الجمعة، 2 يونيو 2023

من سورة الحشر

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٥ 
من سورة الحشر 
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (١) هُوَ ٱلَّذِیۤ أَخۡرَجَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مِن دِیَـٰرِهِمۡ لِأَوَّلِ ٱلۡحَشۡرِۚ مَا ظَنَنتُمۡ أَن یَخۡرُجُوا۟ۖ وَظَنُّوۤا۟ أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمۡ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِنۡ حَیۡثُ لَمۡ یَحۡتَسِبُوا۟ۖ وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَۚ یُخۡرِبُونَ بُیُوتَهُم بِأَیۡدِیهِمۡ وَأَیۡدِی ٱلۡمُؤۡمِنِینَ فَٱعۡتَبِرُوا۟ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَبۡصَـٰرِ (٢) وَلَوۡلَاۤ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمُ ٱلۡجَلَاۤءَ لَعَذَّبَهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَلَهُمۡ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ (٣) ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمۡ شَاۤقُّوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۖ وَمَن یُشَاۤقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ (٤) مَا قَطَعۡتُم مِّن لِّینَةٍ أَوۡ تَرَكۡتُمُوهَا قَاۤىِٕمَةً عَلَىٰۤ أُصُولِهَا فَبِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَلِیُخۡزِیَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ (٥)﴾ [الحشر ١-٥]

