السبت، 1 يوليو 2023

من سورة القلم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٤_٤١ 
﴿إِنَّ لِلۡمُتَّقِینَ عِندَ رَبِّهِمۡ جَنَّـٰتِ ٱلنَّعِیمِ (٣٤) أَفَنَجۡعَلُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ كَٱلۡمُجۡرِمِینَ (٣٥) مَا لَكُمۡ كَیۡفَ تَحۡكُمُونَ (٣٦) أَمۡ لَكُمۡ كِتَـٰبࣱ فِیهِ تَدۡرُسُونَ (٣٧) إِنَّ لَكُمۡ فِیهِ لَمَا تَخَیَّرُونَ (٣٨) أَمۡ لَكُمۡ أَیۡمَـٰنٌ عَلَیۡنَا بَـٰلِغَةٌ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ إِنَّ لَكُمۡ لَمَا تَحۡكُمُونَ (٣٩) سَلۡهُمۡ أَیُّهُم بِذَ ٰ⁠لِكَ زَعِیمٌ (٤٠) أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَاۤءُ فَلۡیَأۡتُوا۟ بِشُرَكَاۤىِٕهِمۡ إِن كَانُوا۟ صَـٰدِقِینَ (٤١)﴾ [القلم ٣٤-٤١]

لَمَّا ذَكَرَ [اللَّهُ](١) تَعَالَى حَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَمَا أَصَابَهُمْ فِيهَا مِنَ النِّقْمَةِ حِينَ عَصَوُا اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، وَخَالَفُوا أَمْرَهُ، بَيَّنَ أَنَّ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَأَطَاعَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ جَنَّاتِ النَّعِيمِ الَّتِي لَا تَبيد وَلَا تَفْرَغُ وَلَا يَنْقَضِي نَعِيمُهَا.ثُمَّ قَالَ: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ﴾ ؟ أَيْ: أَفَنُسَاوِي بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْجَزَاءِ؟ كَلَّا وَرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ؛ وَلِهَذَا قَالَ ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ! أَيْ: كَيْفَ تَظُنُّونَ ذَلِكَ؟.ثُمَّ قَالَ: ﴿أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ﴾ يَقُولُ: أَفَبِأَيْدِيكُمْ كِتَابٌ مُنَزَّلٌ مِنَ السَّمَاءِ تَدْرُسُونَهُ وَتَحْفَظُونَهُ وَتَتَدَاوَلُونَهُ بِنَقْلِ الْخَلَفِ عَنِ السَّلَفِ، مُتضمن حُكْمًا مُؤَكَّدًا كَمَا تَدَّعُونَهُ؟ ﴿إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ أَيْ: أَمَعَكُمْ عُهُودٌ مِنَّا وَمَوَاثِيقُ مُؤَكَّدَةٌ، ﴿إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ﴾ أَيْ: إِنَّهُ سَيَحْصُلُ لَكُمْ مَا تُرِيدُونَ وَتَشْتَهُونَ، ﴿سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ﴾ ؟ أَيْ: قُلْ لَهُمْ: مَنْ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ الْمُتَكَفِّلُ بِهَذَا؟﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾ أَيْ: مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، ﴿فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾

(١) زياده من م.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 29 يونيو 2023

من سورة القلم

﴿نۤۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا یَسۡطُرُونَ (١) مَاۤ أَنتَ بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ بِمَجۡنُونࣲ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجۡرًا غَیۡرَ مَمۡنُونࣲ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِیمࣲ (٤) فَسَتُبۡصِرُ وَیُبۡصِرُونَ (٥) بِأَییِّكُمُ ٱلۡمَفۡتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِیلِهِۦ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ (٧)﴾ [القلم ١-٧]

تَفْسِيرُ سُورَةِ "ن"وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُرُوفِ الْهِجَاءِ فِي أَوَّلِ "سُورَةِ الْبَقَرَةِ"، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿ن﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿ص﴾ ﴿ق﴾ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَتَحْرِيرُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ.وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ن﴾ حُوتٌ عَظِيمٌ عَلَى تَيَّارِ الْمَاءِ الْعَظِيمِ الْمُحِيطِ، وَهُوَ حَامِلٌ(١) لِلْأَرَضِينَ السَّبْعِ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ:حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ -هُوَ الثَّوْرِيُّ-حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ -هُوَ الْأَعْمَشِ-عَنْ أَبِي ظَبْيان، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ قَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ القَدَر. فَجَرَى بِمَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ إِلَى يَوْمِ قِيَامِ السَّاعَةِ. ثُمَّ خَلَقَ "النُّونَ" وَرَفَعَ بُخَارَ الْمَاءِ، ففُتِقت مِنْهُ السَّمَاءُ، وَبُسِطَتِ الْأَرْضُ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ، فَاضْطَرَبَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ، فَإِنَّهَا لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ(٢) .وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ سِنان، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ شُعْبَةُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ فُضَيل، وَوَكِيع، عَنِ الْأَعْمَشِ، بِهِ. وَزَادَ شُعْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ: ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ وَقَدْ رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي ظَبْيَانَ -أَوْ مُجَاهِدٍ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ مَعْمَر، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ ... فَذَكَرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ ثُمَّ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. فَكَتَبَ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. ثُمَّ خَلَقَ "النُّونَ" فَوْقَ الْمَاءِ، ثُمَّ كَبَسَ الأرض عليه(٣) .وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ ذَلِكَ مَرْفُوعًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَبِيبٍ(٤) زَيْدُ بْنُ الْمُهْتَدِي الْمَرُّوذِيُّ(٥) حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَعْقُوبَ الطَّالَقَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُؤَمَّل بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمِ بْنِ صَبِيح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ وَالْحُوتُ، قَالَ لِلْقَلَمِ: اكْتُبْ، قَالَ: مَا أَكْتُبُ، قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ كَائِنٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ". ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ فَالنُّونُ: الْحُوتُ. وَالْقَلَمُ: الْقَلَمُ(٦) .حَدِيثٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ: رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم يقول: "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ "النُّونَ" وَهِيَ: الدَّوَاةُ. ثُمَّ قَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا يَكُونُ -أَوْ: مَا هُوَ كَائِنٌ-مِنْ عَمَلٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ أَجَلٍ. فَكَتَبَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ وَقَالَ: وَعِزَّتِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْتُ، وَلَأَنْقُصَنَّكَ مِمَّنْ أَبْغَضْتُ"(٧) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ يُقَالُ: النُّونُ: الْحُوتُ [الْعَظِيمُ](٨) الَّذِي تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ.وَذَكَرَ الْبَغَوِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ عَلَى ظَهْرِ هَذَا الْحُوتِ صَخْرَةً سمكها كغلظ السموات وَالْأَرْضِ، وَعَلَى ظَهْرِهَا ثَوْرٌ لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ قَرْنٍ، وَعَلَى مَتْنِهِ الْأَرَضُونَ السَّبْعُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ(٩) فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِنَ الْعَجِيبِ(١٠) أَنَّ بَعْضَهُمْ حَمَلَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ بَلَغه مَقْدَم رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ، قَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمَا بَالُ الْوَلَدِ يَنْزِعُ إِلَى أَبِيهِ؟ وَالْوَلَدُ يَنْزِعُ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا". قَالَ ابْنُ سَلَامٍ: فَذَاكَ عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. قَالَ: "أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحشرهم(١١) مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ زيادةُ كَبِدِ حُوتٍ. وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءَ الرَّجُلِ نَزَعَتْ".وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيد، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا(١٢) وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ -مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ-نَحْوُ هَذَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أَسْمَاءَ الرَّحْبِيِّ، عَنْ ثَوْبَانَ: أَنَّ حَبْرًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عن مَسَائِلَ، فَكَانَ مِنْهَا أَنْ قَالَ: فَمَا تُحْفَتُهُمْ؟ -يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ حِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ-قَالَ: "زِيَادَةُ كَبِدِ الْحُوتِ". قَالَ: فَمَا غِذَاؤُهُمْ عَلَى أَثَرِهَا؟ قَالَ: "يُنْحَرُ لَهُمْ ثَوْرُ الْجَنَّةِ الَّذِي كَانَ يَأْكُلُ مِنْ أَطْرَافِهَا". قَالَ: فَمَا شَرَابُهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: "مِنْ عَيْنٍ فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا "(١٣) .وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ن﴾ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ شَبِيبٍ الْمُكْتِبُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ فُرَاتِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرّة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ، وَقَلَمٌ مِنْ نُورٍ، يَجْرِي بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(١٤) وَهَذَا مُرْسَلٌ غَرِيبٌ.وَقَالَ ابْنُ جُرَيج(١٥) أُخْبِرْتُ أَنَّ ذَلِكَ الْقَلَمَ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مِائَةُ عَامٍ.وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ن﴾ دَوَاةٌ، وَالْقَلَمُ: الْقَلَمُ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:حَدَّثَنَا عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ن﴾ قَالَا هِيَ الدَّوَاةُ.وَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ غَرِيبٌ جِدًّا فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "خَلَقَ اللَّهُ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ"(١٦) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَخِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الثُّمَالِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ النُّونَ -وَهِيَ الدَّوَاةُ-وَخَلَقَ الْقَلَمَ، فَقَالَ: اكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ مَعْمُولٍ، بِهِ بِرٍّ أَوْ فُجُورٍ، أَوْ رِزْقٍ مَقْسُومٍ حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ. ثُمَّ أَلْزَمَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، شَأْنَهُ: دُخُولَهُ فِي الدُّنْيَا، وَمَقَامَهُ فِيهَا كَمْ؟ وَخُرُوجَهُ مِنْهَا كَيْفَ؟ ثُمَّ جَعَلَ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً، وَلِلْكِتَابِ خُزَّانًا، فَالْحَفَظَةُ يَنْسَخُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْخُزَّانِ عَمَلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَإِذَا فَنِيَ الرِّزْقُ وَانْقَطَعَ الْأَثَرُ وَانْقَضَى الْأَجَلُ، أَتَتِ الْحَفَظَةُ الْخَزَنَةَ يَطْلُبُونَ عَمَلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَتَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ: مَا نَجِدُ لِصَاحِبِكُمْ عِنْدَنَا شَيْئًا فَتَرْجِعُ الْحَفَظَةُ فَيَجِدُونَهُمْ قَدْ مَاتُوا. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَسْتُمْ قَوْمًا عَرَبا تَسْمَعُونَ الْحَفَظَةَ يَقُولُونَ: ﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الْجَاثِيَةِ: ٢٩] ؟ وَهَلْ يَكُونُ الاستنساخ إلا من أصل(١٧) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالْقَلَمِ﴾ الظَّاهِرُ أَنَّهُ جِنْسُ الْقَلَمِ الَّذِي يُكْتَبُ بِهِ كَقَوْلِهِ ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العاق: ٣ -٥] . فَهُوَ قَسَمٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَتَنْبِيهٌ لِخَلْقِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنْ تَعْلِيمِ الْكِتَابَةِ الَّتِي بِهَا تُنَالُ الْعُلُومُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ: يَعْنِي: وَمَا يَكْتُبُونَ.وَقَالَ أَبُو الضُّحى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ أَيْ: وَمَا يَعْمَلُونَ.وَقَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ وَمَا تَكْتُبُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ.وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ الْمُرَادُ هاهنا بِالْقَلَمِ الَّذِي أَجْرَاهُ اللَّهُ بِالْقَدَرِ حِينَ كَتَبَ مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات وَالْأَرَضِينَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَأَوْرَدُوا فِي ذَلِكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي ذِكْرِ الْقَلَمِ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ:حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ سُليم السُّلَمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ -هُوَ ابْنُ أَبِي رَبَاحٍ-حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: دَعَانِي أَبِي حِينِ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ. قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبِ الْقَدَرَ [مَا كَانَ](١٨) وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى الْأَبَدِ".وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ(١٩) وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الطَّيَالِسِيِّ، بِهِ(٢٠) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ "السُّنَّةِ" مِنْ سُنَنِهِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُسَافِرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ رَبَاحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ(٢١) عَنْ أَبِي حَفْصَةَ -وَاسْمُهُ حُبَيش بْنُ شُريح الحَبشي الشَّامِيُّ-عَنْ عُبَادَةَ، فَذَكَرَهُ(٢٢) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا رَبَاحُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزة(٢٣) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ". غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ(٢٤)وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَالْقَلَمِ﴾ يَعْنِي: الَّذِي كُتِبَ بِهِ الذِّكْرُ. .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ أَيْ: يَكْتُبُونَ كَمَا تقدم.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ أَيْ: لَسْتَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، بِمَجْنُونٍ، كَمَا قَدْ يَقُولُهُ الْجَهَلَةُ مَنْ قَوْمِكَ، الْمُكَذِّبُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْحَقِّ الْمُبِينِ، فَنَسَبُوكَ فِيهِ إِلَى الْجُنُونِ، ﴿وَإِنَّ لَكَ لأجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ أَيْ: بَلْ لَكَ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ، وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ وَلَا يَبِيدُ، عَلَى إِبْلَاغِكَ رِسَالَةَ رَبِّكَ إِلَى الْخَلْقِ، وَصَبْرِكَ عَلَى أَذَاهُمْ. وَمَعْنَى ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ كَقَوْلِهِ: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾ [هُودٍ: ١٠٨] ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ [التِّينِ: ٦] أَيْ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ عَنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أَيْ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا قُلْنَاهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ: وَإِنَّكَ لَعَلَى دِينٍ(٢٥) عَظِيمٍ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ.وَقَالَ عَطِيَّةُ: لَعَلَى أَدَبٍ عَظِيمٍ. وَقَالَ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ: سُئلت عائشةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ. قَالَتِ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، تَقُولُ كَمَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ.وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ سَعْدَ(٢٦) بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَانَ الْقُرْآنَ.وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرارة بْنِ أَوْفَى(٢٧) عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -عَنْ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَتْ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ فقلتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ(٢٨) .هَذَا حَدِيثٌ طَوِيلٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ بِطُولِهِ(٢٩) وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ "الْمُزَّمِّلِ" إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ(٣٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَسْوَدُ، حَدَّثَنَا شَرِيكٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَوَادٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فَقَالَتْ: أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ؟ قَالَ: قُلْتُ: حَدِّثِينِي عَنْ ذَاكَ. قَالَتْ: صَنَعْتُ لَهُ طَعَامًا، وَصَنَعَتْ لَهُ حَفْصَةُ طَعَامًا، فَقُلْتُ لِجَارِيَتِي: اذْهَبِي فَإِنْ جَاءَتْ هِيَ بِالطَّعَامِ فَوَضَعَتْهُ قبلُ فَاطْرَحِي الطَّعَامَ! قَالَتْ: فَجَاءَتْ بِالطَّعَامِ. قَالَتْ: فَأَلْقَتِ(٣١) الْجَارِيَةُ، فَوَقَعَتِ الْقَصْعَةُ فَانْكَسَرَتْ -وَكَانَ نِطْعًا(٣٢) -قالت: فجمعه رسول الله وَقَالَ: "اقْتَضُوا -أَوِ: اقْتَضِي-شَكَّ أَسْوَدُ -ظَرفًا مَكَانَ ظَرفِك". قَالَتْ: فَمَا قَالَ شَيْئًا(٣٣) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ آدَمَ بْنِ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَعْدِ(٣٤) بْنِ هِشَامٍ: قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقُلْتُ لَهَا: أَخْبِرِينِي بخلُق النَّبِيِّ(٣٥) صَلَّى لِلَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. أَمَا تَقْرَأُ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْحَسَنِ، نَحْوَهُ(٣٦)وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، وَأَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي الزَّاهِرِيَّةِ، عَنْ جُبَير بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: حججتُ فدخلتُ عَلَى عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، فَسَأَلْتُهَا عَنْ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. فقالت: كَانَ خُلُق رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنَ.وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ فِي التَّفْسِيرِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِهِ(٣٧)وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، صَارَ امتثالُ الْقُرْآنِ، أَمْرًا وَنَهْيًا، سَجِيَّةً لَهُ، وَخُلُقًا تَطَبَّعَه، وَتَرَكَ طَبْعَهُ الجِبِلِّي، فَمَهْمَا أَمَرَهُ الْقُرْآنُ فَعَلَهُ، وَمَهْمَا نَهَاهُ عَنْهُ تَرَكَهُ. هَذَا مَعَ مَا جَبَله اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ، مِنَ الْحَيَاءِ وَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالصَّفْحِ وَالْحِلْمِ، وَكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ. كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خدمتُ رسولَ اللهِ ﷺ عَشْرٌ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي: "أُفٍّ" قَطُّ، وَلَا قَالَ لِشَيْءٍ فَعَلْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ لَمْ أَفْعَلْهُ: أَلَا فَعَلْتَهُ؟ وَكَانَ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا وَلَا مَسسْتُ خَزًّا وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَق رَسُولِ اللَّهِ ﷺ(٣٨)وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: [حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ](٣٩) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا، وَأَحْسَنَ النَّاسِ خَلْقًا، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلَا بِالْقَصِيرِ(٤٠)وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ، وَلِأَبِي عِيسَى التِّرْمِذِيِّ فِي هَذَا كِتَابُ "الشَّمَائِلِ".قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ خَادِمًا لَهُ قَطُّ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا ضَرَبَ بِيَدِهِ شيئًا قط، إلا أن يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَلَا خُيِّر بَيْنَ شَيْئَيْنِ قَطُّ إِلَّا كَانَ أَحَبُّهُمَا إِلَيْهِ أَيْسَرَهُمَا حَتَّى يَكُونَ إِثْمًا، فَإِذَا كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنَ الْإِثْمِ، وَلَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ مِنْ شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ، فَيَكُونُ هُوَ يَنْتَقِمُ لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ(٤١)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلان، عَنِ الْقَعْقَاعِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيرة قَالَ: قَالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا بُعِثتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ". تَفَرَّدَ بِهِ(٤٢)وقوله: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ أَيْ: فَسَتَعْلَمُ يَا مُحَمَّدُ، وَسَيَعْلَمُ مُخَالِفُوكَ وَمُكَذِّبُوكَ: مَنِ الْمَفْتُونُ الضَّالُّ مِنْكَ وَمِنْهُمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الأشِرُ﴾ [الْقَمَرِ: ٢٦] ، وَكَقَوْلِهِ: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [سَبَإٍ: ٢٤] .قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: سَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابن عباس: ﴿بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ أَيِ: الْجُنُونُ. وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُ. وقال قتادة وغيره: ﴿بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ أَيْ: أَوْلَى بِالشَّيْطَانِ.وَمَعْنَى الْمَفْتُونِ ظَاهِرٌ، أَيِ: الَّذِي قَدِ افْتُتِنَ عَنِ الْحَقِّ وَضَلَّ عنه، وإنما دخلت الباء في قوله: ﴿بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ لِتَدُلَّ عَلَى تَضْمِينِ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ﴾ وَتَقْدِيرُهُ: فَسَتَعْلَمُ وَيَعْلَمُونَ، أَوْ: فستُخْبَر ويُخْبَرون بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ أَيْ: هُوَ يَعْلَمُ تَعَالَى أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ مِنْكُمْ وَمِنْهُمْ هُوَ الْمُهْتَدِي، وَيَعْلَمُ الْحِزْبَ الضَّالَّ عَنِ الْحَقِّ.

(١) في أ: "وهو الحامل".
(٢) تفسير الطبري (٢٩/٩) .
(٣) تفسير الطبري (٢٩/١٠) .
(٤) في أ: "أبو صهيب".
(٥) في أ: "المهدى".
(٦) المعجم الكبير (١١/٤٣٣) وقال: "لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل". ومؤمل كثير الخطأ، فلعله أخطأ في رفعه.
