَانُوا قَوْمًا نَصَارَى، وَكَانَ دِينُهُمْ إِذْ ذَاكَ أَقْرَبَ حَالًا مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ. وَلَكِنْ كَانَ هَذَا مِنْ بَابِ الْإِرْهَاصِ وَالتَّوْطِئَةِ لِمَبْعَثِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وُلِدَ عَلَى أَشْهَرِ الْأَقْوَالِ، وَلِسَانُ حَالِ الْقَدَرِ يَقُولُ: لَمْ نَنْصُرْكُمْ -يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ-عَلَى الْحَبَشَةِ لِخَيْرِيَّتِكُمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ صِيَانَةً لِلْبَيْتِ الْعَتِيقِ الَّذِي سَنُشَرِّفُهُ وَنُعَظِّمُهُ وَنُوَقِّرُهُ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ مُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ(١) خَاتَمِ الْأَنْبِيَاءِ.وَهَذِهِ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ وَالتَّقْرِيبِ، قَدْ تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ(٢) أَنَّ ذَا نُوَاس -وَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ، وَكَانَ مُشْرِكًا -هُوَ الَّذِي قَتَلَ أَصْحَابَ الْأُخْدُودِ، وَكَانُوا نَصَارَى، وَكَانُوا قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا، فَلَمْ يُفْلِتْ مِنْهُمْ إِلَّا دَوس ذُو ثَعْلَبَانِ، فَذَهَبَ فَاسْتَغَاثَ بِقَيْصَرَ مَلَكِ الشَّامِ -وَكَانَ نَصْرَانِيًّا-فَكَتَبَ لَهُ إِلَى النَّجَاشِيِّ مَلَكِ الْحَبَشَةِ؛ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ، فَبَعَثَ مَعَهُ أَمِيرَيْنِ: أَرِيَاطَ وَأَبْرَهَةَ بْنَ الصَّبَاحِ أَبَا يَكْسُومَ(٣) فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، فَدَخَلُوا الْيَمَنَ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ، وَاسْتَلَبُوا الْمُلْكَ مِنْ حِمْيَرَ، وَهَلَكَ ذُو نُوَاسٍ غَرِيقًا فِي الْبَحْرِ. وَاسْتَقَلَّ الْحَبَشَةُ بِمُلْكِ الْيَمَنِ وَعَلَيْهِمْ هَذَانَ الْأَمِيرَانِ: أَرِيَاطُ وَأَبْرَهَةُ، فَاخْتَلَفَا فِي أَمْرِهِمَا وَتَصَاوَلَا وَتَقَاتَلَا وَتَصَافَّا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: إِنَّهُ لَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى اصْطِدَامِ الْجَيْشَيْنِ بَيْنَنَا، وَلَكِنْ ابْرُزْ إِلَيَّ وَأَبْرُزُ إِلَيْكَ، فَأَيُّنَا قَتَلَ الْآخَرَ، اسْتَقَلَّ بَعْدَهُ بِالْمُلْكِ. فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ فَتَبَارَزَا، وخَلَفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَنَاةٌ، فَحَمَلَ أَرِيَاطُ عَلَى أَبَرْهَةَ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ، فَشَرَمَ أَنْفَهُ وَفَمَهُ وَشَقَّ وَجْهَهُ، وَحَمَلَ عَتَوْدَة مَوْلَى أَبَرْهَةَ عَلَى أَرِيَاطَ فَقَتَلَهُ، وَرَجَعَ أَبَرْهَةُ جَرِيحًا، فَدَاوَى جُرْحَهُ فَبَرأ، وَاسْتَقَلَّ بِتَدْبِيرِ جَيْشِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ. فَكَتَبَ(٤) إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ يَلُومُهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَيَتَوَعَّدُهُ وَيَحْلِفُ لَيَطَأَنَّ بِلَادَهُ وَيَجِزَّنَّ نَاصِيَتَهُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبَرْهَةُ يَتَرَقَّقُ لَهُ وَيُصَانِعُهُ، وَبَعَثَ مَعَ رَسُولِهِ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ، وَبِجِرَابٍ فِيهَا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ، وَجَزَّ نَاصِيَتَهُ فَأَرْسَلَهَا مَعَهُ، وَيَقُولُ فِي كِتَابِهِ: لِيَطَأَ الْمَلِكُ عَلَى هَذَا الْجِرَابِ فَيَبِرُّ قَسَمَهُ، وَهَذِهِ نَاصِيَتِي قَدْ بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ. فَلَمَّا وَصَلَ ذَلِكَ إِلَيْهِ أَعْجَبَهُ مِنْهُ، وَرَضِيَ عَنْهُ، وَأَقَرَّهُ عَلَى عَمَلِهِ. وَأَرْسَلَ أَبَرْهَةُ يَقُولُ لِلنَّجَاشِيِّ: إِنِّي سَأَبْنِي لَكَ كَنِيسَةً بِأَرْضِ الْيَمَنِ لَمْ يُبْنَ قَبْلَهَا مِثْلُهَا. فَشَرَعَ فِي بِنَاءِ كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ، رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ، عَالِيَةَ الْفِنَاءِ، مُزَخْرَفَةَ الْأَرْجَاءِ. سَمَّتْهَا الْعَرَبُ القُلَّيس؛ لِارْتِفَاعِهَا؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا تَكَادُ تَسْقُطُ قُلُنْسُوَتُهُ عَنْ رَأْسِهِ مِنَ ارْتِفَاعِ بِنَائِهَا. وَعَزَمَ أَبَرْهَةُ الأشرمُ عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يُحَج إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مَمْلَكَتِهِ، فَكَرِهَتِ الْعَرَبُ الْعَدْنَانِيَّةُ وَالْقَحْطَانِيَّةُ ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى قَصَدَهَا بَعْضُهُمْ، وَتَوَصَّلَ إِلَى أَنْ دَخْلَهَا لَيْلًا. فَأَحْدَثَ فِيهَا وَكَرَّ رَاجِعًا. فَلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الْحَدَثَ، رَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ أَبَرْهَةَ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمُ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أَبَرْهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ، وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حَجَرًا.وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلُوهَا فَأَجَّجُوا فِيهَا نَارًا، وَكَانَ يَوْمًا فِيهِ هَوَاءٌ شَدِيدٌ فَأَحْرَقَتْهُ، وَسَقَطَتْ إِلَى الْأَرْضِ.