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَشْرِ[وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سُورَةُ بَنِي النَّضِيرِ](١) . وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا هُشَيم، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ فِي بَنِي النَّضِيرِ. وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ هُشَيْم، بِهِ(٢) . وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَوانة، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُل: سُورَةُ النَّضير(٣)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ جميع مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ يُسَبِّحُ لَهُ وَيُمَجِّدُهُ وَيُقَدِّسُهُ، وَيُصَلِّي لَهُ وَيُوَحِّدُهُ(٤) كَقَوْلِهِ: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ] وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ] ﴾(٥) [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أَيْ: مَنِيعُ الْجَنَابِ ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي قَدَرِهِ وَشَرْعِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي: يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالزُّهْرِيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَمَّا قَدِمَ المدينة هادنهم وأعطاهم عَهْدًا وَذِمَّةً، عَلَى أَلَّا يُقَاتِلَهُمْ وَلَا يُقَاتِلُوهُ، فَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، فَأَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بِأْسَهُ الَّذِي لَا مَرَدَّ(٦) لَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُ الَّذِي لَا يُصَدّ، فَأَجْلَاهُمُ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمُ الْحَصِينَةِ الَّتِي مَا طَمِعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، وَظَنُّوا هُمْ أَنَّهَا مَانِعَتُهُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَجَاءَهُمْ مَا لَمْ يَكُنْ بِبَالِهِمْ، وَسَيَّرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ وَأَجْلَاهُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى أَذَرِعَاتٍ مِنْ أَعَالِي الشَّامِ، وَهِيَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَالْمَنْشَرِ، وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ ذَهَبُوا إِلَى خَيْبَرَ. وَكَانَ قَدْ أَنْزَلَهُمْ مِنْهَا عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتْ إِبِلُهُمْ، فَكَانُوا يُخَرِّبُونَ مَا فِي بُيُوتِهِمْ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تُحْمَلَ مَعَهُمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ أَيْ: تَفَكَّرُوا فِي عَاقِبَةِ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ وَخَالَفَ رَسُولَهُ، وَكَذَّبَ كِتَابَهُ، كَيْفَ يَحِلُّ بِهِ مِنْ بَأْسِهِ الْمُخْزِي لَهُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ.قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ دَاوُدَ وَسُفْيَانُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَيٍّ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ يَعْبُدُ [مَعَهُ](٧) الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَنُقَاتِلَنَّهُ، أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ، أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا، حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتلتكم وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَهُمْ، فَقَالَ: "لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ، تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ؟ "، فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ تَفَرَّقُوا، فَبَلَغَ ذَلِكَ كَفَّارَ قُرَيْشٍ، فَكَتَبَتْ كَفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ، وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُّنَ مَعَ صَاحِبِنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ شَيْءٌ -وَهِيَ الْخَلَاخِيلُ -فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِيَّ ﷺ اجْتَمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ، فَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ لِيَخْرُجَ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حَتَّى نَلْتَقِيَ بِمَكَانِ الْمَنْصَفِ فَيَسْمَعُوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [بِالْكَتَائِبِ](٨) فَحَصَرَهُمْ، قَالَ لَهُمْ: "إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَا تَأْمَنُوا عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ". فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، ثُمَّ غَدَا الغَد عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ، فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ. وَغَدَا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ فَقَاتَلَهُمْ، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ. فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَخَشَبِهَا، وَكَانَ نَخْلُ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ خَاصَّةً، أَعْطَاهُ اللَّهُ أَيَّاهَا وَخَصَّهُ بِهَا، فَقَالَ: ﴿وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ﴾ يَقُولُ: بِغَيْرِ قِتَالٍ، فَأَعْطَى النَّبِيُّ ﷺ أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ، قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَّمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ وَكَانَا ذَوَيْ حَاجَةٍ، وَلَمْ يُقَسَّمْ مِنَ الأنصار غيرهما، وبقي مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فَاطِمَةَ(٩) .وَلْنَذْكُرْ مُلَخَّصَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ، وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ.وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ فِيمَا ذَكَرَهُ أَصْحَابُ الْمَغَازِي والسَير: أَنَّهُ لَمَّا قُتِل أصحابُ بِئْرِ مَعُونَةَ، مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ(١٠) ﷺ، وَكَانُوا سَبْعِينَ، وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ قَتَلَ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، وَكَانَ مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَمَانٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرٌو، فَلَمَّا رَجَعَ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقَدْ قَتَلْتَ رَجُلَيْنِ، لأدينَّهما" وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ حِلْفٌ وَعَهْدٌ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الرَّجُلَيْنِ، وَكَانَ مَنَازِلُ بَنِي النَّضِيرِ ظَاهِرَ الْمَدِينَةِ عَلَى أَمْيَالٍ مِنْهَا شَرْقِيَّهَا.قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ فِي كِتَابِهِ السِّيرَةِ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ، اللَّذَيْنِ قَتَلَ(١١) عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ؛ لِلْجِوَارِ الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَقَدَ لَهُمَا، فِيمَا حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومان، وَكَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَنِي عَامِرٍ عَقد وَحِلْفٌ. فَلَمَّا أَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ قَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، نُعِينُكَ عَلَى مَا أَحْبَبْتَ، مِمَّا اسْتَعَنْتَ بِنَا عَلَيْهِ. ثُمَّ خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَنْ(١٢) تَجِدُوا الرَّجُلَ عَلَى مِثْلِ حَالِهِ هَذِهِ -وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ بُيُوتِهِمْ-فَمَن(١٣) رَجُلٌ يَعْلُو عَلَى هَذَا الْبَيْتِ، فَيُلْقِي عَلَيْهِ صَخْرَةً، فَيُرِيحُنَا مِنْهُ؟ فَانْتُدِبَ لِذَلِكَ عَمْرُو بْنُ جِحَاشِ بْنِ كَعْبٍ أحدُهم، فَقَالَ: أَنَا لِذَلِكَ، فصعَدَ لِيُلْقِيَ عَلَيْهِ صَخْرَةً كَمَا قَالَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ، فَقَامَ وَخَرَجَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا اسْتَلْبَثَ النَّبِيَّ ﷺ أَصْحَابُهُ قَامُوا فِي طَلَبِهِ فَلَقُوا رَجُلًا مُقْبِلًا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ، فَقَالَ: رَأَيْتُهُ دَاخِلًا الْمَدِينَةَ. فَأَقْبَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَأَخْبَرَهُمُ الْخَبَرَ بِمَا كَانَتْ يَهُودُ أَرَادَتْ مِنَ الْغَدْرِ بِهِ، وَأَمَرَ رسولُ اللَّهِ ﷺ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ وَالْمَسِيرِ إِلَيْهِمْ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَتَحَصَّنُوا مِنْهُ فِي الْحُصُونِ، فَأَمَرَ رسولُ اللَّهِ ﷺ بِقَطْعِ النَّخْلِ والتَّحريق فِيهَا. فَنَادَوْهُ: أَنْ يَا مُحَمَّدُ، قَدْ كُنْتَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ وَتَعِيبُهُ عَلَى مَنْ صَنَعَهُ، فَمَا بَالُ قَطْعِ النَّخْلِ وَتَحْرِيقِهَا؟وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ بَنِي عوف بن الخزرج، منهم عبد الله ابن أُبَيِّ [بْنِ](١٤) سَلُولٍ، وَوَدِيعَةُ، وَمَالِكُ بْنُ أَبِي قَوْقَلٍ(١٥) وسُوَيد وَدَاعِسٌ، قَدْ بَعَثُوا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ: أَنِ اثْبُتُوا وتَمَنَّعوا فَإِنَّا لَنْ نُسْلِمَكُمْ، إِنْ قُوتِلْتُمْ قَاتَلْنَا مَعَكُمْ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ خَرَجنا مَعَكُمْ فَتَرَبَّصُوا ذَلِكَ مِنْ نَصْرِهِمْ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَنْ يُجْلِيَهُمْ وَيَكُفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا حَمَلَتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحَلْقَةَ، فَفَعَلَ، فَاحْتَمَلُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ، فَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَهْدِمُ بَيْتَهُ عَنْ نِجَافِ بَابِهِ، فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ فَيَنْطَلِقُ بِهِ. فَخَرَجُوا إِلَى خَيْبَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَارَ إِلَى الشَّامِ، وَخَلّوا الْأَمْوَالَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ خَاصَّةً يَضَعُهَا حَيْثُ شَاءَ، فَقَسَمَهَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ دُونَ الْأَنْصَارِ. إِلَّا أَنَّ سَهْلَ بْنَ حُنَيف وَأَبَا دُجانة سِمَاكَ بْنَ خَرشَة ذَكَرَا فَقْرًا، فَأَعْطَاهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.قَالَ: وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَّا رَجُلَانِ: يَامِينُ بْنُ عُمَير(١٦) بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ جِحَاشٍ، وَأَبُو سَعْدِ بْنُ وَهْبٍ أَسْلَمَا عَلَى أَمْوَالِهِمَا فَأَحْرَزَاهَا.قَالَ: ابْنُ إِسْحَاقَ: قَدْ حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ يَامِينَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِيَامِينَ: "أَلَمْ تَرَ مَا لقيتُ مِنَ ابْنِ عَمِّكَ، وَمَا هُمْ بِهِ مِنْ شَأْنِي". فَجَعَلَ يَامِينُ بن عُمَير(١٧) لرجل جُعِل عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَمْرَو بْنَ جِحَاشٍ، فَقَتَلَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَنَزَلَ فِي بَنِي النَّضِيرِ سُورَةُ الْحَشْرِ بِأَسْرِهَا(١٨) .وَهَكَذَا رَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، بِنَحْوِ مَا تَقَدَّمَ(١٩) .فَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي: بَنِي النَّضِيرِ ﴿مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ﴾ .قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ شَكَّ فِي أن أرض المحشر هاهنا -يَعْنِي الشَّامَ فَلْيَتْل(٢٠) هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ﴾ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اخْرُجُوا". قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ".وَحَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: لَمَّا أَجْلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَ: "هَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَأَنَا عَلَى الْأَثَرِ".وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ بُنْدَار، عَنِ ابْنِ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، بِهِ(٢١) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا﴾ أَيْ: فِي مُدَّةِ حِصَارِكُمْ لَهُمْ وقصَرها، وَكَانَتْ سِتَّةَ أَيَّامٍ، مَعَ شِدَّةِ حُصُونِهِمْ وَمَنَعَتِهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾ أَيْ: جَاءَهُمْ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي بَالٍ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٢٦] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾ أَيِ: الْخَوْفَ والهَلَع والجَزَع، وَكَيْفَ لَا يَحْصُلُ لَهُمْ ذَلِكَ وَقَدْ حَاصَرَهُمُ الَّذِي نُصر بِالرُّعْبِ مسيرةَ شَهْرٍ، صَلَوَاتُ الله وسلامه عليه.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ لِذَلِكَ، وَهُوَ نَقْضُ(٢٢) مَا اسْتَحْسَنُوهُ مِنْ سُقُوفِهِمْ وَأَبْوَابِهِمْ، وتَحملها عَلَى الْإِبِلِ، وَكَذَا قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ.وقال مقاتل ابن حَيَّانَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُقَاتِلُهُمْ، فَإِذَا ظَهَرَ عَلَى دَرْب أَوْ دَارٍ، هُدِمَ حِيطَانُهَا لِيَتَّسِعَ الْمَكَانُ لِلْقِتَالِ. وَكَانَ(٢٣) الْيَهُودُ إِذَا عَلَّوْا مَكَانًا أَوْ غَلَبُوا عَلَى دَرْبٍ أَوْ دَارٍ، نَقَبُوا مِنْ أَدْبَارِهَا ثُمَّ حَصَّنُوهَا وَدَرَّبُوهَا، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا﴾ أَيْ: لَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْجَلَاءَ، وَهُوَ النَّفْيُ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، لَكَانَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَذَابٌ آخَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، قَالَهُ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَة، والسُّدِّي وَابْنِ زَيْدٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ سَيُعَذِّبُهُمْ فِي الدَّارِ الدُّنْيَا مَعَ مَا أَعَدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْعَذَابِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ.قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ -كَاتِبُ اللَّيْثِ-حَدَّثَنِي اللَّيْثِ، عَنْ عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: ثُمَّ كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ، وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حتى نَزَلُوا مِنَ الْجَلَاءِ، وَأَنَّ لَهُمْ مَا أقَلَّت الْإِبِلُ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَمْتِعَةِ إِلَّا الْحَلْقَةَ، وَهِيَ السِّلَاحُ، فَأَجْلَاهُمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ الشَّامِ. قَالَ: وَالْجَلَاءُ أَنَّهُ كُتب عَلَيْهِمْ فِي آيٍ مِنَ التَّوْرَاةِ، وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمُ الْجَلَاءُ قَبْلَ مَا سُلِّطَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ ﴿وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ .وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الْجَلَاءُ: الْقَتْلُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: الْفَنَاءُ.وَقَالَ قَتَادَةُ: الْجَلَاءُ: خُرُوجُ النَّاسِ مِنَ الْبَلَدِ إِلَى الْبَلَدِ.وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَأَعْطَى كُلَّ ثَلَاثَةٍ بَعِيرًا وَسِقَاءً، فَهَذَا الْجَلَاءُ.وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ(٢٤) الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ عَمِّي، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ(٢٥) ﷺ قَدْ حَاصَرَهُمْ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغ، فَأَعْطَوْهُ مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يَحْقِنَ لهم دمائهم، وَأَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ وَمِنْ دِيَارِهِمْ وَأَوْطَانِهِمْ، وَأَنْ يُسَيِّرَهُمْ إِلَى أَذَرِعَاتِ الشَّامِ، وَجَعَلَ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَسِقَاءً، وَالْجَلَاءُ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ أَرْضِهِمْ(٢٦) إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى(٢٧)وَرُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ مُحَمَّدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بن جعفر بن محمود بن محمد بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَهُ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَجِّلَهُمْ فِي الْجَلَاءِ ثَلَاثَ لَيَالٍ(٢٨)(٢٩) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ﴾ أَيْ: حَتْمٌ لَازِمٌ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ أَيْ:إِنَّمَا فَعلَ اللَّهُ بِهِمْ ذَلِكَ وسَلَّط عَلَيْهِمْ رَسُولَهُ وَعِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَكَذَّبُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رُسُلِهِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِي(٣٠) الْبِشَارَةِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ اللِّينُ: نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ، وَهُوَ جَيِّدٌ.قَالَ: أَبُو عُبَيْدَةَ: وَهُوَ مَا خَالَفَ الْعَجْوَةَ والبَرْنِيّ مِنَ التَّمْرِ.وَقَالَ كَثِيرُونَ(٣١) مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: اللِّينَةُ: أَلْوَانُ التَّمْرِ سِوَى الْعَجْوَةِ.قَالَ: ابْنُ جَرِيرٍ: هُوَ جَمِيعُ النَّخْلِ. وَنَقَلَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَهُوَ البُوَيرة أَيْضًا؛ وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا حَاصَرَهُمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ(٣٢) إِهَانَةً لَهُمْ، وَإِرْهَابًا وَإِرْعَابًا لِقُلُوبِهِمْ. فَرَوَى مُحَمَّدُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وَقَتَادَةَ، وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ أَنَّهُمْ قَالُوا: [فَبَعَثَ بَنُو النَّضِيرِ](٣٣) يَقُولُونَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: إِنَّكَ تَنْهَى عَنِ الْفَسَادِ، فَمَا بَالُكَ تَأْمُرُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ، أَيْ: مَا قَطَعْتُمْ وَمَا تَرَكْتُمْ مِنَ الْأَشْجَارِ، فَالْجَمِيعُ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ(٣٤) وَرِضَاهُ، وَفِيهِ نِكَايَةٌ بِالْعَدُوِّ(٣٥) وَخِزْيٌ لَهُمْ، وَإِرْغَامٌ لِأُنُوفِهِمْ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَهَى بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بَعْضًا عَنْ قَطْعِ النَّخْلِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا هِيَ مَغَانِمُ الْمُسْلِمِينَ. فَنَزَلَ(٣٦) الْقُرْآنُ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ، وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا قَطْعُهُ وَتَرْكُهُ بِإِذْنِهِ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا مَرْفُوعًا، فَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ(٣٧) عَفَّانَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ قَالَ: يَسْتَنْزِلُونَهُمْ مِنْ حُصُونِهِمْ وَأَمَرُوا بِقَطْعِ النَّخْلِ، فَحَاكَ فِي صُدُورِهِمْ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: قَطَعْنَا بَعْضًا وَتَرَكْنَا بَعْضًا، فَلْنَسْأَلَنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَلْ لَنَا فِيمَا قَطَعْنَا مَنْ أَجْرٍ؟ وَهَلْ عَلَيْنَا فِيمَا تَرَكْنَا مَنْ وِزْرٍ؟ فَأَنْزَلَ الله: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ﴾(٣٨) وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا حَفْصٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُوسَى، عَنْ جَابِرٍ -وَعَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ-قَالَ: رَخَّصَ لَهُمْ فِي قَطْعِ النَّخْلِ، ثُمَّ شَدَّدَ عَلَيْهِمْ فَأَتَوُا(٣٩) النَّبِيَّ ﷺ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيْنَا إِثْمٌ فِيمَا قَطَعْنَا؟ أَوْ عَلَيْنَا وِزْرٌ فِيمَا تَرَكْنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ﴾(٤٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وحَرّق.وَأَخْرَجَهُ صَاحِبَا الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، بِنَحْوِهِ(٤١) وَلَفْظِ الْبُخَارِيِّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَارَبَتِ(٤٢) النضيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ ومَنّ عَلَيْهِمْ حَتَّى حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ فَقَتَلَ مِنْ رِجَالِهِمْ وَقَسَّمَ(٤٣) نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ فأمَّنهم وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَى يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عَبْدِ اللَّهِ بن سلام، ويهود بني حارثة، وكلّ يهود بِالْمَدِينَةِ.وَلَهُمَا أَيْضًا عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم حَرّق نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ -وَهِيَ البُوَيرةُ-فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾(٤٤) .وَلِلْبُخَارِيِّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، مِنْ رِوَايَةِ جُوَيْرية بْنِ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَرّق نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ(٤٥) . وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:وَهَان عَلى سَراة بَنِي لُؤيّ ... حَريق بالبُوَيَرة مُسْتَطيرُّ ...فَأَجَابَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُولُ:أدَام اللهُ ذلكَ مِنْ صَنيع ... وَحَرّق فِي نَوَاحيها السَّعير ...سَتَعلم أيُّنا منْها بِنزهٍ ... وَتَعْلُمُ أيّ أرْضينَا نَضِيرُ ...كَذَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ(٤٦) وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.وقال محمد ابن إِسْحَاقَ: وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُ إِجْلَاءَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَتْلَ ابْنِ الْأَشْرَفِ:لَقَد خَزيت(٤٧) بغَدْرَتِها الحُبُور ... كَذَاكَ الدهرُ ذُو صَرْف يَدُورُ ...وَذَلك أنَّهم كفَرُوا بِرَبّ ... عَظيم أمرُهُ أمرٌ كَبِيرُ ...وقَد أُوتُوا مَعًا فَهمًا وَعِلْمًا ... وَجَاءهُمُ مِنَ اللَّهِ النَّذيرُ ...نَذير صَادق أَدَّى(٤٨) كِتَابًا ... وَآيَاتٍ مُبَيَّنَةً تُنيرُ ...فَقَالَ(٤٩) مَا أَتَيْتَ بِأَمِرِ صِدْقٍ ... وَأَنْتَ بِمُنْكَرٍ مِنَّا جَديرُ ...فَقَالَ: بَلى لَقَدْ أديتُ حَقًّا ... يُصَدّقني بِهِ الفَهم الخَبيرُ ...فَمن يَتْبعه يُهدَ لِكُل رُشُد ... وَمَن يَكفُر بِهِ يُجزَ الكَفُورُ ...فَلَمَّا أْشربُوا غَدْرًا وكُفْرًا ... وَجَدّ بِهِمْ عَنِ الحَقّ النَفورُ ...أرَى اللَّهُ النَّبِيَّ بِرَأي صدْق ... وكانَ اللَّهُ يَحكُم لَا يَجُورُ ...فَأيَّدَهُ وَسَلَّطَه عَلَيهم ... وكانَ نَصيرهُ نعْم النَّصيرُ ...فَغُودرَ منْهمُو كَعب صَرِيعًا ... فَذَلَّتْ بعدَ مَصْرَعة النَّضيرُ ...عَلى الكَفَّين ثمَّ وقَدْ عَلَتْهُ ... بِأَيِدِينَا مُشَهَّرة ذكُورُ ...بأمْر مُحَمَّد إِذْ دَس لَيلا ... إلى كَعب أخَا كَعب يَسيرُ ...فَمَا كَرَه فَأنزلَه بِمَكْر ... وَمحمودُ أخُو ثقَة جَسُورُ ...فَتلْك بَنُو النَّضير بِدَارِ سَوء ... أبَارَهُمُ بِمَا اجْتَرَمُوا المُبيرُ ...غَداة أتاهُمُ فِي الزّحْف رَهوًا ... رَسُولُ اللَّهِ وَهّوَ بِهِمْ بَصيرُ ...وَغَسَّانُ الحماةُ مُوازرُوه ... عَلَى الْأَعْدَاءِ وَهْوَ لَهُمْ وَزيرُ ...فَقَالَ: السْلم ويحكمُ فَصَدّوا ... وَحَالفَ أمْرَهَم كَذبٌ وَزُورُ ...فَذَاقُوا غِبَّ أمْرهُمُ دَبَالا ... لكُلّ ثَلاثَة منهُم بَعيرُ ...وَأجلوا عَامدين لقَينُقَاع ... وَغُودرَ مِنْهُم نَخْل ودُورُ(٥٠)قَالَ: وَكَانَ مِمَّا(٥١) قِيلَ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي بَنِي النَّضِيرِ قولُ ابْنِ لُقَيم العَبْسيّ -وَيُقَالُ: قالها قيس بْنُ بَحْرِ بْنِ طَرِيفٍ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ الْأَشْجَعِيُّ:أَهْلِي فدَاءٌ لِامْرِئٍ غَير هَالك ... أحَلّ(٥٢) اليهودَ بالحَسِى(٥٣) المُزَنَّم ...يَقيلُونَ فِي جَمْر الغَضاة وبُدّلُوا ... أهَيضبَ عُودًا بالوَدي المُكَمَّم ...فَإِنْ يَكُ ظَني صَادقًا بمُحَمد ... يَرَوا خَيلَه بينَ الصِّلَا وَيَرمْرَم(٥٤)يَؤمّ بِهَا عَمرو بنُ بُهثَةَ إنَّهُمْ ... عَدُو ما حَيّ صَديق كمُجْرم ...عَلَيهنّ أبطالُ مَساعيرُ فِي الوَغَى ... يَهُزّونَ أطرافَ الوَشيج المُقَوّم ...وكُلّ رَقيق الشَّفرتَين مُهَنَّدٍ ... تُورثْنَ مِنْ أزْمان عَادٍ وَجُرْهُمِ ...فَمَن مُبلغٌ عَني قُرَيشًا رسَالة ... فَهَلْ بَعدَهُم فِي المجْد مِنْ مُتَكرّم ...بِأَنَّ أخاكمُ فاعلَمنّ مُحَمَّدًا ... تَليدُ النَّدى بينَ الحَجُون وزَمْزَم ...فَدينُوا لَهُ بِالْحَقِّ تَجْسُمْ أمُورُكم ... وتَسْمُوا منَ الدنْيا إِلَى كُل مُعْظَم ...نَبِيٌّ تلافَته منَ اللَّهِ رَحَمةٌ ... وَلَا تَسْألُوهُ أمْرَ غَيب مُرَجَّم ...فَقَدْ كانَ فِي بَدْر لَعَمْري عِبرَةٌ ... لَكُم يَا قُرَيش والقَليب المُلَمَّم ...غَدَاة أتَى فِي الخَزْرَجيَّةِ عامِدًا ... إليكُم مُطيعًا للعَظيمِ المُكَرّم ...مُعَانًا برُوح القُدْس يَنْكي عَدوه ... رَسُولا مِنَ الرَّحْمَنِ حَقّا بِمَعْلم ...رَسُولا مِنَ الرَّحْمَنِ يَتْلُو كِتابَهُ ... فَلَمّا أنارَ الحَقّ لَمْ يَتَلعْثَم ...أرَى أمْرَهُ يَزْدَادُ فِي كُلّ مَوْطن ... عُلُوّا لأمرْ حَمَّه اللهُ مُحْكَم(٥٥)وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ إِسْحَاقَ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هاهنا أَشْعَارًا كَثِيرَةً، فِيهَا آدَابٌ وَمَوَاعِظُ وَحِكَمٌ، وَتَفَاصِيلُ لِلْقِصَّةِ، تَرَكْنَا بَاقِيهَا اخْتِصَارًا وَاكْتِفَاءً بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ وَقْعَةِ أُحُدٍ وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَحَكَى الْبُخَارِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَتْ وَقْعَةُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ بَدْرٍ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ(٥٦) .

