الجمعة، 2 يونيو 2023

من سورة الممتحنة

 صدقة جارية 

تفسير اية رقم ١_٣

من سورة الممتحنة 

﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ عَدُوِّی وَعَدُوَّكُمۡ أَوۡلِیَاۤءَ تُلۡقُونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِمَا جَاۤءَكُم مِّنَ ٱلۡحَقِّ یُخۡرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِیَّاكُمۡ أَن تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ رَبِّكُمۡ إِن كُنتُمۡ خَرَجۡتُمۡ جِهَـٰدࣰا فِی سَبِیلِی وَٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِیۚ تُسِرُّونَ إِلَیۡهِم بِٱلۡمَوَدَّةِ وَأَنَا۠ أَعۡلَمُ بِمَاۤ أَخۡفَیۡتُمۡ وَمَاۤ أَعۡلَنتُمۡۚ وَمَن یَفۡعَلۡهُ مِنكُمۡ فَقَدۡ ضَلَّ سَوَاۤءَ ٱلسَّبِیلِ (١) إِن یَثۡقَفُوكُمۡ یَكُونُوا۟ لَكُمۡ أَعۡدَاۤءࣰ وَیَبۡسُطُوۤا۟ إِلَیۡكُمۡ أَیۡدِیَهُمۡ وَأَلۡسِنَتَهُم بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّوا۟ لَوۡ تَكۡفُرُونَ (٢) لَن تَنفَعَكُمۡ أَرۡحَامُكُمۡ وَلَاۤ أَوۡلَـٰدُكُمۡۚ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ یَفۡصِلُ بَیۡنَكُمۡۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ (٣)﴾ [الممتحنة ١-٣]


تَفْسِيرُ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِوَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

