الأربعاء، 28 سبتمبر 2022

من سورة ال عمران

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٤_١٠٩
من سورة ال عمران 
﴿وَلۡتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةࣱ یَدۡعُونَ إِلَى ٱلۡخَیۡرِ وَیَأۡمُرُونَ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَیَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلۡمُنكَرِۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ (١٠٤) وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ تَفَرَّقُوا۟ وَٱخۡتَلَفُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ (١٠٥) یَوۡمَ تَبۡیَضُّ وُجُوهࣱ وَتَسۡوَدُّ وُجُوهࣱۚ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ٱسۡوَدَّتۡ وُجُوهُهُمۡ أَكَفَرۡتُم بَعۡدَ إِیمَـٰنِكُمۡ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا ٱلَّذِینَ ٱبۡیَضَّتۡ وُجُوهُهُمۡ فَفِی رَحۡمَةِ ٱللَّهِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ (١٠٧) تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَیۡكَ بِٱلۡحَقِّۗ وَمَا ٱللَّهُ یُرِیدُ ظُلۡمࣰا لِّلۡعَـٰلَمِینَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ (١٠٩)﴾ [آل عمران ١٠٤-١٠٩]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ﴾ أَيْ: مُنْتَصِبَةٌ لِلْقِيَامِ بِأَمْرِ اللَّهِ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ خَاصَّةُ الصَّحَابَةِ وَخَاصَّةُ الرُّواة، يَعْنِي: الْمُجَاهِدِينَ وَالْعُلَمَاءَ.وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ ثُمَّ قَالَ: "الْخَيْرُ اتِّبَاعِ القُرآنِ وَسُنَّتِي" رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ.وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَكُونَ فرْقَة مِنَ الأمَّة مُتَصَدِّيَةٌ لِهَذَا الشَّأْنِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ بِحَسْبِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَده، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أضْعَفُ الإيمَانِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ"(١) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرو بْنُ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَشْهَلِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، أَنَّ النَّبِيَّ(٢) ﷺ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ".وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَمْرو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، بِهِ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ(٣) وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مَعَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ كَمَا سَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي أَمَاكِنِهَا.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ [وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ](٤) ﴾ يَنْهَى هَذِهِ الْأُمَّةَ أَنْ تَكُونَ كَالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِي تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ، وَتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَعَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا صَفْوان، حَدَّثَنِي أزْهَر بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْهَوْزَنِي(٥) عن أَبِي عَامِرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ(٦) قَالَ: حَجَجْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَامَ حِينَ صَلَّى [صَلَاةَ](٧) الظُّهْرِ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إنَّ أهْلَ الْكَتَابَيْنِ افْتَرَقُوا فِي دِينِهِمْ عَلَى ثنتيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإنَّ هذِهِ الأمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً -يَعْنِي الْأَهْوَاءَ-كُلُّهَا فِي النَّار إِلَّا وَاحِدَةٌ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ، وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارى بِهِمْ تِلْكَ الأهْواء، كَمَا يَتَجَارى الكَلبُ بصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ. واللهِ -يَا مَعْشَر العَربِ-لَئِنْ لَمْ تَقُومُوا بِمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّكُمْ ﷺ لَغَيْرُكم(٨) مِن النَّاسِ أحْرَى أَلَّا يَقُومَ بِهِ".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، كِلَاهُمَا عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ -وَاسْمُهُ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ-بِهِ، وَقَدْ رُوي هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُقٍ(٩) .
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ تَبْيَضُّ وُجُوهُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ أَهْلِ البِدْعَة وَالْفُرْقَةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا(١٠) .﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ: ﴿فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ﴾ وَهَذَا الْوَصْفُ يَعُمّ كُلَّ كَافِرٍ.﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ يَعْنِي: الْجَنَّةَ، مَاكِثُونَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حوَلا. وَقَدْ قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ رَبِيع -وَهُوَ ابْنُ صَبِيح(١١) -وحَمَّاد بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي غَالِبٍ قَالَ: رَأَى أَبُو أُمَامَةَ رُءُوسًا مَنْصُوبَةً عَلَى دَرَج دِمَشْقَ، فَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: كِلَابُ النَّارِ، شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، خَيْرُ قَتْلَى مَنْ قَتَلُوهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قُلْتُ لِأَبِي أُمَامَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا -حَتَّى عَدّ سَبْعًا-مَا حَدّثتكموه.ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي غَالِبٍ، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أَبِي غَالِبٍ، بِنَحْوِهِ(١٢) . وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُويَه عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، حَدِيثًا مُطَوَّلًا غَرِيبًا عَجِيبًا جِدًّا.ثُمَّ قَالَ [تَعَالَى](١٣) ﴿تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ﴾ أَيْ: هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ وحُجَجُه وَبَيِّنَاتُهُ ﴿نَتْلُوهَا عَلَيْكَ﴾ يَا مُحَمَّدُ ﴿بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: نَكْشِفُ(١٤) مَا الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ أَيْ: لَيْسَ بِظَالِمٍ لَهُمْ بَلْ هُوَ الحَكَم الْعَدْلُ الَّذِي لَا يَجُورُ؛ لِأَنَّهُ القادر عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَلَا يَحْتَاجُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَظْلِمَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ ملْك لَهُ وَعَبِيدٌ لَهُ. ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ﴾ أَيْ: هُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الْحَاكِمُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

(١) صحيح مسلم برقم (٤٩) من حديث أبي موسى الأشعري، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: "وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا، فحديث: "من رأى منكم منكرا" هو حديث أبي موسى".
(٢) في أ: "أن رسول الله".
(٣) المسند (٥/٣٨٨) وسنن الترمذي برقم (٢١٦٩) .
(٤) زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
(٥) في جـ، ر: "الهوري"، وفي هـ ومسند الإمام أحمد (٤/١٠٢) : "الهوزي". قال أبو المغيرة في موضع آخر: الحرازي" والله أعلم بالصواب.
(٦) في ر: "لجي".
(٧) زيادة من أ، و.
(٨) في جـ: "فغيركم".
(٩) المسند (٤/١٠٢) وسنن أبي داود برقم (٤٥٩٧) .
(١٠) في ر: "عنه".
(١١) في ر: "صبح".
(١٢) سنن الترمذي برقم (٣٠٠٠) وسنن ابن ماجة برقم (١٧٦) .
(١٣) زيادة من أ، و.
(١٤) في جـ: "ينكشف".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))