(١) زيادة من أ.
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٨٨٢) وصحيح مسلم برقم (٣٣١) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٤٨٨٣) .
(٤) في م: "وحده".
(٥) زيادة من م.
(٦) في م: "لا يرد".
(٧) زيادة من سنن أبي داود.
(٨) زيادة من سنن أبي داود.
(٩) سنن أبي داود برقم (٣٠٠٤) .
(١٠) في م: "أصحاب النبي".
(١١) في م: "قتلهما".
(١٢) في م: "لم".
(١٣) في أ: "فمر".
(١٤) زيادة من م، أ.
(١٥) في أ: "نوفل".
(١٦) في م: "ابن عمرو".
(١٧) في م: "بن عمرو".
(١٨) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٩٠ -١٩٢) وتفسير الطبري (٢٨/٢١) .
(١٩) في م: "مما تقدم".
(٢٠) في م، أ: "فليقرأ".
(٢١) تفسير الطبري (٢٨/٢٠) ورواه ابن سعد في الطبقات (٢/٤٢) عن هوذة ابن خليفة، عن عوف، عن الحسن به وهو مرسل.
(٢٢) في أ: "بعض".
(٢٣) في م: "وكانت".
(٢٤) في أ: "سعد".
(٢٥) في م: "كان رسول الله".
(٢٦) في م: "أرض".
(٢٧) دلائل النبوة للبيهقي (٣/٣٥٩) وإسناده مسلسل بالضعفاء.
(٢٨) في م: "أيام".
(٢٩) دلائل النبوة (٣/٣٦٠) .
(٣٠) في م: "من".
(٣١) في م: "كثير".
(٣٢) في م: "نخلهم".
(٣٣) في هـ بياض، وفي م: "بنو قريظة" وهو خطأ، والمثبت من تفسير الطبري. ومستفادا من هامش ط. الشعب.
(٣٤) في م: "وقدره".
(٣٥) في م: "للعدو".
(٣٦) في م: "فأنزل".
(٣٧) في م: "بن".
(٣٨) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٥٧٤) .
(٣٩) في م: "فسألوا".
(٤٠) مسند أبي يعلى (٤/١٣٥) وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيف. تنبيه: رواية سليمان بن موسى عن جابر لم أجدها في مسند أبي يعلى المطبوع فلعلها سقطت.
(٤١) المسند (٢/٧) وصحيح البخاري برقم (٢٠٢١) وصحيح مسلم برقم (١٧٤٦) .
(٤٢) في م: "حارب".
(٤٣) في م: "فقتل من رجالهم وسبى وقسم".
(٤٤) صحيح البخاري برقم (٤٨٨٤) وصحيح مسلم برقم (١٧٤٦) .
(٤٥) في هـ، أ: "نخل بنى النضير، وقطع البويرة"، وقوله: "قطع البويرة" غير ثابت في البخاري، ويبدو أنه سهو من الناسخ.
(٤٦) صحيح البخاري برقم (٤٠٣٢) .
(٤٧) في أ: "خربت".
(٤٨) في م: "أوتي".
(٤٩) في م: "فقالوا".
(٥٠) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٩٩) .
(٥١) في م: "ومما كان".
(٥٢) في أ: "أجلي".
(٥٣) في م، أ: "بالحس".
(٥٤) في أ: "بين الصفا وبزمزم".
(٥٥) انظر: السيرة النبوية لابن هشام (٢/١٩٥) .
(٥٦) صحيح البخاري (٧/٣٢٩) "فتح".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 24 مايو 2023

من سورة الحديد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٠_٢١
من سورة الحديد 
﴿ٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱ وَزِینَةࣱ وَتَفَاخُرُۢ بَیۡنَكُمۡ وَتَكَاثُرࣱ فِی ٱلۡأَمۡوَ ٰ⁠لِ وَٱلۡأَوۡلَـٰدِۖ كَمَثَلِ غَیۡثٍ أَعۡجَبَ ٱلۡكُفَّارَ نَبَاتُهُۥ ثُمَّ یَهِیجُ فَتَرَىٰهُ مُصۡفَرࣰّا ثُمَّ یَكُونُ حُطَـٰمࣰاۖ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ عَذَابࣱ شَدِیدࣱ وَمَغۡفِرَةࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَ ٰ⁠نࣱۚ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ (٢٠) سَابِقُوۤا۟ إِلَىٰ مَغۡفِرَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا كَعَرۡضِ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ أُعِدَّتۡ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ ذَ ٰ⁠لِكَ فَضۡلُ ٱللَّهِ یُؤۡتِیهِ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ ذُو ٱلۡفَضۡلِ ٱلۡعَظِیمِ (٢١)﴾ [الحديد ٢٠-٢١]

يَقُولُ تَعَالَى مُوهنًا أَمْرَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمُحَقِّرًا لَهَا: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا حَاصِلُ أَمْرِهَا عِنْدَ أَهْلِهَا هَذَا، كَمَا قَالَ: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٤]ثُمَّ ضَرَبَ تَعَالَى مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي أَنَّهَا زَهْرَةٌ فَانِيَةٌ وَنِعْمَةٌ زَائِلَةٌ فَقَالَ: ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ﴾ وَهُوَ: الْمَطَرُ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَ قُنُوطِ النَّاسِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ] ﴾ [الشُّورَى: ٢٨](١)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾ أَيْ: يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ نَبَاتُ ذَلِكَ الزَّرْعِ الَّذِي نَبَتَ بِالْغَيْثِ؛ وَكَمَا يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ذَلِكَ كَذَلِكَ تُعْجِبُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا الْكُفَّارَ، فَإِنَّهُمْ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَأَمْيَلُ النَّاسِ إِلَيْهَا، ﴿ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا﴾ أَيْ: يَهِيجُ ذَلِكَ الزَّرْعُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا بَعْدَ مَا كَانَ خَضِرًا(٢) نَضِرًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ كُلُّهُ حُطَامًا، أَيْ: يَصِيرُ يَبَسًا مُتَحَطِّمًا، هَكَذَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا تَكُونُ أَوَّلًا شَابَّةً، ثُمَّ تَكْتَهِلُ، ثُمَّ تَكُونُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، وَالْإِنْسَانُ كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ عُمْرِهِ وَعُنْفُوَانِ شَبَابِهِ غَضًّا طَرِيًّا لَيِّنَ الْأَعْطَافِ، بَهِيَّ الْمَنْظَرِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَشْرَعُ فِي الْكُهُولَةِ فَتَتَغَيَّرُ طِبَاعُهُ وَيَنْفَد(٣) بَعْضُ قُوَاهُ، ثُمَّ يَكْبَرُ فَيَصِيرُ شَيْخًا كَبِيرًا، ضَعِيفَ الْقُوَى، قَلِيلَ الْحَرَكَةِ، يُعْجِزُهُ الشَّيْءُ الْيَسِيرُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ [الرُّومِ: ٥٤] . وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْمَثَلُ دَالًّا عَلَى زَوَالِ الدُّنْيَا وَانْقِضَائِهَا وَفَرَاغِهَا لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ كَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، حَذّر مِنْ أَمْرِهَا وَرَغَّبَ فِيمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ، فَقَالَ: ﴿وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ أَيْ: وَلَيْسَ فِي الْآخِرَةِ الْآتِيَةِ الْقَرِيبَةِ إِلَّا إِمَّا هَذَا وَإِمَّا هَذَا: إِمَّا عَذَابٌ شَدِيدٌ، وَإِمَّا مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ أَيْ: هِيَ مَتَاعٌ فانٍ غارٍّ(٤) لمن ركن إليه فإنه يغتر بِهَا وَتُعْجِبُهُ حَتَّى يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا دَارَ سِوَاهَا وَلَا مَعَادَ وَرَاءَهَا، وَهِيَ حَقِيرَةٌ قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عَلَيُّ ابْنُ حَرْبٍ الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الجنة خير من الدنيا وما فيها. اقرؤوا: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(٥)وَهَذَا الْحَدِيثُ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ(٦) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ ووَكِيع، كِلَاهُمَا عَنِ الْأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَلْجنة أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ شِرَاك نَعْلِهِ، وَالنَّارُ مِثْلُ ذَلِكَ".انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ الْبُخَارِيُّ فِي "الرِّقَاقِ"، مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ(٧)فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى اقْتِرَابِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنَ الْإِنْسَانِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ فَلِهَذَا حَثَّهُ اللَّهُ(٨) عَلَى الْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ، مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، الَّتِي تُكَفِّرُ عَنْهُ الذُّنُوبَ وَالزَّلَّاتِ، وَتُحَصِّلُ لَهُ الثَّوَابَ وَالدَّرَجَاتِ، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾ وَالْمُرَادُ جِنْسُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٣] . وقال هاهنا: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ أَيْ: هَذَا الَّذِي أَهَّلَهُمُ اللَّهُ لَهُ هُوَ مِنْ فَضْلِهِ وَمَنِّهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، كَمَا قدَّمنا فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثور بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟ ". قَالُوا: يُصلُّون كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، ويُعتقون وَلَا نُعْتِق. قَالَ: "أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُر كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ". قَالَ: فَرَجَعُوا فَقَالُوا: سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ مَا فَعَلْنَا، فَفَعَلُوا مِثْلَهُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يؤتيه من يشاء"(٩)

(١) زيادة من أ.
(٢) في أ: "ما أخضر".
(٣) في أ: "ويفقد".
(٤) في أ: "عار".
(٥) تفسير الطبري (٢٧/١٣٤) وليس في المطبوع هذه الزيادة، فلعل الحافظ رآها في نسخة أخرى.
(٦) صحيح البخاري برقم (٦٤١٥) من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه.
(٧) المسند (١/٣٨٧) وصحيح البخاري برقم (٦٤٨٨) .
(٨) في م: "فلهذا حث تعالى".
(٩) صحيح البخاري برقم (٨٤٣) وصحيح مسلم برقم (٥٩٥) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 19 مايو 2023

من سورة الكهف

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٩٩_١١٠
من سورة الكهف 
﴿۞ وَتَرَكۡنَا بَعۡضَهُمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ یَمُوجُ فِی بَعۡضࣲۖ وَنُفِخَ فِی ٱلصُّورِ فَجَمَعۡنَـٰهُمۡ جَمۡعࣰا (٩٩) وَعَرَضۡنَا جَهَنَّمَ یَوۡمَىِٕذࣲ لِّلۡكَـٰفِرِینَ عَرۡضًا (١٠٠) ٱلَّذِینَ كَانَتۡ أَعۡیُنُهُمۡ فِی غِطَاۤءٍ عَن ذِكۡرِی وَكَانُوا۟ لَا یَسۡتَطِیعُونَ سَمۡعًا (١٠١) أَفَحَسِبَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَن یَتَّخِذُوا۟ عِبَادِی مِن دُونِیۤ أَوۡلِیَاۤءَۚ إِنَّاۤ أَعۡتَدۡنَا جَهَنَّمَ لِلۡكَـٰفِرِینَ نُزُلࣰا (١٠٢) قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِینَ أَعۡمَـٰلًا (١٠٣) ٱلَّذِینَ ضَلَّ سَعۡیُهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ یَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ یُحۡسِنُونَ صُنۡعًا (١٠٤) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِـَٔایَـٰتِ رَبِّهِمۡ وَلِقَاۤىِٕهِۦ فَحَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فَلَا نُقِیمُ لَهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ وَزۡنࣰا (١٠٥) ذَ ٰ⁠لِكَ جَزَاۤؤُهُمۡ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا۟ وَٱتَّخَذُوۤا۟ ءَایَـٰتِی وَرُسُلِی هُزُوًا (١٠٦) إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ كَانَتۡ لَهُمۡ جَنَّـٰتُ ٱلۡفِرۡدَوۡسِ نُزُلًا (١٠٧) خَـٰلِدِینَ فِیهَا لَا یَبۡغُونَ عَنۡهَا حِوَلࣰا (١٠٨) قُل لَّوۡ كَانَ ٱلۡبَحۡرُ مِدَادࣰا لِّكَلِمَـٰتِ رَبِّی لَنَفِدَ ٱلۡبَحۡرُ قَبۡلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَـٰتُ رَبِّی وَلَوۡ جِئۡنَا بِمِثۡلِهِۦ مَدَدࣰا (١٠٩) قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰ⁠حِدࣱۖ فَمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا (١١٠)﴾ [الكهف ٩٩-١١٠]