* * *كَانَ سَبَبُ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ(١) الْكَرِيمَةِ قِصَّةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ حَاطِبًا هَذَا كَانَ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ أَيْضًا، وَكَانَ لَهُ بِمَكَّةَ أَوْلَادٌ وَمَالٌ(٢) ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قُرَيْشٍ أَنْفُسِهِمْ، بَلْ كَانَ حَلِيفًا(٣) لِعُثْمَانَ. فَلَمَّا عَزْمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا نَقَضَ أَهْلُهَا الْعَهْدَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّجْهِيزِ لِغَزْوِهِمْ، وَقَالَ: "اللَّهُمَّ، عَمِّ عَلَيْهِمْ خَبَرَنَا". فَعَمَدَ حَاطِبٌ هَذَا فَكَتَبَ كِتَابًا، وَبَعَثَهُ مَعَ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، يُعْلِمُهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [مِنْ غَزْوِهِمْ](٤) ، لِيَتَّخِذَ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ يَدًا، فَأَطْلَعَ اللَّهُ رَسُولَهُ عَلَى ذَلِكَ(٥) اسْتِجَابَةً لِدُعَائِهِ. فَبَعَثَ فِي أَثَرِ الْمَرْأَةِ فَأَخَذَ الْكِتَابَ مِنْهَا، وَهَذَا بَيِّنٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ. قال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، عن عَمْرو، أَخْبَرَنِي حَسَن بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنِي عُبَيد اللَّهِ(٦) بْنُ أَبِي رَافِعٍ -وَقَالَ مُرَّةُ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، فَقَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينة مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا". فَانْطَلَقْنَا تَعَادى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، قُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ. قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. قُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لنُلقين الثِّيَابَ. قَالَ: فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْ عِقَاصها، فَأَخَذْنَا الْكِتَابَ فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا فِيهِ: من حاطب بن أبي بلتعة إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا؟ ". قَالَ: لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا عَنْ ديني ولا رضى بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّهُ صَدَقكم". فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، مَا يُدْرِيكَ لَعَلّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ".وَهَكَذَا أَخْرَجَهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا ابْنَ مَاجَهْ، مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَينة، بِهِ(٧) . وَزَادَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "الْمَغَازِي": فَأَنْزَلَ اللَّهُ السُّورَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾(٨) . وَقَالَ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ: قَالَ عَمْرٌو: وَنَزَلَتْ فِيهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ قَالَ(٩) : " لَا أَدْرِي الْآيَةَ فِي الْحَدِيثِ أَوْ قَالَ عَمْرٌو". قَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ عَلِيٌّ -يَعْنِي: ابْنَ الْمَدِينِيِّ-: قِيلَ لِسُفْيَانَ فِي هَذَا: نَزَلَتْ ﴿لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ ؟ فَقَالَ سُفْيَانُ: هَذَا فِي حَدِيثِ النَّاسِ، حَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو، مَا تَرَكْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَمَا أَرَى(١٠) أَحَدًا حَفِظَهُ غَيْرِي(١١) .وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ حُصَين بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ(١٢) بْنِ عُبَيدة، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبَا مَرْثَد، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، وَقَالَ: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبٍ إِلَى الْمُشْرِكِينَ: فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقُلْنَا: الكتابُ؟ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَأَنَخْنَاهَا فَالْتَمَسْنَا فَلَمْ نَرَ كِتَابًا، فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ! لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لنُجردنك. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزتها وَهِيَ مُحتَجِزة بِكِسَاءٍ فَأَخْرَجَتْهُ. فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدعني فلأضْرِب عُنُقَهُ. فَقَالَ: "مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ ". قَالَ: وَاللَّهِ مَا بِي إِلَّا أَنْ أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَرَدْتُ أَنْ تَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلَّا لَهُ هُنَالِكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ. فَقَالَ: "صَدَقَ، لَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا خَيْرًا". فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ: "أَلَيْسَ مَنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ " فَقَالَ: "لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجنة -أو: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". فدَمِعت عَيْنَا عُمر، وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ(١٣) .هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ فِي "الْمَغَازِي" فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الهِسْنجَاني، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ يَعِيشَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرَّازِيُّ، عَنْ أَبِي سِنان -هُوَ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ-عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرة الجَمَلي، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ الطَّائِيِّ(١٤) ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَأْتِيَ مَكَّةَ، أَسَرَّ إِلَى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ يُرِيدُ مَكَّةَ، فِيهِمْ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ وَأَفْشَى فِي النَّاسِ أَنَّهُ يُرِيدُ خَيْبَرَ. قَالَ: فَكَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُرِيدُكُمْ. فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: فَبَعَثَنِي رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَأَبَا مَرْثد، وليس منا رجل إلا وعند(١٥) فَرَسٌ، فَقَالَ: "ائِتوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بِهَا امْرَأَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا". فَانْطَلَقْنَا حَتَّى رَأَيْنَاهَا بِالْمَكَانِ الَّذِي ذَكَر رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. فَقُلْنَا لَهَا: هَاتِ الْكِتَابَ. فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ. فَوَضَعْنَا مَتَاعَهَا وَفَتَّشْنَاهَا(١٦) فَلَمْ نَجِدْهُ فِي مَتَاعِهَا، فَقَالَ أَبُو مَرْثَدٍ: لَعَلَّهُ أَلَّا يَكُونَ مَعَهَا. فَقُلْتُ: مَا كَذَبَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا كَذَبْنَا(١٧) . فَقُلْنَا لَهَا: لتخرجِنَّه أَوْ لنُعرينَّك. فَقَالَتْ: أَمَا تَتَّقُونَ اللَّهَ؟! أَلَسْتُمْ مُسْلِمِينَ؟ فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّهُ أَوْ لنعرينَّك. قَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ حُجُزَتها. وَقَالَ حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: أَخْرَجَتْهُ(١٨) مِنْ قُبُلها. فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَإِذَا الْكِتَابُ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ. فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَائْذَنْ لِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "أَلَيْسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا؟ ". قَالُوا: بَلَى. وَقَالَ عُمَرُ: بَلَى، وَلَكِنَّهُ قَدْ نَكَثَ وَظَاهَرَ أَعْدَاءَكَ عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "فلعل الله اطلع إلى عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ". فَفَاضَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى حَاطِبٍ فَقَالَ: "يَا حَاطِبُ، مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ لِي بِهَا مَالٌ وَأَهْلٌ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَمَالَهُ، فَكَتَبْتُ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ وَوَاللَّهِ-يَا رَسُولَ اللَّهِ-إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "صَدَقَ حَاطِبٌ، فَلَا تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إِلَّا خَيْرًا". قَالَ(١٩) حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ الْآيَةَ.وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ عَنْ مِهْران، عَنْ أَبِي سِنَانٍ -سَعِيدِ بْنِ سِنَانٍ-بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ(٢٠) . وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَابُ الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسحَاق بْنِ يَسَار فِي السِّيرَةِ.حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَة بْنِ الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ عُلَمَائِنَا قَالَ: لَمَّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الْمَسِيرَ(٢١) إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشٍ يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً -زَعَمَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَنَّهَا مِنْ مُزَيْنَةَ، وَزَعَمَ غَيْرُهُ أَنَّهَا: سَارَةُ، مَوْلَاةٌ لِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ-وَجَعَلَ لَهَا جُعلا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُريشًا فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمَّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ. وَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الخبرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ، فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: "أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبٌ بِكِتَابٍ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا(٢٢) لَهُ مِنْ أَمْرِهِمْ".فَخَرَجَا حَتَّى أَدْرَكَاهَا بالخُلَيفْة -خُلَيْفَةِ(٢٣) بَنِي أَبِي أَحْمَدَ-فَاسْتَنْزَلَاهَا بِالْخُلَيْفَةِ، فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَ لَهَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا كَذَبْنَا(٢٤) ولتُخرجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لنكشفنَّك. فَلَمَّا رَأَتِ الجِدّ مِنْهُ قَالَتْ: أَعْرِضْ. فَأَعْرَضَ، فَحَلَّتْ قُرون رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتِ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ. فَأَتَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ حَاطِبًا فَقَالَ: "يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ(٢٥) مَا غَيَّرت وَلَا بَدّلت، وَلَكِنِّي كُنْتُ امْرَأً لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَهْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَد وَأَهْلٌ فَصَانَعْتُهُمْ عَلَيْهِمْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْنِي فَلأضربْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ نَافَقَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ! لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فِي حَاطِبٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾ [الْمُمْتَحَنَةِ: ٤] إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ(٢٦) .وَرَوَى مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة نَحْوَ ذَلِكَ. وَهَكَذَا ذَكَرَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ: أَنَّهُ بَعَثَ سَارَةَ مَوْلَاةَ بَنِي هَاشِمٍ، وَأَنَّهُ أَعْطَاهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ فِي أَثَرِهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَأَدْرَكَاهَا بِالْجُحْفَةِ ... وَذَكَرَ تَمَامَ الْقِصَّةِ كَنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ. وَعَنِ السُّدِّيِّ قَرِيبًا مِنْهُ. وَهَكَذَا قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ.فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ وَالْكُفَّارَ الَّذِينَ هُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، الَّذِينَ شَرَعَ اللَّهُ(٢٧) عَدَاوَتَهُمْ وَمُصَارَمَتَهُمْ، وَنَهَى أَنْ يُتَّخَذُوا أَوْلِيَاءَ وَأَصْدِقَاءَ وَأَخِلَّاءَ، كَمَا قَالَ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٥١] .وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الْمَائِدَةِ: ٥٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ [النِّسَاءِ: ١٤٤] . وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٨] ؛ وَلِهَذَا قَبِل رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عُذْرَ حَاطِبٍ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ مُصَانَعَةً لِقُرَيْشٍ، لِأَجْلِ مَا كَانَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنَ الأموال والأولاد.ويذكر هَاهُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنَا الْأَجْلَحُ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ، عَنْ رِبْعَيِ بْنِ حِرَاشٍ، سَمِعْتُ حُذيفة يَقُولُ: ضَرَب لَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَمْثَالًا وَاحِدًا وَثَلَاثَةً وَخَمْسَةً وَسَبْعَةً، وَتِسْعَةً، وَأَحَدَ عَشَرَ -قَالَ: فَضَرَبَ لَنَا مِنْهَا مَثَلًا وَتَرَكَ سَائِرَهَا، قَالَ: "إِنَّ قَوْمًا كَانُوا أَهْلَ ضَعْفٍ وَمَسْكَنَةٍ، قَاتَلَهُمْ أَهْلُ تَجَبُّرٍ وَعَدَاءٍ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ أَهْلَ الضَّعْفِ عَلَيْهِمْ، فَعَمَدوا إِلَى عَدُوهم فَاسْتَعْمَلُوهُمْ وَسَلَّطُوهُمْ، فَأَسْخَطُوا اللَّهَ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ"(٢٨) .

* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ﴾ هَذَا مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنَ التَّهْيِيجِ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ وَعَدَمِ مُوَالَاتِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ أَخْرَجُوا الرَّسُولَ وَأَصْحَابَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، كَرَاهَةً لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ عِنْدَهُمْ ذَنْبٌ إِلَّا إِيمَانَكُمْ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كَقَوْلِهِ: ﴿وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ. الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [الْبُرُوجِ: ٨] ، وَكَقَوْلِهِ ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الْحَجِّ: ٤٠] .

* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي﴾ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ كَذَلِكَ فَلَا تَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ مُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِي بَاغِينَ لِمَرْضَاتِي عَنْكُمْ فَلَا تُوَالُوا أَعْدَائِي وَأَعْدَاءَكُمْ، وَقَدْ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ حَنَقًا عَلَيْكُمْ وَسُخْطًا لِدِينِكُمْ.

* * *وَقَوْلُهُ: ﴿تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ﴾ أَيْ: تَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَأَنَا الْعَالِمُ بِالسَّرَائِرِ وَالضَّمَائِرِ وَالظَّوَاهِرِ ﴿وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ أَيْ: لَوْ قَدَرُوا عَلَيْكُمْ لَمَا اتَّقَوْا(٢٩) فِيكُمْ مِنْ أَذًى يَنَالُونَكُمْ بِهِ بِالْمَقَالِ وَالْفِعَالِ. ﴿وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ﴾ أَيْ: وَيَحْرِصُونَ عَلَى أَلَّا تَنَالُوا خَيْرًا، فَهُمْ عَدَاوَتُهُمْ لَكُمْ كَامِنَةٌ وَظَاهِرَةٌ، فَكَيْفَ تُوَالُونَ مِثْلَ هَؤُلَاءِ؟ وَهَذَا تَهْيِيجٌ عَلَى عَدَاوَتِهِمْ أَيْضًا.

* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أَيْ: قَرَابَاتُكُمْ لَا تَنْفَعُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ(٣٠) إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِكُمْ سُوءًا، وَنَفْعُهُمْ لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يُسْخِطُ اللَّهَ، وَمَنْ وَافَقَ أَهْلَهُ عَلَى الْكُفْرِ لِيُرْضِيَهُمْ فَقَدْ خَابَ وخَسِر وضَلّ عَمَلُهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ عِنْدَ اللَّهِ قَرَابَتُهُ مِنْ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا إِلَى نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: "فِي النَّارِ" فَلَمَّا(٣١) قَفَّى دَعَاهُ فَقَالَ: "إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ".وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ(٣٢) .