فَتَأَهَّبَ أَبَرْهَةُ لِذَلِكَ، وَصَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمرم؛ لِئَلَّا يَصُدَّهُ أَحَدٌ عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ فِيلًا عَظِيمًا كَبِيرَ الْجُثَّةِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يُقَالُ لَهُ: مَحْمُودٌ، وَكَانَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ مَلِكُ الْحَبَشَةِ لِذَلِكَ. وَيُقَالُ: كَانَ مَعَهُ أَيْضًا ثَمَانِيَةُ أَفْيَالٍ. وَقِيلَ: اثْنَا عَشَرَ فِيلًا. وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. يَعْنِي لِيَهْدِمَ بِهِ الْكَعْبَةَ، بِأَنْ يَجْعَلَ السَّلَاسِلَ فِي الْأَرْكَانِ، وَتُوضَعَ فِي عُنُق الْفِيلِ، ثُمَّ يُزْجَرَ لِيُلْقِيَ الْحَائِطَ جُمْلَةً وَاحِدَةً. فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِمَسِيرِهِ أَعْظَمُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَأَوْا أَنَّ حَقًا عَلَيْهِمُ الْمُحَاجَبَةُ(٥) دُونَ الْبَيْتِ، وَرَد مَنْ أَرَادَهُ بِكَيْدٍ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ [كَانَ](٦) مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ، يُقَالُ لَهُ "ذُو نَفْر" فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ، وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَخَرَابِهِ. فَأَجَابُوهُ وَقَاتَلُوا أَبَرْهَةَ، فَهَزَمَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ كَرَامَةِ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمِهِ، وَأُسِرَ "ذُو نُفْر" فَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ. ثُمَّ مَضَى لِوَجْهِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمٍ، عَرَض لَهُ نُفَيل بْنُ حَبيب الخَشْعمي فِي قَوْمِهِ: شَهْرَانُ وَنَاهِسُ، فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ أَبَرْهَةُ، وَأُسِرَ نُفَيل بْنُ حَبِيبٍ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ لِيَدُلَّهُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ. فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ، خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا ثَقِيفٌ وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ، الَّذِي عِنْدَهُمْ، الَّذِي يُسَمُّونَهُ اللَّاتَ. فَأَكْرَمَهُمْ وَبَعَثُوا مَعَهُ "أَبَا رغَال" دَلِيلًا. فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى المُغَمْس -وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ-نَزَلَ بِهِ وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْح أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، فَأَخَذُوهُ. وَكَانَ فِي السَّرْحِ(٧) مِائَتَا بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَ الَّذِي أَغَارَ عَلَى السَّرْحِ بِأَمْرِ أَبَرْهَةَ أَمِيرِ الْمُقَدِّمَةِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: "الْأَسْوَدُ بْنُ مَفْصُودٍ" فَهَجَاهُ بَعْضُ الْعَرَبِ -فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ(٨) -وَبَعَثَ أَبَرْهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى مَكَّةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِأَشْرَفِ قُرَيْشٍ، وَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّ الْمَلِكَ لَمْ يَجِئْ لِقِتَالِكُمْ إِلَّا أَنْ تَصُدوه عَنِ الْبَيْتِ. فَجَاءَ حُنَاطَةُ فَدُل عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَبَلَّغَهُ عَنْ أَبَرْهَةَ مَا قَالَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: وَاللَّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ، وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ، هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ، وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ، وَإِنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَوَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْع عَنْهُ. فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ: فَاذْهَبْ مَعِي إِلَيْهِ. فَذَهَبَ مَعَهُ، فَلَمَّا رَآهُ أَبَرْهَةُ أَجَلَّهُ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَمِيلًا حَسَنَ الْمَنْظَرِ، وَنَزَلَ أَبَرْهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ، وَجَلَسَ مَعَهُ عَلَى الْبِسَاطِ، وَقَالَ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: حَاجَتُكَ؟ فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: إِنَّ حَاجَتِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي. فَقَالَ أَبَرْهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ، ثُمَّ قَدْ زَهِدت فِيكَ حِينَ كَلَّمْتَنِي، أَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا لَكَ، وَتَتْرُكُ بَيْتًا هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكِ قَدْ جئتُ لِهَدْمِهِ، لَا تُكَلِّمُنِي فِيهِ؟! فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: إِنِّي أَنَا رَبُّ الْإِبِلِ، وَإِنَّ لِلْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ. قَالَ: مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي! قَالَ: أَنْتَ وَذَاكَ.وَيُقَالُ: إِنَّهُ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فَعَرَضُوا عَلَى أَبَرْهَةَ ثُلْثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ، وَرَدَّ أَبَرْهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِبِلَهُ، وَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى قُرَيْشٍ فَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ، وَالتَّحَصُّنِ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ. ثُمَّ قَامَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخْذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَسْتَنْصِرُونَهُ عَلَى أَبَرْهَةَ وَجُنْدِهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ:لاهُمَّ(٩) إنَّ المرء يمـ ... نَعُ رَحْلَه فامْنع حِلالَك ...لَا يغلبنَّ صَلِيبُهم ... ومحَالُهم غَدْوًا مِحَالك ...قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ حَلْقة الْبَابِ، ثُمَّ خَرَجُوا إِلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ(١٠) .وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدة، لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ(١١) يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ.فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَهَيَّأَ فِيلَهُ -وَكَانَ اسْمُهُ مَحْمُودًا-وَعَبَّأَ جَيْشَهُ، فَلَمَّا وَجَّهُوا الْفِيلَ نَحْوَ مَكَّةَ أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتَّى قَامَ إِلَى.جَنْبِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَقَالَ ابْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ، فَإِنَّكَ فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ". ثُمَّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ، فَبَرَكَ الْفِيلُ. وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشتد حَتَّى أُصْعِدَ فِي الْجَبَلِ. وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى. فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بالطْبرزين(١٢) وَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقه فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى؛ فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ. وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ.مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ، وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ، أَمْثَالُ الْحُمُّصِ وَالْعَدَسِ، لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ. وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ هَذَا. وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ وَعَرَبِ الْحِجَازِ، يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نُفَيْلٌ يقول: أينَ المَفَرُّ؟ والإلهُ الطَّالب(١٣) والأشرمُ المغلوبُ غَيْرُ الْغَالِبْ(١٤)قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ نُفَيل فِي ذَلِكَ أَيْضًا:أَلَا حُييت عَنا يَا رُدَينا ... نَعمْنا كُم مَعَ الأصبَاح عَينَا ...رُدَينةُ لَوْ رَأَيْتِ -وَلَا تَرَيْه ... لَدَى جَنْب الْمُحَصَّبِ -مَا رَأينَا ...إِذًا لَعَذَرتني وَحَمَدت أمْري ... وَلَم تَأْسَيْ عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا ...حَمِدتُ اللَّهَ إِذْ أبصَرتُ طَيْرًا ... وَخفْتُ حَجارة تُلقَى عَلَينا ...فَكُلّ الْقَوْمِ يَسألُ عَن نُفَيل ... كَأنَّ عليَ للحُبْشَان دَينَا! ...وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ بِأَسَانِيدِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا تَعْبَئُوا لِدُخُولِ الْحَرَمِ وَهَيَّئُوا الْفِيلَ، جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ [فِيهَا](١٥) فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَض وَصَاحَ. وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ، لِيَقْهَرَ الْفِيلَ عَلَى دُخُولِ الْحَرَمِ. وَطَالَ الْفَصْلُ فِي ذَلِكَ. هَذَا وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَشْرَافِ مَكَّةَ، مِنْهُمُ(١٦) الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَمَسْعُودُ [بْنُ عَمْرٍو](١٧) الثَّقَفِيُّ، عَلَى حِرَاءَ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا الْحَبَشَةُ يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا يَلْقُونَ مِنْ أَمْرِ الْفِيلِ، وَهُوَ الْعَجَبُ الْعُجَابُ. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ، إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، أَيْ قَطَعًا قِطَعًا صُفْرًا دُونَ الْحَمَامِ، وَأَرْجُلُهَا حُمْرٌ، وَمَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثُ أَحْجَارٍ، وَجَاءَتْ فَحَلَّقَتْ عَلَيْهِمْ، وَأَرْسَلَتْ تِلْكَ الْأَحْجَارَ عَلَيْهِمْ فَهَلَكُوا.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: جَاءُوا بِفِيلَيْنِ فَأَمَّا مَحْمُودٌ فَرَبض، وَأَمَّا الْآخَرُ فَشَجُع(١٨) فحُصِب.وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: كَانَ مَعَهُمْ فِيَلَةٌ، فَأَمَّا مَحْمُودٌ -وَهُوَ فِيلُ الْمَلِكِ-فَرَبَضَ، لِيَقْتَدِيَ بِهِ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ، وَكَانَ فِيهَا فِيلٌ تَشَجَّع فَحُصِبَ، فَهَرَبَتْ بَقِيَّةُ الْفِيَلَةِ.وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَار، وَغَيْرُهُ: لَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَهُ الْعَذَابُ فِي السَّاعَةِ الرَّاهِنَةِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ هَلَكَ سَرِيعًا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا وَهُمْ هَارِبُونَ، وَكَانَ أَبَرْهَةُ مِمَّنْ يَتَسَاقَطُ عُضْوًا عُضْوًا، حَتَّى مَاتَ بِبِلَادِ خَثْعَمٍ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَيَهْلَكُونَ عَلَى كُلِّ مَنْهَلٍ(١٩) وَأُصِيبَ أَبَرْهَةُ فِي جَسَدِهِ، وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أنْمُلة أنْمُلة، حَتَّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّائِرِ، فَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ(٢٠) قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ.وَذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: أَنَّ قُرَيْشًا أَصَابُوا مَالًا جَزِيلًا مِنْ أَسْلَابِهِمْ، وَمَا كَانَ مَعَهُمْ، وَأَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَصَابَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الذَّهَبِ مَا مَلَأَ حُفْرَةً.وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَة: أَنَّهُ حُدِّثَ(٢١) أَنَّ أَوَّلَ مَا رُؤِيَتِ الحَصبة والجُدري بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ مَا رُؤِيَ بِهِ مَرائر الشَّجَرِ الحَرْمل، وَالْحَنْظَلِ والعُشر، ذَلِكَ الْعَامُ(٢٢) .وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، مِنْ طَرِيقٍ جَيِّدٍ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا ﷺ كَانَ فِيمَا يَعُد بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نعْمتَه(٢٣) عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ، مَا رَدَّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ، لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدَّتِهِمْ، فَقَالَ: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ ﴿لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [سُورَةُ قُرَيْشٍ] أَيْ: لِئَلَّا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا، لِمَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ مِنَ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ.قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ، وَلَمْ تَتَكَلَّمُ الْعَرَبُ بِوَاحِدَةٍ. قَالَ: وَأَمَّا السِّجِّيلُ، فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النَّحْوِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ: الشَّدِيدُ الصُّلْبُ. قَالَ: وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيَّةِ، جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا هُوَ سَنْجُ وَجِلُّ يَعْنِي بِالسَّنْجِ: الْحَجَرَ، وَالْجِلِّ: الطِّينُ. يَقُولُ: الْحِجَارَةُ مِنْ هَذَيْنَ الْجِنْسَيْنِ: الْحَجَرِ وَالطِّينِ. قَالَ: والعصفُ: ورقُ الزَّرْعِ الَّذِي لَمْ يُقضب، وَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ(٢٤) .وَقَدْ قَالَ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ: عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ-: ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ قَالَ: الْفَرَقُ(٢٥) .وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ: أَبَابِيلُ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقَتَادَةُ: الْأَبَابِيلُ: الْكَثِيرَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَبَابِيلُ: شَتَّى مُتَتَابِعَةٌ مُجْتَمِعَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَبَابِيلُ: الْمُخْتَلِفَةُ، تَأْتِي مِنْ هَاهُنَا، وَمِنْ هَاهُنَا، أَتَتْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ.وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: سَمِعْتُ [النَّحْوِيِّينَ يَقُولُونَ: أُبُولُ مِثْلُ الْعُجُولِ. قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ](٢٦) بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ يَقُولُ: وَاحِدُ الْأَبَابِيلِ: إِبِّيلٍ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: [حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى](٢٧) حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنِي دَاوُدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ؛ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ هي: الأقاطيع، كالإبل المؤبلة.وَحَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ قَالَ: لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ، وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ.وَحَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ قَالَ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا خَرَجَتْ مِنَ الْبَحْرِ، لَهَا رُءُوسٌ كَرُءُوسِ السِّبَاعِ.وَحَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عبيد ابن عُمَيْرٍ: ﴿طَيْرًا أَبَابِيلَ﴾ قَالَ: هِيَ طَيْرٌ(٢٨) سُودٌ بَحْرِيَّةٌ، فِي مِنْقَارِهَا(٢٩) وَأَظَافِيرِهَا الْحِجَارَةُ.وَهَذِهِ أَسَانِيدُ صَحِيحَةٌ.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتْ طَيْرًا خُضْرًا لَهَا مَنَاقِيرُ صُفْرٌ، تَخْتَلِفُ عَلَيْهِمْ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ: كَانَتِ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ مِثْلَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا عَنْقَاءُ مُغْرب. رَوَاهُ عَنْهُمُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُهْلِكَ أَصْحَابَ الْفِيلِ، بَعَثَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أُنْشِئَتْ مِنَ الْبَحْرِ، أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ. كُلُّ طَيْرٍ مِنْهَا تَحْمِلُ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ مُجَزَّعَةٍ: حَجَرَيْنِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرًا فِي مِنْقَارِهِ. قَالَ: فَجَاءَتْ حَتَّى صُفَّتْ عَلَى رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ صَاحَتْ وَأَلْقَتْ مَا فِي أَرْجُلِهَا وَمَنَاقِيرِهَا، فَمَا يَقَعُ حَجَرٌ عَلَى رَأْسِ رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ، وَلَا يَقَعُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ إِلَّا وَخَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ. وَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا شَدِيدَةً فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَأُهْلِكُوا جَمِيعًا.وَقَالَ السُّدِّي، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾ قَالَ: طِينٌ فِي حِجَارَةٍ: "سَنْكُ -وَكِلُّ" وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي التِّبْنَ الَّذِي تسميه العامة: هبور. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ سَعِيدٍ: وَرَقُ الْحِنْطَةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا: الْعَصْفُ: التِّبْنُ. وَالْمَأْكُولُ: الْقَصِيلُ يُجَزُّ لِلدَّوَابِّ. وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصْفُ: الْقِشْرَةُ الَّتِي عَلَى الْحَبَّةِ، كَالْغُلَافِ عَلَى الْحِنْطَةِ.وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَصْفُ: وَرَقُ الزَّرْعِ، وَوَرَقُ الْبَقْلِ، إِذَا أَكَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فَرَاثَتْهُ، فَصَارَ دَرِينًا(٣٠) .وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِكَيْدِهِمْ وَغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا، وَأَهْلَكَ عَامَّتَهُمْ، وَلَمْ يَرْجِعْ مِنْهُمْ بِخَيْرٍ إِلَّا وَهُوَ جَرِيحٌ، كَمَا جَرَى لِمَلِكِهِمْ أَبْرَهَةَ، فَإِنَّهُ انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ حِينَ وَصَلَ إِلَى بَلَدِهِ صَنْعَاءَ، وَأَخْبَرَهُمْ بِهَا(٣١) جَرَى لَهُمْ، ثُمَّ مات. فملك بعده ابنه يَكْسُومُ، ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبَرْهَةَ(٣٢) ثُمَّ خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَن الْحِمْيَرِيُّ إِلَى كِسْرَى فَاسْتَغَاثَهُ(٣٣) عَلَى الْحَبَشَةِ، فَأَنْفَذَ مَعَهُ مِنْ جُيُوشِهِ فَقَاتَلُوا مَعَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ مُلْكَهُمْ، وَمَا كَانَ فِي آبَائِهِمْ مِنَ الْمُلْكِ، وَجَاءَتْهُ وُفُودُ الْعَرَبِ لِلتَّهْنِئَةِ.وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكَّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَين، يَسْتَطْعِمَانِ(٣٤) وَرَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَا مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النَّاسَ، عِنْدَ إِسَافٍ وَنَائِلَةَ، حَيْثُ يَذْبَحُ الْمُشْرِكُونَ ذَبَائِحَهُمْ.قُلْتُ: كَانَ اسْمُ قَائِدِ الْفِيلِ: أُنَيْسًا.وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي كِتَابِ "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" مِنْ طَرِيقِ ابْنُ وَهْبٍ، عَنِ ابْنِ لَهِيعة عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْفِيلِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ أَبَرْهَةَ قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّمَا بَعَثَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: شَمَرُ بْنُ مَفْصُودٍ، وَكَانَ الْجَيْشُ عِشْرِينَ أَلْفًا، وَذَكَرَ أَنَّ الطَّيْرَ طَرَقَتْهُمْ لَيْلًا فَأَصْبَحُوا صَرْعَى.وَهَذَا السِّيَاقُ غَرِيبٌ جِدًّا، وَإِنْ كَانَ أَبُو نُعَيْمٍ قَدْ قَوَّاهُ وَرَجَّحَهُ عَلَى غَيْرِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ الْحَبَشِيَّ قَدِمَ مَكَّةَ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ السِّيَاقَاتُ وَالْأَشْعَارُ. وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ لَهِيعة، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَة: أَنَّ أَبَرْهَةَ بَعْثَ الْأَسْوَدَ بْنَ مَفْصُودٍ عَلَى كَتِيبَةٍ مَعَهُمُ الْفِيلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ قُدُومَ أَبَرْهَةَ نَفْسِهِ، وَالصَّحِيحُ قُدُومُهُ، وَلَعَلَّ ابن مقصود كَانَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْجَيْشِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ شَيْئًا مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ، فِيمَا كَانَ مِنْ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ، فَمِنْ ذَلِكَ شِعْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزَّبْعَرِيِّ:تَنَكَّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا ... كانتْ قَدِيمًا لَا يُرَام حَريمها ...لَمْ تُخلَق الشِّعرَى لَيَالِيَ حُرّمتْ ... إِذْ لَا عزيزَ مِنَ الْأَنَامِ يَرُومها ...سَائِلْ أميرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأى؟ ... فلسوفَ يُنبي الْجَاهِلِينَ عَلَيْمُهَا ...ستونَ أَلْفًا لَمْ يَؤُوبُوا أرَضهم ... بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الِإْيَابِ سَقِيمُهَا ...كانتْ بِهَا عادٌ وجُرْهُم قَبْلَهَمُ ... واللهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقيمها(٣٥)وَقَالَ أَبُو قَيْسِ(٣٦) بْنُ الْأَسْلَتِ الأنصاري المري:(٣٧) وَمِنْ صُنْعه يَوْمَ فِيلِ الحُبُو ... شِ، إِذْ كُلُّ مَا بَعَثُوه رَزَمْ ...مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرَموا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ ...وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إِذَا يَمَّمُوه قَفَاه كُليم ...فَسوَّل(٣٨) أَدْبَرَ أَدْرَاجِهِ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثمَّ ...فَأَرْسَلَ مِنْ فَوْقِهِمْ حَاصِبًا ... يَلُفهُم مثْلَ لَفُ القزُم ...تَحُثُّ عَلَى الصَّبر أحبارُهم ... وَقَد ثأجُوا كَثؤاج الغَنَم ...وَقَالَ أَبُو الصَّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثَّقَفِيُّ، وَيُرْوَى لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ:إِنَّ آيَاتِ رَبِّنا بَاقياتٌ ... مَا يُمَاري فيهنَّ إِلَّا الكفورُ ...خُلِقَ الليلُ والنهارُ فَكُلّ ... مستبينٌ حسابُه مَقْدُورُ ...ثمَّ يَجْلُو النَّهارَ ربٌ رحيمٌ ... بِمَهَاةٍ شُعَاعها منشورُ ...حُبِسَ الفيلُ بالمُغمَّس حَتَّى ... صَارَ يَحْبُو، كَأَنَّهُ معقورُ ...لَازِمًا حلقُه الجرانَ كَمَا قُطِّر ... مِنْ ظَهْر كَبْكَب مَحدُورُ ...حَوله مِنْ مُلُوك كِندةَ أبطالُ ... ملاويثُ فِي الحُرُوب صُقُورُ ...خَلَّفُوه ثُمَّ ابذَعرّوا جَميعًا، ... كُلَّهم عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ ...كُلّ دِينٍ يَومَ القِيَامة عندَ الـ ... له إِلَّا دِينُ الحَنِيفَة بورُ ...وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَفْسِيرِ "سُورَةِ الْفَتْحِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا أَطَلَّ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى الثَّنِيَّةِ الَّتِي تَهْبِطُ بِهِ عَلَى قُرَيْشٍ، بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَزَجَرُوهَا فألحَّت، فَقَالُوا: خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، أَيْ: حَرَنت. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ" ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَسْأَلُونِي الْيَوْمَ خُطَّةً يُعَظمون فِيهَا حُرُمات اللَّهِ، إِلَّا أَجَبْتُهُمْ إِلَيْهَا". ثُمَّ زَجَرَهَا فَقَامَتْ. وَالْحَدِيثُ مِنْ أَفْرَادِ الْبُخَارِيِّ(٣٩) .وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: "إِنَّ اللَّهَ حَبْسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ، وسَلَّط عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ قَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليوم كحرمتها بالأمس، ألا فليبلغ الشاهد الغائب"(٤٠) . آخر تفسير سورة "الفيل".