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ﴾ الضَّمِيرُ فِي "تَرَكْنا" لِلَّهِ تَعَالَى، أَيْ تَرَكْنَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَقِيلَ: تَرَكْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ "يَوْمَئِذٍ" أَيْ وَقْتَ كَمَالِ السَّدِّ يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ. وَاسْتِعَارَةُ الْمَوْجِ لَهُمْ عِبَارَةٌ عَنِ الْحِيرَةِ وَتَرَدُّدِ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ، كَالْمُوَلَّهِينَ مِنْ هَمٍّ وَخَوْفٍ، فَشَبَّهَهُمْ بِمَوْجِ الْبَحْرِ الَّذِي يَضْطَرِبُ بَعْضُهُ فِي بَعْضٍ. وَقِيلَ: تَرَكْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَ انْفِتَاحِ السَّدِّ يَمُوجُونَ فِي الدُّنْيَا مُخْتَلِطِينَ لِكَثْرَتِهِمْ. قُلْتُ: فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَظْهَرُهَا أَوْسَطُهَا، وَأَبْعَدُهَا آخِرُهَا، وَحَسُنَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِيَامَةِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي". وَاللَّهُ أَعْلَمُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ﴾ تَقَدُّمَ فِي (الْأَنْعَامِ)(١).(فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) يَعْنِي الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ.(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) ١٠٠ أَيْ أَبْرَزْنَاهَا لَهُمْ.(يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) ١٠٠ (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) فِي مَوْضِعِ خَفْضِ نَعْتٍ "لِلْكَافِرِينَ".(فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) ١٠ أَيْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ عَيْنُهُ مُغَطَّاةٌ فَلَا يَنْظُرُ إِلَى دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى.(وَكانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) ١٠ أَيْ لَا يُطِيقُونَ أَنْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صُمَّ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ١٠ أَيْ ظَنَّ. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَعِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: "أَفَحَسِبَ" بِإِسْكَانِ السِّينِ وَضَمِّ الْبَاءِ، أَيْ كَفَاهُمْ.(أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) ١٠ يَعْنِي عِيسَى وَالْمَلَائِكَةَ وَعُزَيْرًا.(مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) ١٠ وَلَا أُعَاقِبُهُمْ، فَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى، أَفَحَسِبُوا أَنْ يَنْفَعَهُمْ ذَلِكَ.(إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا) ١٠.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا﴾ ١٠ إلى قوله: (وَزْناً) فيه مسألتان: الاولى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا﴾ ١٠ - الْآيَةَ- فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْمَلُ الْعَمَلَ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ وَقَدْ حَبِطَ سَعْيُهُ، وَالَّذِي يُوجِبُ إِحْبَاطَ السَّعْيِ إِمَّا فَسَادُ الِاعْتِقَادِ أَوِ الْمُرَاءَاةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الكفر. روى البخاري عن مصعب قال: سألت أبي "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ١٠" أَهُمُ الْحَرُورِيَّةُ؟ قَالَ: لَا، هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَأَمَّا الْيَهُودُ فَكَذَّبُوا مُحَمَّدًا ﷺ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَفَرُوا بِالْجَنَّةِ، فَقَالُوا: لَا طَعَامَ فِيهَا وَلَا شَرَابَ، وَالْحَرُورِيَّةُ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ، وَكَانَ سَعْدٌ يُسَمِّيهِمُ الْفَاسِقِينَ. وَالْآيَةُ مَعْنَاهَا التَّوْبِيخُ، أَيْ قُلْ لِهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ الَّذِينَ عَبَدُوا غَيْرِي: يَخِيبُ سَعْيُهُمْ وَآمَالُهُمْ غَدًا، فَهُمُ الْأَخْسَرُونَ أَعْمَالًا، وَهُمُ "الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ١٠" فِي عِبَادَةِ مَنْ سِوَايَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ كُفَّارَ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: هُمُ الْخَوَارِجُ أَهْلُ حَرُورَاءَ. وَقَالَ مُرَّةُ: هُمُ الرُّهْبَانُ أَصْحَابُ الصَّوَامِعِ (. وَرُوِيَ أَنَّ ابْنَ الْكَوَّاءِ سَأَلَهُ عَنِ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُضَعِّفُ هَذَا كُلَّهُ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: "أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ١٠". وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ مَنْ يَكْفُرُ بِاللَّهِ وَلِقَائِهِ وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ مُشْرِكِي مَكَّةَ(٢) عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ، وَعَلِيٌّ وَسَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ذَكَرَا أَقْوَامًا أَخَذُوا بِحَظِّهِمْ مِنْ هَذِهِ(٣) الْآيَةِ. وَ "أَعْمالًا ١٠" نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ. وَ "حَبِطَتْ" قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ بِكَسْرِ الْبَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "حَبَطَتْ" بِفَتْحِهَا(٤). الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً﴾ ١٠ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ "نُقِيمُ ١٠" بَنُونِ الْعَظَمَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: بِيَاءِ الْغَائِبِ، يُرِيدُ فَلَا يُقِيمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَقَرَأَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ "فَلَا يَقُومُ" وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْرَأَ: "وَزْنٌ" وَكَذَلِكَ قَرَأَ مُجَاهِدٌ: "فَلَا يَقُومُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنٌ". قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالرَّجُلِ الْعَظِيمِ الطَّوِيلِ الْأَكُولِ الشَّرُوبِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ. قُلْتُ: هَذَا لَا يُقَالُ مِثْلُهُ مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ، وقد ثبت معناه مرفوعا صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّهُ لَيَأْتِيُ الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ١٠. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا ثَوَابَ لَهُمْ، وَأَعْمَالُهُمْ مُقَابَلَةٌ بِالْعَذَابِ، فَلَا حَسَنَةَ لَهُمْ تُوزَنُ فِي مَوَازِينِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ لَا حَسَنَةَ لَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: يؤتى بأعمال كَجِبَالِ تِهَامَةَ فَلَا تَزِنُ شَيْئًا. وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ الْمَجَازَ وَالِاسْتِعَارَةَ، كَأَنَّهُ قَالَ: فَلَا قَدْرَ لَهُمْ عِنْدَنَا يَوْمئِذٍ(٥)، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْفِقْهِ ذَمُّ السِّمَنِ لِمَنْ تَكَلَّفَهُ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَكَلُّفِ الْمَطَاعِمِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا عَنِ الْمَكَارِمِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الْأَكْلِ الزَّائِدِ عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ الْمُبْتَغَى بِهِ التَّرَفُّهُ وَالسِّمَنُ. وَقَدْ قَالَ ﷺ: (إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الْحَبْرُ السَّمِينُ). وَمِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ- قَالَ عِمْرَانُ فَلَا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً- ثُمَّ إِنَّ مِنْ بَعْدِكُمْ قَوْمًا يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمون وَيَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ (وَهَذَا ذَمٌّ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ السِّمَنَ الْمُكْتَسَبَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشَّرَهِ، وَالدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ وَالْأَمْنِ وَالِاسْتِرْسَالِ مَعَ النَّفْسِ عَلَى شَهَوَاتِهَا، فَهُوَ عَبْدُ نَفْسِهِ لَا عَبْدُ رَبِّهِ، وَمَنْ كَانَ هَذَا حَالَهُ وَقَعَ لَا مَحَالَةَ فِي الْحَرَامِ، وَكُلُّ لَحْمٍ تَوَلَّدَ عَنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الْكُفَّارَ بِكَثْرَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ﴾(٦) [محمد: ١٢] فَإِذَا كَانَ الْمُؤْمِنُ يَتَشَبَّهُ بِهِمْ، وَيَتَنَعَّمُ بِتَنَعُّمِهِمْ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ وَأَزْمَانِهِ، فَأَيْنَ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ، وَالْقِيَامُ بِوَظَائِفِ الْإِسْلَامِ؟! وَمَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ وَشُرْبُهُ كَثُرَ نَهَمُهُ وَحِرْصُهُ، وَزَادَ بِاللَّيْلِ كَسَلُهُ وَنَوْمُهُ، فَكَانَ نَهَارَهُ هَائِمًا، وَلَيْلَهُ نَائِمًا. وَقَدْ مَضَى فِي "الْأَعْرَافِ"(٧) هَذَا الْمَعْنَى، وَتَقَدَّمَ فِيهَا ذِكْرُ الْمِيزَانِ(٨)، وَأَنَّ لَهُ كِفَّتَيْنِ تُوزَنُ فِيهِمَا صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ فَلَا مَعْنَى لِلْإِعَادَةِ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ ضَحِكُوا مِنْ حَمْشِ(٩) سَاقِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَصْعَدُ النَّخْلَةَ: (تَضْحَكُونَ مِنْ سَاقٍ تُوزَنُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْأَرْضِ) فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَشْخَاصَ تُوزَنُ، ذَكَرَهُ الْغَزْنَوِيُّ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ذلِكَ جَزاؤُهُمْ﴾  "ذلِكَ" إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِ الْوَزْنِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ "جَزاؤُهُمْ" خَبَرُهُ و (جَهَنَّمُ) ٢٠ بَدَلٌ مِنَ الْمُبْتَدَإِ الَّذِي هُوَ "ذلِكَ" و "ما" فِي قَوْلِهِ: "بِما كَفَرُوا ١٠" مَصْدَرِيَّةٌ، وَالْهُزُءُ الِاسْتِخْفَافُ والسخرية، وقد تقدم.قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا) ١٠ قَالَ قَتَادَةُ: الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَعْلَاهَا وَأَفْضَلُهَا وَأَرْفَعُهَا. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ: الْفِرْدَوْسُ سُرَّةُ الْجَنَّةِ. وَقَالَ كَعْبٌ: لَيْسَ فِي الْجِنَانِ جَنَّةٌ أَعْلَى مِنْ جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ، فِيهَا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُبَشِّرَ النَّاسَ؟ قَالَ: (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ- أَرَاهُ قَالَ- وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْفِرْدَوْسُ الْبُسْتَانُ بِالرُّومِيَّةِ. الْفَرَّاءُ: هُوَ عَرَبِيٌّ. وَالْفِرْدَوْسُ حَدِيقَةٌ فِي الْجَنَّةِ. وَفِرْدَوْسُ اسْمُ رَوْضَةٍ دُونَ الْيَمَامَةِ. وَالْجَمْعُ فَرَادِيسُ، قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ الثَّقَفِيُّ:كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظَاهِرَةً ... فِيهَا الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُوَالْفَرَادِيسُ مَوْضِعٌ بِالشَّامِ. وَكَرْمٌ مُفَرْدَسٌ أَيْ مُعَرَّشٌ.(خالِدِينَ فِيها) أَيْ دَائِمِينَ.(لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا) ١٠ أَيْ لَا يَطْلُبُونَ تَحْوِيلًا عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَالْحِوَلُ بِمَعْنَى التَّحْوِيلِ، قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: حَالَ مِنْ مَكَانِهِ حِوَلًا كَمَا يُقَالُ: عَظُمَ عِظَمًا. قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْحِيلَةِ، أَيْ لَا يحتالون منزلا غيرها. وقال الجوهري: التحول التنقل من موضع إلى وضع، وَالِاسْمُ الْحِوَلُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿خالِدِينَ فِيها لَا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا ١٠﴾.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي﴾ ١٠ نَفِدَ الشَّيْءُ إِذَا تَمَّ وَفَرَغَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ.(وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ١٠ أَيْ زِيَادَةً عَلَى الْبَحْرِ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ "مِداداً ١٠" وَكَذَلِكَ قَرَأَهَا مُجَاهِدٌ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ. وَانْتَصَبَ "مَدَداً ١٠" عَلَى التَّمْيِيزِ أَوِ الْحَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَتِ الْيَهُودُ لَمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العلم إلا قليلا﴾(١٠) [الاسراء: ٨٥] قالوا: وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا؟ فَنَزَلَتْ: "قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ ١٠" الْآيَةَ. وَقِيلَ: قَالَتِ الْيَهُودُ إِنَّكَ أُوتِيتَ الْحِكْمَةَ، وَمَنْ أُوتِيَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا، ثُمَّ زَعَمْتَ أَنَّكَ لَا عِلْمَ لَكَ بِالرُّوحِ؟! فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ وَإِنْ أُوتِيَتُ الْقُرْآنَ وَأُوتِيتُمُ التَّوْرَاةَ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَلِمَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَلِيلَةٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لِكَلِماتِ رَبِّي ١٠" أَيْ مَوَاعِظُ رَبِّي. وَقِيلَ: عَنَى بِالْكَلِمَاتِ الْكَلَامَ الْقَدِيمَ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ وَلَا مُنْتَهَى، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَيَجُوزُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ لِمَا فِيهِ مِنْ فرائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عَنْهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ تَفْخِيمًا، وَقَالَ الْأَعْشَى:وَوَجْهٌ نَقِيُّ اللَّوْنِ صَافٍ يَزِينُهُ ... مَعَ الْجِيدِ لَبَّاتٌ لَهَا وَمَعَاصِمُفَعَبَّرَ بِاللَّبَّاتِ عَنِ اللَّبَّةِ. وَفِي التنزيل ﴿نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ﴾(١١) [فصلت: ٣١] و ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ﴾(١٢) [الحجر: ٩]  ﴿وإنا لنحن نحيي ونميت﴾(١٣) [الحجر: ٢٣] وكذلك ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ١٢٠﴾(١٤) [النحل: ١٢٠] لِأَنَّهُ نَابَ مَنَابَ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: أَيْ مَا نَفِدَتِ الْعِبَارَاتُ وَالدَّلَالَاتُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى مَفْهُومَاتِ مَعَانِي كَلَامِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَيْ إِنْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ صِفَاتُ الْجَنَّةِ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ ثَوَابُ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ﴾(١٥) [لقمان: ٢٧]. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ" بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ﴾ ١١٠ أَيْ لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا يُعَلِّمُنِي اللَّهُ تَعَالَى، وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُحْصَى، وَإِنَّمَا أُمِرْتُ بِأَنْ أُبَلِّغَكُمْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ١١٠ أَيْ يَرْجُو رُؤْيَتَهُ وَثَوَابَهُ وَيَخْشَى عِقَابَهُ (فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ١١٠ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي جُنْدُبِ بْنِ زُهَيْرٍ الْعَامِرِيِّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْمَلُ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأُرِيدُ به وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، إِلَّا أَنَّهُ إِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الطَّيِّبَ وَلَا يَقْبَلُ مَا شُورِكَ فِيهِ) فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ طَاوُسٌ قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أُحِبُّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: جَاءَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنِّي أَتَصَدَّقُ وَأَصِلُ الرَّحِمَ وَلَا أَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيُذْكَرُ ذَلِكَ مِنِّي وَأُحْمَدُ عَلَيْهِ فَيَسُرُّنِي ذَلِكَ وَأُعْجِبُ بِهِ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ١١٠". قُلْتُ: وَالْكُلُّ مُرَادٌ، وَالْآيَةُ تَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَغَيْرَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "هُودٍ"(١٦) حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ الصَّحِيحُ فِي الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ أَوَّلَ النَّاسِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ "النِّسَاءِ"(١٧) الْكَلَامُ عَلَى الرِّيَاءِ، وَذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ هُنَاكَ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَقَالَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ١١٠" إِنَّهُ لَا يُرَائِي بِعَمَلِهِ أَحَدًا. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي (نَوَادِرِ الْأُصُولِ) قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: حَدَّثَنَا مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قال: حدثنا عبد الواحد ابن زَيْدٍ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ قَالَ: أَتَيْتُ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ فِي مُصَلَّاهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا الَّذِي أَبْكَاكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا، إِذْ رَأَيْتُ بِوَجْهِهِ أَمْرًا سَاءَنِي فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الَّذِي أَرَى بِوَجْهِكَ؟ قَالَ: (أَمْرًا أَتَخَوَّفُهُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي) قُلْتُ: مَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الشِّرْكُ وَالشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَتُشْرِكُ أُمَّتُكَ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ: (يَا شَدَّادُ أَمَا إِنَّهُمْ لَا يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا حَجَرًا وَلَا وَثَنًا وَلَكِنَّهُمْ يُرَاءُونَ بِأَعْمَالِهِمْ) قلت: [يا رسول الله(١٨) وَالرِّيَاءُ شِرْكٌ هُوَ؟ قَالَ: (نَعَمْ). قُلْتُ: فَمَا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ؟ قَالَ: (يُصْبِحُ أَحَدُهُمْ صَائِمًا فَتَعْرِضُ لَهُ شَهَوَاتُ الدُّنْيَا فَيُفْطِرُ) قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ: فَلَقِيتُ الْحَسَنَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَعِيدٍ! أَخْبِرْنِي عَنِ الرِّيَاءِ أَشِرْكٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا تقرأ "فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ١١٠". وَرَوَى إسماعيل بن أسحق قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: كَانَ عُبَادَةُ بْنُ الصامت وشداد ابن أَوْسٍ جَالِسَيْنِ، فَقَالَا: إِنَّا نَتَخَوَّفُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ، فَأَمَّا الشَّهْوَةُ الْخَفِيَّةُ فَمِنْ قِبَلِ النِّسَاءِ. وَقَالَا: سَمِعْنَا رَسُولَ الله ﷺ يقول: (من صَلَّى صَلَاةً يُرَائِي بِهَا فَقَدْ أَشْرَكَ وَمَنْ صَامَ صِيَامًا يُرَائِي بِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ) ثُمَّ تَلَا "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (. قُلْتُ: وَقَدْ جَاءَ تَفْسِيرُ الشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ بِخِلَافِ هَذَا، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي" النِّسَاءِ"(١٩). وَقَالَ سَهْلُ بن عبد الله: وسيل الْحَسَنُ عَنِ الْإِخْلَاصِ وَالرِّيَاءِ فَقَالَ: مِنَ الْإِخْلَاصِ أَنْ تُحِبَّ أَنْ تَكْتُمَ حَسَنَاتِكَ وَلَا تُحِبَّ أَنْ تَكْتُمَ سَيِّئَاتِكَ، فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ عَلَيْكَ حَسَنَاتِكَ تَقُولُ هَذَا مِنْ فَضْلِكَ وَإِحْسَانِكَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ فِعْلِي وَلَا مِنْ صَنِيعِي، وَتَذْكُرُ قوله تعالى: "فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً. ١١٠" ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا ٦٠﴾(٢٠) [المؤمنون: ١٠] الْآيَةَ، يُؤْتُونَ الْإِخْلَاصَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، وَأَمَّا الرِّيَاءُ فَطَلَبُ حَظِّ النَّفْسِ مِنْ عَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا، قِيلَ لَهَا: كَيْفَ يَكُونُ هَذَا؟ قَالَ: مَنْ طَلَبَ بِعَمَلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى سِوَى وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَهُوَ رِيَاءٌ. وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَقَدْ يُفْضِي الرِّيَاءُ بِصَاحِبِهِ إِلَى اسْتِهْزَاءِ النَّاسِ بِهِ، كَمَا يُحْكَى أَنَّ طَاهِرَ بْنَ الْحُسَيْنِ قَالَ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْمَرْوَزِيِّ: مُنْذُ كَمْ صِرْتَ إِلَى الْعِرَاقِ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: دَخَلْتُ الْعِرَاقَ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَأَنَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً صَائِمٌ، فَقَالَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَأَلْنَاكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَبْتِنَا عَنْ مَسْأَلَتَيْنِ. وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا صَلَّى فَأَطَالَ وَإِلَى جَانِبِهِ قَوْمٌ، فَقَالُوا: مَا أَحْسَنَ صَلَاتَكَ؟! فَقَالَ: وَأَنَا مَعَ ذَلِكَ صَائِمٌ أَيْنَ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ وَقَدْ صَلَّى فَخَفَّفَ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّكَ خَفَّفْتَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهَا رِيَاءٌ، فَخَلَصَ مِنْ تَنَقَّصَهُمْ بِنَفْيِ الرِّيَاءِ عَنْ نَفْسِهِ، وَالتَّصَنُّعِ مِنْ صَلَاتِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي "النِّسَاءِ" دَوَاءُ الرِّيَاءِ مِنْ قَوْلِ لُقْمَانَ، وَأَنَّهُ كِتْمَانُ الْعَمَلِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ حَدَّثَنَا أَبِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَنْبَأَنَا الْحِمَّانِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ شَيْخٍ عَنْ(٢١) مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَشَهِدَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الشِّرْكَ، قَالَ: (هُوَ فِيكُمْ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النمل وسأدلك على شي إِذَا فَعَلْتَهُ أَذْهَبَ عَنْكَ صِغَارَ الشِّرْكِ وَكِبَارَهُ تَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ تَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ الْكِنْدِيُّ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى المنبر "فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ١١٠" فَقَالَ: إِنَّهَا لَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ. وَقَالَ عُمَرَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ مَنْ قرأ "فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً ١١٠" رُفِعَ لَهُ نُورٌ مَا بَيْنَ عَدَنَ إِلَى مَكَّةَ حَشْوُهُ الْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ (. وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:) مَنْ قَرَأَ أَوَّلَ سُورَةِ الْكَهْفِ وَآخِرَهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنْ قَرْنِهِ إِلَى قَدَمِهِ وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا مِنَ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: إِنِّي أُضْمِرُ أَنْ أَقُومَ سَاعَةً مِنَ اللَّيْلِ فَيَغْلِبُنِي النَّوْمُ، فَقَالَ: (إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَقُومَ أَيَّ سَاعَةٍ شِئْتَ مِنَ اللَّيْلِ فَاقْرَأْ إِذَا أَخَذْتَ مَضْجَعَكَ: "قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ١٠" إِلَى آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوقِظُكَ مَتَى شِئْتَ مِنَ اللَّيْلِ (، ذَكَرَ هَذِهِ الْفَضَائِلَ الثَّعْلَبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ. وَفِي مُسْنَدِ الدَّارِمِيِّ أَبِي مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ عَنْ عَبْدَةَ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ آخِرَ سُورَةِ الْكَهْفِ لِسَاعَةٍ يُرِيدُ أَنْ يَقُومَ مِنَ اللَّيْلِ قَامَهَا، قَالَ عَبْدَةُ: فَجَرَّبْنَاهُ فَوَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: كَانَ شَيْخُنَا الطُّرْطُوشِيُّ الْأَكْبَرُ يَقُولُ: لَا تَذْهَبْ بِكُمُ الْأَزْمَانُ فِي مُصَاوَلَةِ الْأَقْرَانِ، وَمُوَاصَلَةِ الْإِخْوَانِ، وَقَدْ خَتَمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْبَيَانَ بِقَوْلِهِ: "فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالحا ولا يشرك بعيادة رَبِّهِ أَحَدًا".