(١) في هـ: "الآية"، والمثبت من م، أ.

(٢) في م: "وأموال".

(٣) في أ: "ضيفًا".

(٤) زيادة من م.

(٥) في م: "فأصلح الله على ذلك رسوله".

(٦) في م: "عبد الله"

(٧) المسند (١/٧٩، ٨٠) وصحيح البخاري برقم (٣٠٠٧، ٤٨٩٠) وصحيح مسلم برقم (٢٤٩٤) وسنن أبي داود برقم (٢٦٥٠) وسنن الترمذي برقم (٣٣٠٥) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١٥٨٥) .

(٨) صحيح البخاري برقم (٤٢٧٤) .

(٩) في م: "وقال".

(١٠) في م: "ولا أرى".

(١١) صحيح البخاري برقم (٤٨٩٠) .

(١٢) في م: "عن سعيد".

(١٣) صحيح البخاري برقم (٣٩٨٣) وصحيح مسلم برقم (٢٤٩٤) .

(١٤) في هـ" "عن أبي إسحاق البختري الطائي ولالمثبت من الطبري.

(١٥) في م، أ: "وعنده".

(١٦) في م: "وفتشناه".

(١٧) في م: "ولا كاذب".

(١٨) في م: "فأخرجته".

(١٩) في م: "فقال".

(٢٠) تفسير الطبري (٢٣/٣٨) .

(٢١) في م: "السير".

(٢٢) في م، أ: "اجتمعنا".

(٢٣) في أ: "بالحليفة حليفة".

(٢٤) في م: "ولا كذبنا".

(٢٥) في م: "وبرسوله".

(٢٦) ورواه الطبري في تفسيره (٢٣/٣٩) من طريق أبي إسحاق.

(٢٧) في م: "شرع لهم".

(٢٨) المسند (٥/٤٠٧) وقال الهيثمي في المجمع (٥/٢٣٢) : "وفيه الأجلح الكندي وهو ثقة وقد ضعف، وبقية رجاله ثقات".

(٢٩) في أ: "لما أبقوا".

(٣٠) في م: "عند الله ولا أولادكم".

(٣١) في م: "قال: فلما".

(٣٢) المسند (٣/٢٦٨) وصحيح مسلم برقم (٢٠٣) وسنن أبي داود برقم (٨١٧٤) .


(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))


من سورة الحشر

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٥ 
من سورة الحشر 
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (١) هُوَ ٱلَّذِیۤ أَخۡرَجَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مِن دِیَـٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن یَخۡرُجُوا۟ۖ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَیۡثُ لَمۡ یَحۡتَسِبُوا۟ۖ وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ یُخۡرِبُونَ بُیُوتَهُم بِأَیۡدِیهِمۡ وَأَیۡدِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ فَٱعۡتَبِرُوا۟ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَبۡصَـٰرِ (٢) وَلَوۡلَاۤ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡجَلَاۤءَ لَعَذَّبَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ (٣) ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ شَاۤقُّوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۖ وَمَن یُشَاۤقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ (٤) مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّینَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَاۤىِٕمَةً عَلَىٰۤ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِیُخۡزِیَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ (٥)﴾ [الحشر ١-٥]