(١) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٢) عند تفسير الآية: ٤ من سورة البروج.
(٣) في أ: "أبا بكشوم".
(٤) في أ: "فأرسل".
(٥) في أ: "المحاجة".
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في أ: "في السراح".
(٨) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٥١) .
(٩) في أ: "اللهم".
(١٠) انظر: السيرة النبوية لبن هشام (١/٥٢) .
(١١) في م، أ: "بعض الحبشة".
(١٢) في أ: "بالطورين من الآلات".
(١٣) في م: "الغالب".
(١٤) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٣) وتفسير الطبري (٣٠/١٩٦) .
(١٥) زيادة من م، أ.
(١٦) في م، أ: "فيهم".
(١٧) زيادة من م، أ.
(١٨) في أ: "فخشع".
(١٩) في م: "كل سهل".
(٢٠) في أ: "من".
(٢١) في أ: "أنه حدثه".
(٢٢) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٤) .
(٢٣) في أ: "من بعثه".
(٢٤) السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٥) .
(٢٥) في أ: "الغرق".
(٢٦) زيادة من تفسير الطبري (٣٠/١٩١) .
(٢٧) زيادة من تفسير الطبري (٣٠/١٩١) .
(٢٨) في م: "هي طيور".
(٢٩) في أ: "في مناقيرها".
(٣٠) في م: "دوثا".
(٣١) في م: "بما".
(٣٢) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٦١، ٦٢) .
(٣٣) في م: "فاستعانه".
(٣٤) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٧) .
(٣٥) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٨) .
(٣٦) في م: "أبو القيس".
(٣٧) في م، أ: "المدني".
(٣٨) في م، أ: "فولى و".
(٣٩) تقدم تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية: ٢٦ من سورة الفتح، وهو في صحيح البخاري برقم (٢٧٣١،٢٧٣٢) .
(٤٠) صحيح البخاري برقم (١١٢) وصحيح مسلم برقم (١٣٥٥) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 28 سبتمبر 2023

من سورة الأعراف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٦٠_١٦٢
من سورة الأعراف 
﴿وَقَطَّعۡنَـٰهُمُ ٱثۡنَتَیۡ عَشۡرَةَ أَسۡبَاطًا أُمَمࣰاۚ وَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ إِذِ ٱسۡتَسۡقَىٰهُ قَوۡمُهُۥۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡحَجَرَۖ فَٱنۢبَجَسَتۡ مِنۡهُ ٱثۡنَتَا عَشۡرَةَ عَیۡنࣰاۖ قَدۡ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسࣲ مَّشۡرَبَهُمۡۚ وَظَلَّلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡغَمَـٰمَ وَأَنزَلۡنَا عَلَیۡهِمُ ٱلۡمَنَّ وَٱلسَّلۡوَىٰۖ كُلُوا۟ مِن طَیِّبَـٰتِ مَا رَزَقۡنَـٰكُمۡۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ (١٦٠) وَإِذۡ قِیلَ لَهُمُ ٱسۡكُنُوا۟ هَـٰذِهِ ٱلۡقَرۡیَةَ وَكُلُوا۟ مِنۡهَا حَیۡثُ شِئۡتُمۡ وَقُولُوا۟ حِطَّةࣱ وَٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡبَابَ سُجَّدࣰا نَّغۡفِرۡ لَكُمۡ خَطِیۤـَٔـٰتِكُمۡۚ سَنَزِیدُ ٱلۡمُحۡسِنِینَ (١٦١) فَبَدَّلَ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنۡهُمۡ قَوۡلًا غَیۡرَ ٱلَّذِی قِیلَ لَهُمۡ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَیۡهِمۡ رِجۡزࣰا مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ بِمَا كَانُوا۟ یَظۡلِمُونَ (١٦٢)﴾ [الأعراف ١٦٠-١٦٢]

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ﴾ أَيْ: فَرَّقْنَاهُمْ، يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، ﴿اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا﴾قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّمَا قَالَ: "اثْنَتَيْ عَشْرَةَ"، وَالسِّبْطُ مُذَكَّرٌ لِأَنَّهُ قَالَ: "أُمَمًا" فَرَجَعَ التَّأْنِيثُ إِلَى الْأُمَمِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُمَمًا، وَإِنَّمَا قَالَ: "أَسْبَاطًا أُمَمًا"، بِالْجَمْعِ وَمَا فَوْقَ الْعَشَرَةِ لَا يُفَسَّرُ بِالْجَمْعِ، فَلَا يُقَالُ: أَتَانِي اثْنَا عَشَرَ رِجَالًا لِأَنَّ الْأَسْبَاطَ فِي الْحَقِيقَةِ نَعْتُ الْمُفَسِّرِ الْمَحْذُوفِ وَهُوَ الْفِرْقَةُ، أَيْ: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ فِرْقَةً أُمَمًا.وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَقَطَّعْنَاهُمْ أَسْبَاطًا أُمَمًا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ، وَالْأَسْبَاطُ الْقَبَائِلُ وَاحِدُهَا سِبْطٌ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ﴾ فِي التِّيهِ، ﴿أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ﴾ انْفَجَرَتْ. وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ: عَرِقَتْ وَهُوَ الِانْبِجَاسُ، ثُمَّ انْفَجَرَتْ، ﴿مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا﴾ لِكُلِّ سِبْطٍ عَيْنٌ ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ﴾ كُلُّ سِبْطٍ، ﴿مَشْرَبَهُمْ﴾ وَكُلُّ سِبْطٍ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ﴾ فِي التِّيهِ تَقِيهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ، ﴿وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾﴿وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ﴾ قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَابْنُ عامر ويعقوب: "نغفر" بِالتَّاءِ وَضَمِّهَا وَفَتْحِ الْفَاءِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِ الْفَاءِ، ﴿خَطِيئَاتِكُمْ﴾ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "خَطِيئَتَكُمْ" عَلَى التَّوْحِيدِ وَرَفْعِ التَّاءِ، [وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "خَطَايَاكُمْ"، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَيَعْقُوبُ: "خَطِيئَاتِكُمْ" بِالْجَمْعِ وَرَفْعِ التَّاءِ](١) . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَمْعِ وَكَسْرِ التَّاءِ ﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا﴾ عَذَابًا ﴿مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ﴾