(١) راجع ج ٧ ص ٢٠ فما بعد.
(٢) في ج: العرب.
(٣) في ك وى: من صدر الآية.
(٤) في ج: بفتح الباء.
(٥) في ك: يوم القيامة.
(٦) راجع ج ١٦ ص ٢٣٤.
(٧) راجع ج ٧ ص ١٩١ فما بعد وص ١٦٥.
(٨) راجع ج ٧ ص ١٩١ فما بعد وص ١٦٥.
(٩) حمش الساق: دقيقها.
(١٠) راجع ج ١٠ ص ٣٢٣.
(١١) راجع ج ١٥ ص ٣٥٧.
(١٢) راجع ج ١٠ ص ٥ وص ١٨ وص ١٩٨.
(١٣) راجع ج ١٠ ص ٥ وص ١٨ وص ١٩٨.
(١٤) راجع ج ١٠ ص ٥ وص ١٨ وص ١٩٨.
(١٥) راجع ج ١٣ ص ٧٦.
(١٦) راجع ج ٩ ص ١٤.
(١٧) راجع ج ٥ ص ١٨٠ فما بعد.
(١٨) من ج وك وى.]
(١٩) راجع ج ٥ ص ١٨١.
(٢٠) راجع ج ١٢ ص ١٣٢.
(٢١) في ك: قال.
(

(تفسير القرطبي — القرطبي (٦٧١ هـ))