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَشْرِ[وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ](١) . وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيم، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ هُشَيْم، بِهِ(٢) . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوانة، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُل: سُورَةُ النَّضير(٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ جميع مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ يُسَبِّحُ لَهُ وَيُمَجِّدُهُ وَيُقَدِّسُهُ، وَيُصَلِّي لَهُ وَيُوَحِّدُهُ(٤) كَقَوْلِهِ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ] ﴾(٥) [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أَيْ: مَنِيعُ الْجَنَابِ ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي قَدَرِهِ وَشَرْعِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي: يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَدِمَ المدينة هادنهم وأعطاهم عَهْدًا وَذِمَّةً، عَلَى أَلَّا يُقَاتِلَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بِأْسَهُ الَّذِي لَا مَرَدَّ(٦) لَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُ الَّذِي لَا يُصَدّ، فَأَجْلَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمُ الْحَصِينَةِ الَّتِي مَا طَمِعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، وَظَنُّوا هُمْ أَنَّهَا مَانِعَتُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَجَاءَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ بِبَالِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَأَجْلَاهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى أَذَرِعَاتٍ مِنْ أَعَالِي الشَّامِ، وَهِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى خَيْبَرَ. وَكَانَ قَدْ أَنْزَلَهُمْ مِنْهَا عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ إِبِلُهُمْ، فَكَانُوا يُخَرِّبُونَ مَا فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ مَعَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ أَيْ: تَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفَ رَسُولَهُ، وَكَذَّبَ كِتَابَهُ، كَيْفَ يَحِلُّ بِهِ مِنْ بَأْسِهِ الْمُخْزِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَسُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ يَعْبُدُ [مَعَهُ](٧) الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَنُقَاتِلَنَّهُ، أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ، أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا، حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتلتكم وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَهُمْ، فَقَالَ: "لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ؟ "، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ تَفَرَّقُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ، فَكَتَبَتْ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُّنَ مَعَ صَاحِبِنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ شَيْءٌ -وَهِيَ الْخَلَاخِيلُ -فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِيَّ ﷺ اجْتَمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ لِيَخْرُجَ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حَتَّى نَلْتَقِيَ بِمَكَانِ الْمَنْصَفِ فَيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [بِالْكَتَائِبِ](٨) فَحَصَرَهُمْ، قَالَ لَهُمْ: "إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَا تَأْمَنُوا عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ". فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ غَدَا الغَد عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ، فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. وَغَدَا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ فَقَاتَلَهُمْ، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ. فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَخَشَبِهَا، وَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً، أَعْطَاهُ اللَّهُ أَيَّاهَا وَخَصَّهُ بِهَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ﴾ يَقُولُ: بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ، قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَّمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَا ذَوَيْ حَاجَةٍ، وَلَمْ يُقَسَّمْ مِنَ الأنصار غيرهما، وبقي مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فَاطِمَةَ(٩) .وَلْنَذْكُرْ مُلَخَّصَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي والسَير: أَنَّهُ لَمَّا قُتِل أصحابُ بِئْرِ مَعُونَةَ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ(١٠) ﷺ، وَكَانُوا سَبْعِينَ، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَمَانٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرٌو، فَلَمَّا رَجَعَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ قَتَلْتَ رَجُلَيْنِ، لأدينَّهما" وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ حِلْفٌ وَعَهْدٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ، وَكَانَ مَنَازِلُ بَنِي النَّضِيرِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا شَرْقِيَّهَا.قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِهِ السِّيرَةِ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، اللَّذَيْنِ قَتَلَ(١١) عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ؛ لِلْجِوَارِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَقَدَ لَهُمَا، فِيمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومان، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ عَقد وَحِلْفٌ. فَلَمَّا أَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ قَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ، مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ(١٢) تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ -وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ-فَمَن(١٣) رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ أحدُهم، فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فصعَدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيَّ ﷺ أَصْحَابُهُ قَامُوا فِي طَلَبِهِ فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَدِينَةَ. فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ يَهُودُ أَرَادَتْ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ، وَأَمَرَ رسولُ اللَّهِ ﷺ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَأَمَرَ رسولُ اللَّهِ ﷺ بِقَطْعِ النَّخْلِ والتَّحريق فِيهَا. فَنَادَوْهُ: أَنْ يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عوف بن الخزرج، منهم عبد الله ابن أُبَيِّ [بْنِ](١٤) سَلُولٍ، وَوَدِيعَةُ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي قَوْقَلٍ(١٥) وسُوَيد وَدَاعِسٌ، قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: أَنِ اثْبُتُوا وتَمَنَّعوا فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، إِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجنا مَعَكُمْ فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَفَعَلَ، فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ. فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَخَلّوا الْأَمْوَالَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، فَقَسَمَهَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ. إِلَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيف وَأَبَا دُجانة سِمَاكَ بْنَ خَرشَة ذَكَرَا فَقْرًا، فَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.