صدقة جارية
تفسير اية رقم ٦٣
من سورة النور
﴿لَّا تَجۡعَلُوا۟ دُعَاۤءَ ٱلرَّسُولِ بَیۡنَكُمۡ كَدُعَاۤءِ بَعۡضِكُم بَعۡضࣰاۚ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذࣰاۚ فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ أَن تُصِیبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ یُصِیبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ﴾ [النور ٦٣]
قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانُوا يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، عَنْ ذَلِكَ، إِعْظَامًا لِنَبِيِّهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ(١) قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ. وَهَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير.وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُهَابَ نَبِيُّهُ ﷺ، وَأَنْ يُبَجَّل وأن يعظَّم وأن يسود.وَقَالَ مُقَاتِلُ [بْنُ حَيَّان](٢) فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ يَقُولُ: لَا تُسَمّوه إِذَا دَعَوتموه: يَا مُحَمَّدُ، وَلَا تَقُولُوا: يَا بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَلَكِنْ شَرّفوه فَقُولُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، يَا رَسُولَ اللَّهِ(٣) .وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ قَالَ: أَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يشرِّفوه.هَذَا قَوْلٌ. وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٠٤] ، وَقَالَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾ [الْحُجُرَاتِ: ٢-٥]فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْأَدَبِ [فِي مُخَاطَبَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْكَلَامِ مَعَهُ وَعِنْدَهُ كَمَا أُمِرُوا بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ](٤)وَالْقَوْلُ الثَّانِي فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي: ﴿لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا﴾ أَيْ: لَا تَعْتَقِدُوا أَنَّ دُعَاءَهُ عَلَى غَيْرِهِ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ، فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُسْتَجَابٌ، فَاحْذَرُوا أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْكُمْ فَتَهْلَكُوا. حَكَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَطِيَّةَ العَوفي، وَاللَّهُ(٥) أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الْحَدِيثُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ -وَيَعْنِي بِالْحَدِيثِ الْخُطْبَةَ -فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ الصَّحَابَةِ -أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ -حَتَّى يَخْرُجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ لَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، بَعْدَمَا يَأْخُذُ فِي الْخُطْبَةِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمُ الخروجَ أشارَ بِإِصْبَعِهِ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَيَأْذَنُ لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ وَالنَّبِيُّ -ﷺ -يَخْطُبُ، بطلتْ جُمعته.قَالَ السُّدِّي كَانُوا إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي جَمَاعَةٍ، لَاذَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، حَتَّى يَتَغَيَّبُوا عَنْهُ، فَلَا يَرَاهُمْ.وَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ ، يَعْنِي: لِوَاذًا [عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ وَعَنْ كِتَابِهِ.وَقَالَ سُفْيَانُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ قَالَ: مِنَ الصَّفِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي الْآيَةِ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا﴾ ](٦) قَالَ: خِلَافًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أَيْ: عَنْ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، سبيله هو(٧) وَمِنْهَاجُهُ وَطَرِيقَتُهُ [وَسُنَّتُهُ](٨) وَشَرِيعَتُهُ، فَتُوزَنُ الْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ بِأَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ، فَمَا وَافَقَ ذَلِكَ قُبِل، وَمَا خَالَفَهُ فَهُوَ مَرْدُود عَلَى قَائِلِهِ وَفَاعِلِهِ، كَائِنًا مَا كَانَ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدّ"(٩) .أَيْ: فَلْيَحْذَرْ وليخْشَ مَنْ خَالَفَ شَرِيعَةَ الرَّسُولِ بَاطِنًا أَوْ ظَاهِرًا ﴿أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ أَيْ: فِي قُلُوبِهِمْ، مِنْ كُفْرٍ أَوْ نِفَاقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، ﴿أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، بِقَتْلٍ، أَوْ حَد، أَوْ حَبْسٍ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّه قَالَ: هَذَا مَا حدَّثنا أَبُو هُرَيرة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا(١٠) . جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ اللَّاتِي [يَقَعْنَ فِي النَّارِ](١١) يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجِزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ ويتقحَّمن فِيهَا". قَالَ: "فَذَلِكَ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بحجزِكم عَنِ النَّارِ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي وَتَقْتَحِمُونَ فِيهَا". أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ(١٢)
(١) في ف، أ: "صلى الله عليه وسلم".
(٢) زيادة من ف، أ.
(٣) في ف: "يا رسول الله، يا نبي الله".
(٤) زيادة من ف، أ.
(٥) في ف، أ: "فالله".
(٦) زيادة من ف، أ.
(٧) في ف: "وهو سبيله".
(٨) زيادة من ف، أ.
(٩) صحيح البخاري برقم (٢٦٩٧) وصحيح مسلم برقم (١٧١٨) .
(١٠) في ف، أ: "حوله".
(١١) زيادة من ف، أ، والمسند.
(١٢) المسند (٢/٣١٢) ومسلم برقم (٢٢٨٤) وليس عند البخاري من هذا الطريق.