الخميس، 18 مايو 2023

من سورة الحديد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٧_١١
من سورة الحديد
﴿ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَأَنفِقُوا۟ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسۡتَخۡلَفِینَ فِیهِۖ فَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مِنكُمۡ وَأَنفَقُوا۟ لَهُمۡ أَجۡرࣱ كَبِیرࣱ (٧) وَمَا لَكُمۡ لَا تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ یَدۡعُوكُمۡ لِتُؤۡمِنُوا۟ بِرَبِّكُمۡ وَقَدۡ أَخَذَ مِیثَـٰقَكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ (٨) هُوَ ٱلَّذِی یُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦۤ ءَایَـٰتِۭ بَیِّنَـٰتࣲ لِّیُخۡرِجَكُم مِّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمۡ لَرَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ (٩) وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تُنفِقُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِیرَ ٰ⁠ثُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَا یَسۡتَوِی مِنكُم مَّنۡ أَنفَقَ مِن قَبۡلِ ٱلۡفَتۡحِ وَقَـٰتَلَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَعۡظَمُ دَرَجَةࣰ مِّنَ ٱلَّذِینَ أَنفَقُوا۟ مِنۢ بَعۡدُ وَقَـٰتَلُوا۟ۚ وَكُلࣰّا وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلۡحُسۡنَىٰۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣱ (١٠) مَّن ذَا ٱلَّذِی یُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنࣰا فَیُضَـٰعِفَهُۥ لَهُۥ وَلَهُۥۤ أَجۡرࣱ كَرِیمࣱ (١١)﴾ [الحديد ٧-١١]

أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ عَلَى ذَلِكَ وَالِاسْتِمْرَارِ، وَحَثَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ أَيْ مِمَّا هُوَ مَعَكُمْ عَلَى سَبِيلِ الْعَارِيَةِ، فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ فِي أَيْدِي مَنْ قَبْلَكُمْ ثُمَّ صَارَ إِلَيْكُمْ، فَأَرْشَدَ تَعَالَى إِلَى اسْتِعْمَالِ مَا اسْتَخْلَفَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَالِ فِي طَاعَتِهِ، فَإِنْ(١) يَفْعَلُوا وَإِلَّا حَاسَبَهُمْ عَلَيْهِ وَعَاقَبَهُمْ لِتَرْكِهِمُ الْوَاجِبَاتِ فِيهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ سَيَكُونُ مُخَلَّفًا عَنْكَ، فَلَعَلَّ وَارِثَكَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ، فَيَكُونَ أَسْعَدَ بِمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ مِنْكَ، أَوْ يَعْصِيَ اللَّهَ فِيهِ فَتَكُونَ قَدْ سَعَيْتَ فِي مُعَاوَنَتِهِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدِّثُ، عَنْ مُطَرَّف-يَعْنِي بْنَ عَبْدِ الله بن الشخير-عن أبيه قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: " ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ [التَّكَاثُرِ:١] ، يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي! وَهَلْ لَكَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ".وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، بِهِ(٢) وَزَادَ: "وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَذَاهِبٌ وَتَارِكُهُ لِلنَّاسِ"
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ تَرْغِيبٌ فِي الْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّاعَةِ،ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ﴾ ؟ أَيْ: وَأَيُّ شَيْءٍ يَمْنَعُكُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالرَّسُولُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ وَيُبَيِّنُ لَكُمُ الْحُجَجَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَى صِحَّةِ مَا جَاءَكُمْ بِهِ؟ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ طُرُق فِي أَوَائِلَ شَرْحِ "كِتَابِ الْإِيمَانِ" مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ: "أيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْجَبُ إِلَيْكُمْ إِيمَانًا؟ " قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ. قَالَ: "وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ؟ " قَالُوا: فَالْأَنْبِيَاءُ. قَالَ: "وَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِمْ؟ ". قَالُوا: فَنَحْنُ؟ قَالَ: "وَمَا لَكَمَ لَا تُؤْمِنُونَ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ وَلَكِنْ أَعْجَبُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا قَوْمٌ يجيؤون بَعْدِكُمْ يَجِدُونَ صُحُفًا يُؤْمِنُونَ بِمَا فِيهَا"(٣)وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٣] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [الْمَائِدَةِ:٧] . وَيَعْنِي بِذَلِكَ: بَيْعَةَ الرَّسُولِ ﷺ.وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْمِيثَاقُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ فِي صُلْبِ آدَمَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مُجَاهِدٍ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي يُنزلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أَيْ: حُجَجًا وَاضِحَاتٍ، وَدَلَائِلَ بَاهِرَاتٍ، وَبَرَاهِينَ قَاطِعَاتٍ، ﴿لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ أَيْ: مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ والآراء الْمُتَضَادَّةِ إِلَى نُورِ الْهُدَى وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ أَيْ: فِي إِنْزَالِهِ الْكُتُبَ وَإِرْسَالِهِ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ النَّاسِ، وَإِزَاحَةِ الْعِلَلِ وَإِزَالَةِ الشُّبَهِ.وَلَمَّا أَمَرَهُمْ أَوَّلًا بِالْإِيمَانِ وَالْإِنْفَاقِ، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ قَدْ أَزَالَ عَنْهُمْ مَوَانِعَهُ، حَثَّهُمْ(٤) أَيْضًا عَلَى الْإِنْفَاقِ. فَقَالَ: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: أَنْفَقُوا وَلَا تخشَوا فَقْرًا(٥) وَإِقْلَالًا فَإِنَّ الَّذِي أَنْفَقْتُمْ في سبيله هو مالك السموات وَالْأَرْضِ، وَبِيَدِهِ مَقَالِيدُهُمَا، وَعِنْدَهُ خَزَائِنُهُمَا، وَهُوَ مَالِكُ الْعَرْشِ بِمَا حَوَى، وَهُوَ الْقَائِلُ: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [سَبَإٍ:٣٩] ، وَقَالَ ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النَّحْلِ:٩٦] فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أَنْفَقَ، وَلَمْ يَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلَالًا وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سَيُخْلِفُهُ عَلَيْهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ أَيْ: لَا يَسْتَوِي هَذَا وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ كَفِعْلِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ الْحَالُ شَدِيدًا، فَلَمْ يَكُنْ يُؤْمِنُ حِينَئِذٍ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَتْحِ فَإِنَّهُ ظَهَرَ الْإِسْلَامُ ظُهُورًا عَظِيمًا، وَدَخَلَ النَّاسُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بالفتح هاهنا فَتْحُ مَكَّةَ. وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بالفتح هاهنا: صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا زُهَير، حَدَّثَنَا حُمَيد الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ كَلَامٌ، فَقَالَ خَالِدٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: تَسْتَطِيلُونَ عَلَيْنَا بِأَيَّامٍ سَبَقْتُمُونَا بِهَا؟ فَبَلَغَنَا أَنَّ ذَلِكَ ذُكر لِلنَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: " دَعُوا لِي أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقْتُمْ مِثْلَ أُحُدٍ-أَوْ مِثْلَ الْجِبَالِ-ذَهَبًا، مَا بَلَغْتُمْ أَعْمَالَهُمْ"(٦)وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْلَامَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْمُوَاجِهِ بِهَذَا الْخِطَابِ كَانَ بَيْنَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْمُشَاجَرَةُ بَيْنَهُمَا فِي بَنِي جَذيمة الَّذِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: "صَبَأْنَا، صَبَأْنَا"، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: "أَسْلَمْنَا"، فَأَمَرَ خَالِدٌ بِقَتْلِهِمْ وَقَتْلِ مَنْ أُسِرِ مِنْهُمْ، فَخَالَفَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُمَا. فَاخْتَصَمَ خَالِدٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بِسَبَبِ ذَلِكَ(٧)وَالَّذِي فِي الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنْفَقَ أَحَدُكُمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، مَا بَلَغَ مُدّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصيفه"(٨)وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عن زيد بن أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِعُسْفَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ" فَقُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقُرَيْشٌ؟ قَالَ: لَا وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً وَأَلْيَنُ قُلُوبًا". فَقُلْنَا: أَهُمْ خَيْرٌ مِنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَنْفَقَهُ، مَا أَدْرَكَ مُدّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصيفه، أَلَا إِنَّ هَذَا فَضْلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ، ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾(٩)] وَهَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ بِهَذَا السِّيَاقِ، وَالَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -ذَكَر الْخَوَارِجَ-: "تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمْيَةِ"(١٠) الْحَدِيثَ. وَلَكِنْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، فَقَالَ:حَدَّثَنِي بْنُ الْبَرْقِيِّ، حَدَّثَنَا بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ التَّمَّارِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ قَوْمٌ تُحَقِّرُونَ أَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ". قُلْنَا: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قُرَيْشٌ؟ قَالَ: "لَا وَلَكِنْ أَهْلُ الْيَمَنِ، لِأَنَّهُمْ أَرَقُّ أَفْئِدَةً، وَأَلْيَنُ قُلُوبًا". وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "هُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ، أَلَا إِنَّ الْإِيمَانَ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةَ يَمَانِيَةٌ". فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُمْ خَيْرٌ مِنَّا؟ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمْ جَبَلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُنْفِقُهُ مَا أَدَّى مُدّ أَحَدِكُمْ وَلَا نَصِيفَهُ". ثُمَّ جَمَعَ أَصَابِعَهُ وَمَدَّ خِنْصَرَهُ، وَقَالَ: "أَلَا إِنَّ هَذَا فضلُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ، ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ] "(١١)(١٢)فَهَذَا السِّيَاقُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْحُدَيْبِيَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَحْفُوظًا كَمَا تَقَدَّمَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أُنْزِلَ قَبْلَ الْفَتْحِ إِخْبَارًا عَمَّا بَعْدَهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ "الْمُزَّمِّلِ"-وَهِيَ مَكِّيَّةٌ، مِنْ أَوَائِلِ مَا نَزَلَ-: ﴿وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الْآيَةَ [الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] فَهِيَ بِشَارَةٌ بِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَهَكَذَا هَذِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾ يَعْنِي الْمُنْفِقِينَ قَبْلَ الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ، كُلُّهُمْ لَهُمْ ثَوَابٌ عَلَى مَا عَمِلُوا، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ تَفَاوُتٌ فِي تُفَاضُلِ الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النِّسَاءِ:٩٥] . وَهَكَذَا(١٣) الْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحِ: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ"(١٤) وَإِنَّمَا نَبَّه بِهَذَا لِئَلَّا يُهدرَ جَانِبُ الْآخَرِ بِمَدْحِ الْأَوَّلِ دُونَ الْآخَرِ، فَيَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ ذَمَّهُ؛ فَلِهَذَا عَطَفَ بِمَدْحِ الْآخَرِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، مَعَ تَفْضِيلِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أَيْ: فَلِخِبْرَتِهِ فَاوَتَ بَيْنَ ثَوَابِ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِعِلْمِهِ بِقَصْدِ الْأَوَّلِ وَإِخْلَاصِهِ التَّامِّ، وَإِنْفَاقِهِ فِي حَالِ الْجُهْدِ وَالْقِلَّةِ وَالضِّيقِ. وَفِي الْحَدِيثِ: "سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفٍ"(١٥) وَلَا شَكَّ عِنْدَ أَهْلِ الْإِيمَانِ أَنَّ الصِّدِّيقَ أَبَا بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَهُ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ سَيِّدُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ سَائِرِ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ عِنْدَهُ نِعْمَةٌ يَجْزِيهِ بِهَا.وَقَدْ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ مَسْعُودٍ الْبَغَوِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ(١٦) أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّها فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَالِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّها فِي صَدْرِهِ بِخلال؟ فَقَالَ: "أَنْفَقَ مَالَهُ عليَّ قَبْلَ الْفَتْحِ" قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: اقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: أَرَاضٍ أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَكَ: أَرَاضٍ أنت عَني في فقرك هذا أم ساخط؟ " فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَسْخَطُ عَلَى رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ؟ إِنِّي عَنْ رَبِّي رَاضٍ(١٧)هَذَا الْحَدِيثُ ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ عَلَى الْعِيَالِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، فَكُلُّ مَنْ أَنْفَقَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنِيَّةٍ خَالِصَةٍ وَعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ، دَخَلَ فِي عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٤٥](١٨) أَيْ: جَزَاءٌ جَمِيلٌ وَرِزْقٌ بَاهِرٌ-وَهُوَ الْجَنَّةُ-يَوْمَ الْقِيَامَةِ.قَالَ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ قَالَ أَبُو الدَّحْدَاحِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُرِيدُ مِنَّا الْقَرْضَ؟ " قَالَ: "نَعَمْ، يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ". قَالَ أَرِنِي يَدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَنَاوَلَهُ يَدَهُ قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَقْرَضْتُ رَبِّي حَائِطِي-وَلَهُ حَائِطٌ(١٩) فِيهِ سِتُّمِائَةِ نَخْلَةٍ، وَأُمُّ الدَّحْدَاحِ فِيهِ وَعِيَالُهَا-قال: فجاء أبو الدحداح فنادها: يَا أَمَّ الدَّحْدَاحِ. قَالَتْ: لَبَّيْكَ. فَقَالَ: اخْرُجِي، فَقَدْ أَقْرَضْتُهُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ-وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهَا قَالَتْ لَهُ: رَبح بَيْعُكَ يَا أَبَا الدَّحْدَاحِ. وَنَقَلَتْ مِنْهُ مَتَاعَهَا وَصِبْيَانَهَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كَمْ مِنْ عَذْق رَدَاح فِي الْجَنَّةِ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ". وَفِي لَفْظٍ: "رُبَّ نَخْلَةٍ مُدَلَّاةٍ عُرُوقُهَا دُرٌّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة".(٢٠)