(١) ما بين القوسين ساقط من "ب".

(تفسير البغوي — البغوي (٥١٦ هـ))

الأحد، 24 سبتمبر 2023

من سورة العلق

تفسير اية رقم ٦_١٩
من سورة العلق 
﴿كَلَّاۤ إِنَّ ٱلۡإِنسَـٰنَ لَیَطۡغَىٰۤ (٦) أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰۤ (٧) إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلرُّجۡعَىٰۤ (٨) أَرَءَیۡتَ ٱلَّذِی یَنۡهَىٰ (٩) عَبۡدًا إِذَا صَلَّىٰۤ (١٠) أَرَءَیۡتَ إِن كَانَ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۤ (١١) أَوۡ أَمَرَ بِٱلتَّقۡوَىٰۤ (١٢) أَرَءَیۡتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰۤ (١٣) أَلَمۡ یَعۡلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ یَرَىٰ (١٤) كَلَّا لَىِٕن لَّمۡ یَنتَهِ لَنَسۡفَعَۢا بِٱلنَّاصِیَةِ (١٥) نَاصِیَةࣲ كَـٰذِبَةٍ خَاطِئَةࣲ (١٦) فَلۡیَدۡعُ نَادِیَهُۥ (١٧) سَنَدۡعُ ٱلزَّبَانِیَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡ وَٱقۡتَرِب ۩ (١٩)﴾ [العلق ٦-١٩]

يُخْبِرُ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ ذُو فَرَحٍ وَأَشَرٍ وَبَطَرٍ وَطُغْيَانٍ، إِذَا رَأَى نَفْسَهُ قَدِ اسْتَغْنَى وَكَثُرَ مَالُهُ. ثُمَّ تَهدده وَتَوَعَّدَهُ وَوَعَظَهُ فَقَالَ: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ أَيْ: إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ، وَسَيُحَاسِبُكَ عَلَى مَالِكِ: مِنْ أَيْنَ جَمَعْتَهُ؟ وَفِيمَ صَرَفْتَهُ؟قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيس، عَنْ عَوْنٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَنهومان لَا يَشْبَعَانِ، صَاحِبُ العلم وصاحب الدنيا، ولا يستويان، فَأَمَّا صَاحِبُ الْعِلْمِ فَيَزْدَادُ رِضَا الرَّحْمَنِ، وَأَمَّا صَاحِبُ الدُّنْيَا فَيَتَمَادَى فِي الطُّغْيَانِ. قَالَ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: ﴿إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ وَقَالَ لِلْآخَرِ: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فَاطِرٍ: ٢٨] .وَقَدْ رُوي هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: "مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ، وَطَالِبُ دُنْيَا"(١) .ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى﴾ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ، لَعَنَهُ اللَّهُ، تَوَعَّدَ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ الْبَيْتِ، فَوَعَظَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أَوَّلًا فَقَالَ: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ أَيْ: فَمَا ظَنُّكَ إِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي تَنْهَاهُ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمَةِ فِي فِعْلِهِ، أَوْ ﴿أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ بِقَوْلِهِ، وَأَنْتَ تَزْجُرُهُ وَتَتَوَعَّدُهُ عَلَى صِلَاتِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ أَيْ: أَمَا عَلِمَ هَذَا النَّاهِي لِهَذَا الْمُهْتَدِي أَنَّ اللَّهَ يَرَاهُ وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى فِعْلِهِ أَتَمَّ الْجَزَاءِ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُتَوَعِّدًا وَمُتَهَدِّدًا: ﴿كَلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ﴾ أَيْ: لَئِنْ لَمْ يَرْجِعْ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الشِّقَاقِ وَالْعِنَادِ ﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ﴾ أَيْ: لنَسمَنَّها سَوَادًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.ثُمَّ قَالَ: ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ يَعْنِي: نَاصِيَةَ أَبِي جَهْلٍ كَاذِبَةً فِي مَقَالِهَا خَاطِئَةً فِي فعَالها.﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ أَيْ: قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ، أَيْ: لِيَدَعُهُمْ يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ، حَتَّى يَعْلَمَ مَنْ يغلبُ: أحزبُنا أَوْ حِزْبُهُ.قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَري، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ مُحَمَّدًا يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَأَطَأَنَّ عَلَى عُنُقه. فبَلغَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: "لَئِنْ فَعَلَهُ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ". ثُمَّ قَالَ: تَابَعَهُ عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ(٢) .وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ(٣) وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عَدِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، بِهِ(٤) .وَرَوَى أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ(٥) وَابْنُ جَرِيرٍ -وَهَذَا لَفْظُهُ-من طريق داود بن أبي هند، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ فَمَرَّ بِهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَلَمْ أَنْهَكَ عَنْ هَذَا؟ -وَتَوعَّده-فَأَغْلَظَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وانتهره، فقال: يا محمد، بِأَيِّ شَيْءٍ تُهَدِّدُنِي؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَكْثَرُ هَذَا الْوَادِي نَادِيًا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ مِنْ سَاعَتِهِ(٦) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَيْدٍ أَبُو يَزِيدَ، حَدَّثَنَا فُرَات، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ يُصَلِّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَآتِيَنَّهُ حَتَّى أَطَأَ عَلَى عُنُقِهِ. قَالَ: فَقَالَ: "لَوْ فَعَلَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عِيَانًا، وَلَوْ أَنَّ الْيَهُودَ تَمَنَّوا الْمَوْتَ لَمَاتُوا وَرَأَوْا مَقَاعِدَهُمْ مِنَ النَّارِ، وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهلون رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَرَجَعُوا لَا يَجِدُونَ مَالًا وَلَا أَهْلًا"(٧) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: لَئِنْ عَادَ مُحَمَّدٌ يُصَلِّي عِنْدَ الْمَقَامِ لَأَقْتُلَنَّهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ] ﴾(٨) حَتَّى بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ فَجَاءَ النَّبِيُّ ﷺ فَصَلَّى(٩) فَقِيلَ: مَا يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: قَدِ اسْوَدَّ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنَ الْكَتَائِبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لَوْ تَحَرَّكَ لَأَخَذَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ(١٠) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يعفِّر مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يُصَلِّي كَذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ(١١) ولأعفِّرن وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ يُصَلي لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجأهم مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكِصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ، قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدقا مِنْ نَارٍ وهَولا وَأَجْنِحَةً. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا". قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ -لَا أَدْرِي فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَمْ لَا-: ﴿كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، بِهِ(١٢) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿كَلا لَا تُطِعْهُ﴾ يَعْنِي: يَا مُحَمَّدُ، لَا تُطِعْهُ فِيمَا يَنْهَاكَ عَنْهُ مِنَ الْمُدَاوَمَةِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَكَثْرَتِهَا، وصلِّ حَيْثُ شِئْتَ وَلَا تُبَالِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ حَافِظُكَ وَنَاصِرُكَ، وَهُوَ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ -عِنْدَ مُسْلِمٍ-مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ، عن عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ سُمَيّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(١٣) .وَتَقَدَّمَ أَيْضًا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَسْجُدُ فِي: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ وَ ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾آخِرُ تَفْسِيرِ سورة "اقرأ"(١٤) .

(١) رواه الحاكم في المستدرك (١/٩٢) من طريق قتادة، عن أنس به مرفوعا، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١٠/٢٢٣) من طريق زيد بن وهب، عن ابن مسعود به مرفوعا، وفي إسناده ضعيف.
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٩٥٨) .
(٣) سنن الترمذي برقم (٣٣٤٨) وسنن النسائي برقم (١١٦٨٥) .
(٤) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥) .
(٥) في م، أ: "والترمذي والنسائي".
(٦) المسند (١/٣٢٩) وسنن الترمذي برقم (٣٣٤٩) وتفسير الطبري (٣٠/١٦٤) .
(٧) المسند (١/٢٤٨) .
(٨) زيادة من أ.
(٩) في أ: "يصلى".
(١٠) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥) .
(١١) في م: "على عنقه".
(١٢) تفسير الطبري (٣٠/١٦٥) والمسند (٢/٣٧٠) وصحيح مسلم برقم (٢٧٩٧) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٨٣) .
(١٣) صحيح مسلم برقم (٤٨٢) .
(١٤) في م، أ: "آخر تفسيرها".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))