قَالَ: وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَّا رَجُلَانِ: يَامِينُ بْنُ عُمَير(١٦) بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا.قَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ: قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ يَامِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِيَامِينَ: "أَلَمْ تَرَ مَا لقيتُ مِنَ ابْنِ عَمِّكَ، وَمَا هُمْ بِهِ مِنْ شَأْنِي". فَجَعَلَ يَامِينُ بن عُمَير(١٧) لرجل جُعِل عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، فَقَتَلَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ سُورَةُ الْحَشْرِ بِأَسْرِهَا(١٨) .وَهَكَذَا رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ(١٩) .فَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي: بَنِي النَّضِيرِ ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ﴾ .قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ شَكَّ فِي أن أرض المحشر هاهنا -يَعْنِي الشَّامَ فَلْيَتْل(٢٠) هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ﴾ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اخْرُجُوا". قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ".وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا أَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَ: "هَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَأَنَا عَلَى الْأَثَرِ".وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ بُنْدَار، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، بِهِ(٢١) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ أَيْ: فِي مُدَّةِ حِصَارِكُمْ لَهُمْ وقصَرها، وَكَانَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، مَعَ شِدَّةِ حُصُونِهِمْ وَمَنَعَتِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أَيْ: جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي بَالٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٢٦] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ أَيِ: الْخَوْفَ والهَلَع والجَزَع، وَكَيْفَ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ حَاصَرَهُمُ الَّذِي نُصر بِالرُّعْبِ مسيرةَ شَهْرٍ، صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ لِذَلِكَ، وَهُوَ نَقْضُ(٢٢) مَا اسْتَحْسَنُوهُ مِنْ سُقُوفِهِمْ وَأَبْوَابِهِمْ، وتَحملها عَلَى الْإِبِلِ، وَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.وقال مقاتل ابن حَيَّانَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَاتِلُهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى دَرْب أَوْ دَارٍ، هُدِمَ حِيطَانُهَا لِيَتَّسِعَ الْمَكَانُ لِلْقِتَالِ. وَكَانَ(٢٣) الْيَهُودُ إِذَا عَلَّوْا مَكَانًا أَوْ غَلَبُوا عَلَى دَرْبٍ أَوْ دَارٍ، نَقَبُوا مِنْ أَدْبَارِهَا ثُمَّ حَصَّنُوهَا وَدَرَّبُوهَا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ أَيْ: لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْجَلَاءَ، وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَذَابٌ آخَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَة، والسُّدِّي وَابْنِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مَعَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ -كَاتِبُ اللَّيْثِ-حَدَّثَنِي اللَّيْثِ، عَنْ عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حتى نَزَلُوا مِنَ الْجَلَاءِ، وَأَنَّ لَهُمْ مَا أقَلَّت الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، وَهِيَ السِّلَاحُ، فَأَجْلَاهُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ الشَّامِ. قَالَ: وَالْجَلَاءُ أَنَّهُ كُتب عَلَيْهِمْ فِي آيٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمُ الْجَلَاءُ قَبْلَ مَا سُلِّطَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ .وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْجَلَاءُ: الْقَتْلُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْفَنَاءُ.وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَلَاءُ: خُرُوجُ النَّاسِ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْبَلَدِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَأَعْطَى كُلَّ ثَلَاثَةٍ بَعِيرًا وَسِقَاءً، فَهَذَا الْجَلَاءُ.وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ(٢٤) الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمِّي، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ(٢٥) ﷺ قَدْ حَاصَرَهُمْ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغ، فَأَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لهم دمائهم، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَمِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَأَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذَرِعَاتِ الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَسِقَاءً، وَالْجَلَاءُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ(٢٦) إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى(٢٧)وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن جعفر بن محمود بن محمد بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثَ لَيَالٍ(٢٨)(٢٩) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ أَيْ: حَتْمٌ لَازِمٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ:إِنَّمَا فَعلَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ وسَلَّط عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَذَّبُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي(٣٠) الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ اللِّينُ: نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ، وَهُوَ جَيِّدٌ.قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ مَا خَالَفَ الْعَجْوَةَ والبَرْنِيّ مِنَ التَّمْرِ.وَقَالَ كَثِيرُونَ(٣١) مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: اللِّينَةُ: أَلْوَانُ التَّمْرِ سِوَى الْعَجْوَةِ.قَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ جَمِيعُ النَّخْلِ. وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ البُوَيرة أَيْضًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا حَاصَرَهُمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ(٣٢) إِهَانَةً لَهُمْ، وَإِرْهَابًا وَإِرْعَابًا لِقُلُوبِهِمْ. فَرَوَى مُحَمَّدُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُمْ قَالُوا: [فَبَعَثَ بَنُو النَّضِيرِ](٣٣) يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، أَيْ: مَا قَطَعْتُمْ وَمَا تَرَكْتُمْ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَالْجَمِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ(٣٤) وَرِضَاهُ، وَفِيهِ نِكَايَةٌ بِالْعَدُوِّ(٣٥) وَخِزْيٌ لَهُمْ، وَإِرْغَامٌ لِأُنُوفِهِمْ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَهَى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ. فَنَزَلَ(٣٦) الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا قَطْعُهُ وَتَرْكُهُ بِإِذْنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا، فَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ(٣٧) عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ قَالَ: يَسْتَنْزِلُونَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ وَأَمَرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ، فَحَاكَ فِي صُدُورِهِمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَطَعْنَا بَعْضًا وَتَرَكْنَا بَعْضًا، فَلْنَسْأَلَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مَنْ أَجْرٍ؟ وَهَلْ عَلَيْنَا فِيمَا تَرَكْنَا مَنْ وِزْرٍ؟ فَأَنْزَلَ الله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾(٣٨) وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ جَابِرٍ -وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ-قَالَ: رَخَّصَ لَهُمْ فِي قَطْعِ النَّخْلِ، ثُمَّ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ فَأَتَوُا(٣٩) النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيْنَا إِثْمٌ فِيمَا قَطَعْنَا؟ أَوْ عَلَيْنَا وِزْرٌ فِيمَا تَرَكْنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾(٤٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وحَرّق.وَأَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، بِنَحْوِهِ(٤١) وَلَفْظِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَارَبَتِ(٤٢) النضيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ ومَنّ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ فَقَتَلَ مِنْ رِجَالِهِمْ وَقَسَّمَ(٤٣) نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ فأمَّنهم وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود بِالْمَدِينَةِ.وَلَهُمَا أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم حَرّق نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ -وَهِيَ البُوَيرةُ-فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾(٤٤) .وَلِلْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرية بْنِ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَرّق نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ(٤٥) . وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:وَهَان عَلى سَراة بَنِي لُؤيّ ... حَريق بالبُوَيَرة مُسْتَطيرُّ ...فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ:أدَام اللهُ ذلكَ مِنْ صَنيع ... وَحَرّق فِي نَوَاحيها السَّعير ...سَتَعلم أيُّنا منْها بِنزهٍ ... وَتَعْلُمُ أيّ أرْضينَا نَضِيرُ ...كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(٤٦) وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.وقال محمد ابن إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ:لَقَد خَزيت(٤٧) بغَدْرَتِها الحُبُور ... كَذَاكَ الدهرُ ذُو صَرْف يَدُورُ ...وَذَلك أنَّهم كفَرُوا بِرَبّ ... عَظيم أمرُهُ أمرٌ كَبِيرُ ...وقَد أُوتُوا مَعًا فَهمًا وَعِلْمًا ... وَجَاءهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذيرُ ...نَذير صَادق أَدَّى(٤٨) كِتَابًا ... وَآيَاتٍ مُبَيَّنَةً تُنيرُ ...فَقَالَ(٤٩) مَا أَتَيْتَ بِأَمِرِ صِدْقٍ ... وَأَنْتَ بِمُنْكَرٍ مِنَّا جَديرُ ...فَقَالَ: بَلى لَقَدْ أديتُ حَقًّا ... يُصَدّقني بِهِ الفَهم الخَبيرُ ...فَمن يَتْبعه يُهدَ لِكُل رُشُد ... وَمَن يَكفُر بِهِ يُجزَ الكَفُورُ ...فَلَمَّا أْشربُوا غَدْرًا وكُفْرًا ... وَجَدّ بِهِمْ عَنِ الحَقّ النَفورُ ...أرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأي صدْق ... وكانَ اللَّهُ يَحكُم لَا يَجُورُ ...فَأيَّدَهُ وَسَلَّطَه عَلَيهم ... وكانَ نَصيرهُ نعْم النَّصيرُ ...فَغُودرَ منْهمُو كَعب صَرِيعًا ... فَذَلَّتْ بعدَ مَصْرَعة النَّضيرُ ...عَلى الكَفَّين ثمَّ وقَدْ عَلَتْهُ ... بِأَيِدِينَا مُشَهَّرة ذكُورُ ...بأمْر مُحَمَّد إِذْ دَس لَيلا ... إلى كَعب أخَا كَعب يَسيرُ ...فَمَا كَرَه فَأنزلَه بِمَكْر ... وَمحمودُ أخُو ثقَة جَسُورُ ...فَتلْك بَنُو النَّضير بِدَارِ سَوء ... أبَارَهُمُ بِمَا اجْتَرَمُوا المُبيرُ ...غَداة أتاهُمُ فِي الزّحْف رَهوًا ... رَسُولُ اللَّهِ وَهّوَ بِهِمْ بَصيرُ ...وَغَسَّانُ الحماةُ مُوازرُوه ... عَلَى الْأَعْدَاءِ وَهْوَ لَهُمْ وَزيرُ ...فَقَالَ: السْلم ويحكمُ فَصَدّوا ... وَحَالفَ أمْرَهَم كَذبٌ وَزُورُ ...فَذَاقُوا غِبَّ أمْرهُمُ دَبَالا ... لكُلّ ثَلاثَة منهُم بَعيرُ ...وَأجلوا عَامدين لقَينُقَاع ... وَغُودرَ مِنْهُم نَخْل ودُورُ(٥٠)قَالَ: وَكَانَ مِمَّا(٥١) قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي بَنِي النَّضِيرِ قولُ ابْنِ لُقَيم العَبْسيّ -وَيُقَالُ: قالها قيس بْنُ بَحْرِ بْنِ طَرِيفٍ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ الْأَشْجَعِيُّ:أَهْلِي فدَاءٌ لِامْرِئٍ غَير هَالك ... أحَلّ(٥٢) اليهودَ بالحَسِى(٥٣) المُزَنَّم ...يَقيلُونَ فِي جَمْر الغَضاة وبُدّلُوا ... أهَيضبَ عُودًا بالوَدي المُكَمَّم ...فَإِنْ يَكُ ظَني صَادقًا بمُحَمد ... يَرَوا خَيلَه بينَ الصِّلَا وَيَرمْرَم(٥٤)يَؤمّ بِهَا عَمرو بنُ بُهثَةَ إنَّهُمْ ... عَدُو ما حَيّ صَديق كمُجْرم ...عَلَيهنّ أبطالُ مَساعيرُ فِي الوَغَى ... يَهُزّونَ أطرافَ الوَشيج المُقَوّم ...وكُلّ رَقيق الشَّفرتَين مُهَنَّدٍ ... تُورثْنَ مِنْ أزْمان عَادٍ وَجُرْهُمِ ...فَمَن مُبلغٌ عَني قُرَيشًا رسَالة ... فَهَلْ بَعدَهُم فِي المجْد مِنْ مُتَكرّم ...بِأَنَّ أخاكمُ فاعلَمنّ مُحَمَّدًا ... تَليدُ النَّدى بينَ الحَجُون وزَمْزَم ...فَدينُوا لَهُ بِالْحَقِّ تَجْسُمْ أمُورُكم ... وتَسْمُوا منَ الدنْيا إِلَى كُل مُعْظَم ...نَبِيٌّ تلافَته منَ اللَّهِ رَحَمةٌ ... وَلَا تَسْألُوهُ أمْرَ غَيب مُرَجَّم ...فَقَدْ كانَ فِي بَدْر لَعَمْري عِبرَةٌ ... لَكُم يَا قُرَيش والقَليب المُلَمَّم ...غَدَاة أتَى فِي الخَزْرَجيَّةِ عامِدًا ... إليكُم مُطيعًا للعَظيمِ المُكَرّم ...مُعَانًا برُوح القُدْس يَنْكي عَدوه ... رَسُولا مِنَ الرَّحْمَنِ حَقّا بِمَعْلم ...رَسُولا مِنَ الرَّحْمَنِ يَتْلُو كِتابَهُ ... فَلَمّا أنارَ الحَقّ لَمْ يَتَلعْثَم ...أرَى أمْرَهُ يَزْدَادُ فِي كُلّ مَوْطن ... عُلُوّا لأمرْ حَمَّه اللهُ مُحْكَم(٥٥)وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هاهنا أَشْعَارًا كَثِيرَةً، فِيهَا آدَابٌ وَمَوَاعِظُ وَحِكَمٌ، وَتَفَاصِيلُ لِلْقِصَّةِ، تَرَكْنَا بَاقِيهَا اخْتِصَارًا وَاكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ(٥٦) .