(١) في م: "وإن لم".
(٢) المسند (٤/٢٤) وصحيح مسلم برقم (٢٩٥٨) .
(٣) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية: ٣ من سورة البقرة.
(٤) في م: "ثم حثهم".
(٥) في أ: "قترًا".
(٦) المسند (٣/٢٦٦) .
(٧) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧١٨٩) من حديث بن عمر، رضي الله عنه.
(٨) صحيح البخاري برقم (٣٦٧٣) وصحيح مسلم برقم (٢٥٤١) من حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٩) تفسير الطبري (٢٧/١٢٧) .
(١٠) صحيح البخاري برقم (٦٩٣١) وصحيح مسلم برقم (٤٦٠١) .
(١١) زيادة من م، أ.
(١٢) تفسير الطبري (١٧/١٢٧) .
(١٣) في م، أ: "وهذا".
(١٤) صحيح مسلم برقم (٢٦٦٤) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٥) رواه النسائي في السنن (٥/٥٩) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(١٦) في أ: "الشرعي".
(١٧) معالم التنزيل للبغوي (٨/٣٤) وفيه: "إني عن ربي راض" مرتين، ووجه ضعفه أنه فيه العلاء بن عمرو. قال بن حبان: "يروى أبي إسحاق الفزاري العجائب، لا يجوز الاحتجاج به بحال" وساق الحديث.
(١٨) في أ، م، هـ: "أضعافًا كثيرة وله أجر كريم" وهوخطأ، والصواب ما أثبتناه.
(١٩) في أ: "وحائط له".
(٢٠) ورواه أبو يعلى في مسنده (٨/٤٠٤) عن محرز بن عون، عن خلف بن خليفة به، وضعفه الحافظ بن حجر في المطالب العالية برقم (٤٠٨٠) كما ذكره المحقق الفاضل حسين أسد.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 17 مايو 2023

من سورة الحديد

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٣
من سورة الحديد 
﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (١) لَهُۥ مُلۡكُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ یُحۡیِۦ وَیُمِیتُۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ (٢) هُوَ ٱلۡأَوَّلُ وَٱلۡـَٔاخِرُ وَٱلظَّـٰهِرُ وَٱلۡبَاطِنُۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمٌ (٣)﴾ [الحديد ١-٣]

تَفْسِيرُ سُورَةِ الْحَدِيدِوَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، حَدَّثَنَا بَقِيَّة بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنِي بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَان، عن بن أَبِي بِلَالٍ، عَنْ عِرْبَاض بْنِ سَارِيَةَ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ الْمُسَبِّحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، وَقَالَ: "إِنَّ فِيهِنَّ آيَةً أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ عَنْ بَقِيَّةَ، بِهِ(١) وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي السَّرْحِ، عَنِ ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ بَحِيرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ... فَذَكَرُهُ مُرْسَلا لَمْ يَذْكُرْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بِلَالٍ، وَلَا الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ(٢)وَالْآيَةُ الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَبِهِ الثِّقَةُ(٣)
* * *يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسَبِّحُ لَهُ مَا في السموات وَالْأَرْضِ أَيْ: مِنَ الْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتَاتِ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ أَيِ: الَّذِي قَدْ خَضَعَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ ﴿الْحَكِيمُ﴾ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ وَشَرْعِهِ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ أَيْ: هُوَ الْمَالِكُ الْمُتَ

الجمعة، 12 مايو 2023

من سورة إبراهيم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤٢_٤٣
من سورة إبراهيم 
﴿وَلَا تَحۡسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلًا عَمَّا یَعۡمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَۚ إِنَّمَا یُؤَخِّرُهُمۡ لِیَوۡمࣲ تَشۡخَصُ فِیهِ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ (٤٢) مُهۡطِعِینَ مُقۡنِعِی رُءُوسِهِمۡ لَا یَرۡتَدُّ إِلَیۡهِمۡ طَرۡفُهُمۡۖ وَأَفۡـِٔدَتُهُمۡ هَوَاۤءࣱ (٤٣)﴾ [إبراهيم ٤٢-٤٣]

قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ وَهَذَا تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ بَعْدَ أَنْ أَعْجَبَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَعْلِمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ لَيْسَ لِلرِّضَا بِأَفْعَالِهِمْ، بَلْ سُنَّةُ اللَّهِ إِمْهَالُ الْعُصَاةِ مُدَّةً. قَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: هَذَا وَعِيدٌ لِلظَّالِمِ، وَتَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ.(إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ يُمْهِلُهُمْ وَيُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ "يُؤَخِّرُهُمْ" بِالْيَاءِ وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ لِقَوْلِهِ: "وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ". وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو أَيْضًا "نُؤَخِّرُهُمْ" بِالنُّونِ لِلتَّعْظِيمِ.(لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ) أَيْ لَا تُغْمَضُ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. يُقَالُ: شَخَصَ الرَّجُلُ بَصَرَهُ وَشَخَصَ الْبَصَرُ نَفْسُهُ أَيْ سَمَا وَطَمَحَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَشْخَصُ أَبْصَارُ الْخَلَائِقِ يَوْمئِذٍ إِلَى الْهَوَاءِ لِشِدَّةِ الْحِيرَةِ فَلَا يَرْمَضُونَ.(مُهْطِعِينَ) أَيْ مُسْرِعِينَ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وسعيد بن حبير، مأخوذ من أهطع يهطع إهطاعا إِذَا أَسْرَعَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ﴾(١) [القمر: ٨] أَيْ مُسْرِعِينَ. قَالَ الشَّاعِرُ:بِدِجْلَةَ دَارُهُمْ وَلَقَدْ أَرَاهُمْ ... بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إِلَى السَّمَاعِوَقِيلَ: الْمُهْطِعُ الَّذِي يَنْظُرُ فِي ذُلٍّ وَخُشُوعٍ، أَيْ نَاظِرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطْرِفُوا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: "مُهْطِعِينَ" أَيْ مُدِيمِي النَّظَرِ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: أَهْطَعَ إِذَا أَسْرَعَ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ يَكُونُ الْوَجْهَانِ جَمِيعًا يَعْنِي الْإِسْرَاعَ مَعَ إِدَامَةِ النَّظَرِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُهْطِعُ الَّذِي لَا يرفع رأسه.(مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعي رؤسهم يَنْظُرُونَ فِي ذُلٍّ. وَإِقْنَاعُ الرَّأْسِ رَفْعُهُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْقُتَبِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمُقْنِعُ الَّذِي يَرْفَعُ رَأْسَهُ وَيُقْبِلُ بِبَصَرِهِ عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُ الْإِقْنَاعُ فِي الصلاة(٢) وَأَقْنَعَ صَوْتَهُ إِذَا رَفَعَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وُجُوهُ النَّاسِ يَوْمئِذٍ إِلَى السَّمَاءِ لَا يَنْظُرُ أَحَدٌ إلى أحد. وقيل: ناكسي رؤوسهم، قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَيُقَالُ أَقْنَعَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ، وَأَقْنَعَ إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ ذِلَّةً وَخُضُوعًا، وَالْآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ الْوَجْهَيْنِ، وَقَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَعْرَفُ فِي اللُّغَةِ، قَالَ الرَّاجِزُ:أَنْغَضَ(٣) نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا ... كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئًا أَطْمَعَاوَقَالَ الشَّمَّاخُ يصف إبلا:يباكرن العضاه(٤) بمقنعات ... نواجذهن كالحدء الْوَقِيعِيَعْنِي: بِرُءُوسٍ مَرْفُوعَاتٍ إِلَيْهَا لِتَتَنَاوَلَهُنَّ. وَمِنْهُ قِيلَ: مُقَنَّعَةٌ(٥) لِارْتِفَاعِهَا. وَمِنْهُ قَنَعَ الرَّجُلُ إِذَا رَضِيَ، أَيْ رَفَعَ رَأْسَهُ عَنِ السُّؤَالِ. وَقَنَعَ إِذَا سَأَلَ أَيْ أَتَى مَا يَتَقَنَّعُ مِنْهُ، عَنِ النَّحَّاسِ. وَفَمٌ مُقْنَعٌ أَيْ مَعْطُوفَةٌ أَسْنَانُهُ إِلَى دَاخِلٍ. وَرَجُلٌ مُقَنَّعٌ بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ عَلَيْهِ بَيْضَةٌ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ.(لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أَيْ لَا تَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارُهُمْ مِنْ شِدَّةِ النَّظَرِ فَهِيَ شَاخِصَةُ النَّظَرِ. يُقَالُ: طَرَفَ الرَّجُلِ يَطْرِفُ طَرْفًا إِذَا أَطْبَقَ جَفْنَهُ عَلَى الْآخَرِ، فَسُمِّيَ النَّظَرُ طَرْفًا لِأَنَّهُ بِهِ يَكُونُ. وَالطَّرْفُ الْعَيْنُ. قَالَ عَنْتَرَةُ:وَأَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَاوَقَالَ جَمِيلٌ:أقصر طَرْفِي دُونَ جُمْلٍ كَرَامَةً ... لِجُمْلٍ وَلِلطَّرْفِ الَّذِي أَنَا قَاصِرُهُ(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أَيْ لَا تُغْنِي شَيْئًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: خَالِيَةٌ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ. السُّدِّيُّ: خَرَجَتْ قُلُوبُهُمْ مِنْ صُدُورِهِمْ فَنَشِبَتْ فِي حُلُوقِهِمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُرَّةُ وَابْنُ زَيْدٍ: خَاوِيَةٌ خَرِبَةٌ مُتَخَرِّقَةٌ(٦) لَيْسَ فِيهَا خَيْرٌ وَلَا عَقْلٌ، كَقَوْلِكَ فِي الْبَيْتِ الَّذِي ليس فيه شي: إِنَّمَا هُوَ هَوَاءٌ، وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْهَوَاءُ فِي اللُّغَةِ الْمُجَوَّفُ الْخَالِي، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ:أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنِّي ... فَأَنْتَ مُجَوِّفٌ(٧) نخب هواءوَقَالَ زُهَيْرٌ يَصِفُ نَاقَةً صَغِيرَةَ الرَّأْسِ:كَأَنَّ الرَّجُلَ مِنْهَا فَوْقَ صَعْلٍ(٨) ... مِنَ الظَّلْمَانِ جُؤْجُؤُهُ هَوَاءُفَارِغٌ أَيْ خَالٍ، وَفِي التَّنْزِيلِ: ﴿وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً﴾(٩) [القصص: ١٠] أي من كل شي إِلَّا مِنْ هَمِّ مُوسَى. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ إضمار، أي ذات هواء وخلاء.

(١) راجع ج ١٧ ص ١٣٠.
(٢) الإقناع في الصلاة أن يرفع المصلى رأسه حتى يكون أعلى من ظهره.
(٣) أنغض رأسه: حركه.
(٤) العضاة: كل شجر يعظم وله شوك. والحدأ (بفتح الحاء) وقيل (بكسرها) جمع حدأة، وهى الفأس ذات الرأسين، والوقيع: المحدد. شبه الشاعر أسنان الإبل بالفؤوس في الحدة.
(٥) أي على الرأس من المرأة.
(٦) في و: محترقة.
(٧) المجوف والمجوف: الجبان الذي لا قلب له. والنخب: من النخب بمعنى النزع. يقال: رجل نخب أي جبان، كأنه منتزع الفؤاد.
(٨) . "فوق صعل" شبه الناقة في سرعتها بالظليم وهو ذكر النعام، فكأن رحلها فوقه. والصعل: الصغير الرأس، وبذلك يوصف الظليم والجؤجؤ الصدر.
(٩) راجع ج ١٣ ص ٢٥٤.