(٧) تاريخ دمشق (١٧/٤٩٢ "المخطوط") ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (١/٤٥٤) من طريق يحيى الغساني، عن أبي عبد الله، عن أبي صالح، به. ورواه ابن عدي في الكامل (٦/٢٦٩) من طريق محمد بن وهب، عن مسلم، عن مَالِكٌ، عَنْ سُمَيٍّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا بنحوه، قال: "هذا بهذا الإسناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب. قال الذهبي في الميزان: "صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
(٨) زيادة من م.
(٩) معالم التنزيل (٨/١٨٦) وهذا من الإسرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه: "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص٣٠٥) وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص٧٦) في ذكر علامات الوضع: "أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على بطلانه، ومن هذا حديث: "إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه الهذيانات". أ. هـ.
(١٠) في أ: "ومن العجب".
(١١) في أ: "تحشر الناس".
(١٢) المسند (٣/١٨٩) وصحيح البخاري برقم (٣٩٣٨) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
(١٣) صحيح مسلم برقم (٣١٥) .
(١٤) تفسير الطبري (٢٩/١٠) .
(١٥) في أ: "ابن جرير".
(١٦) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (١٧/٤٩٢ "المخطوط") من طريق الفريابي، عن هشام عن الحسن بن يحيى به مطولاً، وقد تقدم قريبًا في هذه السورة.
(١٧) تفسير الطبري (٢٩/١٠) .
(١٨) زيادة من منحة المعبود. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
(١٩) المسند (٥/٣١٧) .
(٢٠) سنن الترمذي برقم (٣٣١٩) .
(٢١) في أ: "عن ابن أبي عبلة".
(٢٢) سنن أبي داود برقم (٤٧٠٠) .
(٢٣) في أ: "بن أبي مرة".
(٢٤) تفسير الطبري (٢٩/١١) .
(٢٥) في أ: "لعلى خلق".
(٢٦) في أ: "أ، سعيد".
(٢٧) في أ: "زرارة بن أبي أوفي".
(٢٨) تفسير عبد الرزاق (٢/٢٤٥) .
(٢٩) صحيح مسلم برقم (٧٤٦) .
(٣٠) المسند (٦/٢١٦) .
(٣١) في أ: "فالتفتت".
(٣٢) في هـ، م، أ: "نطع"، والمثبت من المسند.
(٣٣) المسند (٦/١١) .
(٣٤) في هـ، أ: "سعيد"، والمثبت من م وتفسير الطبري.
(٣٥) في م: "رسول الله".
(٣٦) تفسير الطبري (٢٩/١٣) وسنن أبي داود برقم (١٣٥٢) وسنن النسائي (٣/٢٢٠) .
(٣٧) تفسير الطبري (٢٩/١٣) والمسند (٦/١٨٨) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٣٨) .
(٣٨) صحيح البخاري برقم (٦٠٣٨) وصحيح مسلم برقم (٢٣٠٩) .
(٣٩) زيادة من م، أ، وصحيح البخاري.
(٤٠) صحيح البخاري برقم (٣٥٤٩) .
(٤١) المسند (٦/٢٣٢) .