(١) زيادة من أ.
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٨٨٢) وصحيح مسلم برقم (٣٣١) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٨٨٣) .
(٤) في م: "وحده".
(٥) زيادة من م.
(٦) في م: "لا يرد".
(٧) زيادة من سنن أبي داود.
(٨) زيادة من سنن أبي داود.
(٩) سنن أبي داود برقم (٣٠٠٤) .
(١٠) في م: "أصحاب النبي".
(١١) في م: "قتلهما".
(١٢) في م: "لم".
(١٣) في أ: "فمر".
(١٤) زيادة من م، أ.
(١٥) في أ: "نوفل".
(١٦) في م: "ابن عمرو".
(١٧) في م: "بن عمرو".
(١٨) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٩٠ -١٩٢) وتفسير الطبري (٢٨/٢١) .
(١٩) في م: "مما تقدم".
(٢٠) في م، أ: "فليقرأ".
(٢١) تفسير الطبري (٢٨/٢٠) ورواه ابن سعد في الطبقات (٢/٤٢) عن هوذة ابن خليفة، عن عوف، عن الحسن به وهو مرسل.
(٢٢) في أ: "بعض".
(٢٣) في م: "وكانت".
(٢٤) في أ: "سعد".
(٢٥) في م: "كان رسول الله".
(٢٦) في م: "أرض".
(٢٧) دلائل النبوة للبيهقي (٣/٣٥٩) وإسناده مسلسل بالضعفاء.
(٢٨) في م: "أيام".
(٢٩) دلائل النبوة (٣/٣٦٠) .
(٣٠) في م: "من".
(٣١) في م: "كثير".
(٣٢) في م: "نخلهم".
(٣٣) في هـ بياض، وفي م: "بنو قريظة" وهو خطأ، والمثبت من تفسير الطبري. ومستفادا من هامش ط. الشعب.
(٣٤) في م: "وقدره".
(٣٥) في م: "للعدو".
(٣٦) في م: "فأنزل".
(٣٧) في م: "بن".
(٣٨) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٥٧٤) .
(٣٩) في م: "فسألوا".
(٤٠) مسند أبي يعلى (٤/١٣٥) وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيف. تنبيه: رواية سليمان بن موسى عن جابر لم أجدها في مسند أبي يعلى المطبوع فلعلها سقطت.
(٤١) المسند (٢/٧) وصحيح البخاري برقم (٢٠٢١) وصحيح مسلم برقم (١٧٤٦) .
(٤٢) في م: "حارب".
(٤٣) في م: "فقتل من رجالهم وسبى وقسم".
(٤٤) صحيح البخاري برقم (٤٨٨٤) وصحيح مسلم برقم (١٧٤٦) .
(٤٥) في هـ، أ: "نخل بنى النضير، وقطع البويرة"، وقوله: "قطع البويرة" غير ثابت في البخاري، ويبدو أنه سهو من الناسخ.
(٤٦) صحيح البخاري برقم (٤٠٣٢) .
(٤٧) في أ: "خربت".
(٤٨) في م: "أوتي".
(٤٩) في م: "فقالوا".
(٥٠) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٩٩) .
(٥١) في م: "ومما كان".
(٥٢) في أ: "أجلي".
(٥٣) في م، أ: "بالحس".
(٥٤) في أ: "بين الصفا وبزمزم".
(٥٥) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٩٥) .
(٥٦) صحيح البخاري (٧/٣٢٩) "فتح".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))