(تفسير القرطبي — القرطبي (٦٧١ هـ))

الخميس، 11 مايو 2023

من سورة الكهف

 صدقة جارية 

تفسير اية رقم ٧٤_٧٦

من سورة الكهف 

﴿فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰۤ إِذَا لَقِیَا غُلَـٰمࣰا فَقَتَلَهُۥ قَالَ أَقَتَلۡتَ نَفۡسࣰا زَكِیَّةَۢ بِغَیۡرِ نَفۡسࣲ لَّقَدۡ جِئۡتَ شَیۡـࣰٔا نُّكۡرࣰا (٧٤) ۞ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسۡتَطِیعَ مَعِیَ صَبۡرࣰا (٧٥) قَالَ إِن سَأَلۡتُكَ عَن شَیۡءِۭ بَعۡدَهَا فَلَا تُصَـٰحِبۡنِیۖ قَدۡ بَلَغۡتَ مِن لَّدُنِّی عُذۡرࣰا (٧٦)﴾ [الكهف ٧٤-٧٦]


قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ﴾ فِي الْبُخَارِيِّ قَالَ يَعْلَى قَالَ سَعِيدٌ: وَجَدَ غِلْمَانًا يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ غُلَامًا كَافِرًا فَأَضْجَعَهُ ثُمَّ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ، "قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ" لَمْ تَعْمَلْ بِالْحِنْثِ(١)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَصَحِيحِ التِّرْمِذِيِّ: ثُمَّ خَرَجَا مِنَ السَّفِينَةِ فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَى السَّاحِلِ إِذْ أَبْصَرَ الْخَضِرَ غُلَامًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ فَقَتَلَهُ، قَالَ لَهُ مُوسَى: "أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً" قَالَ(٢) وَهَذِهِ أَشَدُّ مِنَ الْأُولَى. "قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً". لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَفِي (التَّفْسِيرِ): إِنَّ الْخَضِرَ مَرَّ بِغِلْمَانٍ يَلْعَبُونَ فَأَخَذَ بِيَدِهِ(٣) غُلَامًا لَيْسَ فِيهِمْ أَضْوَأُ مِنْهُ، وَأَخَذَ حَجَرًا فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَهُ حَتَّى دَمَغَهُ، فَقَتَلَهُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمْ يَرَهُ إِلَّا مُوسَى، وَلَوْ رَأَوْهُ لَحَالُوا بَيْنَهُ وبين الغلام.قُلْتُ: وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ، فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمَغَهُ أَوَّلًا بِالْحَجَرِ، ثُمَّ أَضْجَعَهُ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ اقْتَلَعَ رَأْسَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ وَحَسْبُكَ بِمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: "زَاكِيَةً" بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ الْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ: "زَكِيَّةً" بِغَيْرِ أَلِفٍ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، قِيلَ: الْمَعْنَى وَاحِدٌ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الزَّكِيَّةُ أَبْلَغُ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو: الزَّاكِيَةُ الَّتِي لَمْ تُذْنِبْ قَطُّ وَالزَّكِيَّةُ الَّتِي أَذْنَبَتْ ثُمَّ تَابَتْ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿غُلاماً﴾ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْغُلَامِ هَلْ كَانَ بَالِغًا أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ بَالِغًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ، وَأَبُوهُ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ إِحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ، وَأُمُّهُ مِنْ عُظَمَاءِ الْقَرْيَةِ الْأُخْرَى، فَأَخَذَهُ الْخَضِرُ فَصَرَعَهُ، وَنَزَعَ رَأْسَهُ عَنْ جَسَدِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَاسْمُ الْغُلَامِ شَمْعُونُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: حَيْسُونُ. وَقَالَ وَهْبٌ: اسْمُ أَبِيهِ سِلَاسٌ وَاسْمُ أُمِّهِ رُحْمَى. وَحَكَى السُّهَيْلِيُّ أَنَّ اسْمَ أَبِيهِ كَازِيرُ وَاسْمَ أُمِّهِ سَهْوَى. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: لَمْ يَكُنْ بَالِغًا، وَلِذَلِكَ قَالَ مُوسَى زَاكِيَةً لَمْ تُذْنِبْ، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْغُلَامِ، فَإِنَّ الْغُلَامَ فِي الرِّجَالِ يُقَالُ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَتُقَابِلْهُ الْجَارِيَةُ فِي النِّسَاءِ. وَكَانَ الْخَضِرُ قَتَلَهُ لما علم من سيره، وَأَنَّهُ طُبِعَ كَافِرًا كَمَا فِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ، وأنه لو أدرك لا رهق أَبَوَيْهِ كُفْرًا، وَقَتْلُ الصَّغِيرِ غَيْرُ مُسْتَحِيلٍ إِذَا أَذِنَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَفِي كِتَابِ الْعَرَائِسِ: إِنَّ مُوسَى لَمَّا قَالَ لِلْخَضِرِ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً"- الْآيَةَ- غَضِبَ الْخَضِرُ وَاقْتَلَعَ كَتِفَ الصَّبِيِّ الْأَيْسَرَ، وَقَشَّرَ اللَّحْمَ عَنْهُ، وَإِذَا فِي عَظْمِ كَتِفِهِ مَكْتُوبٌ: كَافِرٌ لَا يؤمن بالله أبدا. وفد احْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْعَرَبَ تُبْقِي عَلَى الشَّابِّ اسْمَ الْغُلَامِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَيْلَى الْأَخْيَلِيَّةُ:(٤)شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سَقَاهَاوَقَالَ صَفْوَانُ لِحَسَّانَ:(٥)تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عَنِّي فَإِنَّنِي ... غُلَامٌ إِذَا هوجيت لست بشاعروَفِي الْخَبَرِ: إِنَّ هَذَا الْغُلَامَ كَانَ يُفْسِدُ فِي الْأَرْضِ، وَيُقْسِمُ لِأَبَوَيْهِ أَنَّهُ مَا فَعَلَ، فَيُقْسِمَانِ عَلَى قَسَمِهِ، وَيَحْمِيَانِهِ مِمَّنْ يَطْلُبُهُ، قَالُوا وَقَوْلُهُ: "بِغَيْرِ نَفْسٍ" يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْ قَتْلِ نَفْسٍ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كِبَرِ الْغُلَامِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ لَمْ يَحْتَلِمْ لَمْ يَجِبْ قَتْلُهُ بِنَفْسٍ، وَإِنَّمَا جَازَ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ كَانَ بَالِغًا عَاصِيًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ شَابًّا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ. وَذَهَبَ ابْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّهُ بَلَغَ سِنَّ التَّكْلِيفِ لِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ "وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ" وَالْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ مِنْ صِفَاتِ الْمُكَلَّفِينَ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَى غَيْرِ مُكَلَّفٍ إِلَّا بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لِأَبَوَيْهِ، وَأَبَوَا الْغُلَامِ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ بِالنَّصِّ فَلَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْكَافِرِ إِلَّا بِالْبُلُوغِ، فَتَعَيَّنَ أَنْ يُصَارَ إِلَيْهِ. وَالْغُلَامُ مِنْ الِاغْتِلَامِ وَهُوَ شِدَّةُ الشَّبَقِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿نُكْراً﴾ اخْتَلَفَ النَّاسُ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ "أَمْراً" أَوْ قَوْلُهُ "نُكْراً" فَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا قَتْلٌ بَيِّنٌ، وَهُنَاكَ مُتَرَقِّبٌ، فَ"- نُكْراً "أَبْلَغُ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذَا قَتْلُ وَاحِدٍ وَذَاكَ قَتْلُ جَمَاعَةٍ فَ" إِمْراً "أَبْلَغُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّهُمَا لِمَعْنَيَيْنِ وَقَوْلُهُ:" إِمْرًا "أَفْظَعُ وَأَهْوَلُ مِنْ حيث هو متوقع عظيم، و" نكرا" بَيِّنٌ فِي الْفَسَادِ لِأَنَّ مَكْرُوهَهُ قَدْ وَقَعَ، وهذا بين. قوله: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) شَرْطٌ وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَالْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ. وَقَوْلُهُ: (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ(٦) بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ مِنَ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ، قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ. ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصَّةُ أَيْضًا أَصْلًا لِلْآجَالِ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ ثَلَاثَةٌ، وَأَيَّامُ الْمُتَلَوَّمِ(٧) ثَلَاثَةٌ، فَتَأَمَّلْهُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَلا تُصاحِبْنِي﴾ كَذَا قَرَأَ الْجُمْهُورُ أَيْ تُتَابِعُنِي. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: (تَصْحَبَنِّي) بِفَتْحِ التاء والباء وتشديد النون. وقرى: (تَصْحَبْنِي) أَيْ تَتْبَعْنِي. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: (تُصْحِبْنِي) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَرَوَاهَا سَهْلٌ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ فَلَا تَتْرُكُنِي أَصْحَبُكَ. "قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً" أَيْ بَلَغْتَ مَبْلَغًا تُعْذَرُ بِهِ فِي تَرْكِ مُصَاحَبَتِي، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: "مِنْ لَدُنِّي" بِضَمِّ الدَّالِ، إِلَّا أَنَّ نَافِعًا وَعَاصِمًا خَفَّفَا النُّونَ، فَهِيَ "لَدُنْ" اتَّصَلَتْ بها ياء الْمُتَكَلِّمِ الَّتِي فِي غُلَامِي وَفَرَسِي، وَكُسِرَ مَا قَبْلَ الْيَاءِ كَمَا كُسِرَ فِي هَذِهِ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "لَدْنِي" بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ وَتَخْفِيفِ النُّونِ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ "لُدْنِي" بِضَمِّ اللَّامِ وَسُكُونِ الدَّالِ، قَالَ ابْنُ مُجَاهِدٍ: وَهِيَ غَلَطٌ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا التَّغْلِيطُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَأَمَّا عَلَى قِيَاسِ الْعَرَبِيَّةِ فَهِيَ صَحِيحَةٌ. وَقَرَأَ الجمهور: "عذر". وَقَرَأَ عِيسَى: "عُذُرًا" بِضَمِّ الذَّالِ. وَحَكَى الدَّانِيُّ(٨) أَنَّ أُبَيًّا رَوَى عَنِ النَّبِيِّ ﷺ "عُذْرِي" بِكَسْرِ الرَّاءِ وَيَاءٍ بَعْدَهَا. مَسْأَلَةٌ: أَسْنَدَ الطَّبَرِيُّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا دَعَا لِأَحَدٍ بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَقَالَ يَوْمًا: "رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْ صَبَرَ عَلَى صَاحِبِهِ لَرَأَى الْعَجَبَ وَلَكِنَّهُ قَالَ:" فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً" (. وَالَّذِي فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:) رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى مُوسَى لَوْلَا أَنَّهُ عَجَلَ لَرَأَى الْعَجَبَ وَلَكِنَّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ وَلَوْ صَبَرَ لَرَأَى الْعَجَبَ) قَالَ: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى أَخِي كَذَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: (يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا أَنَّهُ صَبَرَ حَتَّى يَقُصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا). الذَّمَامَةَ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الْمَفْتُوحَةِ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْمَذَمَّةِ بِفَتْحِ الذَّالِ وَكَسْرِهَا، وَهِيَ الرِّقَّةُ وَالْعَارُ مِنْ تِلْكَ(٩) الْحُرْمَةِ: يُقَالُ أَخَذَتْنِي مِنْكَ مَذَمَّةٌ وَمَذِمَّةٌ وَذَمَامَةٌ. وَكَأَنَّهُ اسْتَحْيَا مِنْ تَكْرَارِ مُخَالَفَتِهِ، وَمِمَّا صَدَرَ عَنْهُ من تغليظ الإنكار.


(١) لأنها لم تبلغ الحلم وهو تفسير لقوله: (زَكِيَّةً) أي أقتلت نفسا زكية لم تعمل الحنث بغير نفس. ولابي ذر: لم تعمل الخبث (بخاء معجمة وموحدة مفتوحتين). قسطلاني كذا في ك.

(٢) هو سفيان بن عيينة كما في القسطلاني. وقيل: كانت هذه أشد من الاولى لما فيها من زيادة (لك).

(٣) في ك وى: بيد غلام.

(٤) البيت من قصيدة مدحت بها الحجاج بن يوسف وقبله:

إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها

(٥) قد كان حسان رضى الله عنه قال شعرا يعرض فيه صفوان بن المعطل ويمن أسلم من العرب من مضر فاعترضه ابن المعطل وضربه بالسيف وقال البيت.

(راجع القصة في سيرة ابن هشام).

(٦) في ك: الاعذار.

(٧) في ك وى: التلوم. ولعله الأشبه.

(٨) كذا في ج وك وى. وفي ا: الداراني. وهو غلط.

(٩) في ج وك وى: ترك الحرمة.


(تفسير القرطبي — القرطبي (٦٧١ هـ))