(٤٢) المسند (٢/٣٨١) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 28 يونيو 2023

من سورة الملك

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٨_٣٠
من سورة الملك 
﴿قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَهۡلَكَنِیَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِیَ أَوۡ رَحِمَنَا فَمَن یُجِیرُ ٱلۡكَـٰفِرِینَ مِنۡ عَذَابٍ أَلِیمࣲ (٢٨) قُلۡ هُوَ ٱلرَّحۡمَـٰنُ ءَامَنَّا بِهِۦ وَعَلَیۡهِ تَوَكَّلۡنَاۖ فَسَتَعۡلَمُونَ مَنۡ هُوَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ (٢٩) قُلۡ أَرَءَیۡتُمۡ إِنۡ أَصۡبَحَ مَاۤؤُكُمۡ غَوۡرࣰا فَمَن یَأۡتِیكُم بِمَاۤءࣲ مَّعِینِۭ (٣٠)﴾ [الملك ٢٨-٣٠]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْجَاحِدِينَ لِنِعَمِهِ: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أَيْ: خَلِّصوا أَنْفُسَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا مُنْقِذَ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالْإِنَابَةُ، وَالرُّجُوعُ إِلَى دِينِهِ، وَلَا يَنْفَعُكُمْ وُقُوعُ مَا تَتَمَنَّوْنَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ والنَّكَال، فَسَوَاءٌ عَذَّبَنَا اللَّهُ أَوْ رَحِمَنَا، فَلَا مَنَاصَ لَكُمْ مِنْ نَكَالِهِ وَعَذَابِهِ الْأَلِيمِ الْوَاقِعِ بِكُمْ.ثُمَّ قَالَ: ﴿قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا﴾ أَيْ: آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم، وعليه تَوَكَّلْنَا فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا، كَمَا قَالَ: ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ [هُودٍ: ١٢٣] . وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ ؟ أَيْ: مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَلِمَنْ تَكُونُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؟.ثُمَّ قَالَ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ أَيْ: ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ إِلَى أَسْفَلَ، فَلَا يُنَال بِالْفُئُوسِ الْحِدَادِ، وَلَا السَّوَاعِدِ الشِّدَادِ، وَالْغَائِرُ: عَكْسُ النَّابِعِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ أَيْ: نَابِعٍ سَائِحٍ جَارٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، فَمِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ [أَنْ](١) أَنْبَعَ لَكُمُ الْمِيَاهَ وَأَجْرَاهَا فِي سَائِرِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، بِحَسَبِ مَا يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَيْهِ مِنَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "تبارك" ولله الحمد](٢)

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من م، وفي أ: "آخر تفسير سورة الملك ولله الحمد والثناء الحسن الجميل".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الاثنين، 26 يونيو 2023

من سورة التحريم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦_٨
من سورة التحريم 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ قُوۤا۟ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِیكُمۡ نَارࣰا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَیۡهَا مَلَـٰۤىِٕكَةٌ غِلَاظࣱ شِدَادࣱ لَّا یَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَاۤ أَمَرَهُمۡ وَیَفۡعَلُونَ مَا یُؤۡمَرُونَ (٦) یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَا تَعۡتَذِرُوا۟ ٱلۡیَوۡمَۖ إِنَّمَا تُجۡزَوۡنَ مَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ (٧) یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ تُوبُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ تَوۡبَةࣰ نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُكَفِّرَ عَنكُمۡ سَیِّـَٔاتِكُمۡ وَیُدۡخِلَكُمۡ جَنَّـٰتࣲ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ یَوۡمَ لَا یُخۡزِی ٱللَّهُ ٱلنَّبِیَّ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَعَهُۥۖ نُورُهُمۡ یَسۡعَىٰ بَیۡنَ أَیۡدِیهِمۡ وَبِأَیۡمَـٰنِهِمۡ یَقُولُونَ رَبَّنَاۤ أَتۡمِمۡ لَنَا نُورَنَا وَٱغۡفِرۡ لَنَاۤۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ (٨)﴾ [التحريم ٦-٨]

قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ يَقُولُ: أَدِّبُوهُمْ، عَلموهم.وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ يَقُولُ: اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَاتَّقُوا مَعَاصِيَ اللَّهِ، ومُروا أَهْلِيكُمْ بِالذِّكْرِ، يُنْجِيكُمُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ قَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ، وَأَوْصُوا أَهْلِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ. .وَقَالَ قَتَادَةُ: يَأْمُرُهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَيَنْهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَأَنْ يقومَ عَلَيْهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ وَيُسَاعِدَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتَ لِلَّهِ مَعْصِيَةً، قَدعتهم عَنْهَا وَزَجَرْتَهُمْ عَنْهَا.وَهَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُعَلِّمَ أَهْلَهُ، مِنْ قَرَابَتِهِ وَإِمَائِهِ وَعَبِيدِهِ، مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ.وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إِذَا بَلَغَ سَبْعَ سِنِينَ، فَإِذَا بَلَغَ عَشْرَ سِنِينَ فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا"(١) .هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَ ذَلِكَ(٢) .قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَهَكَذَا فِي الصَّوْمِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَمْرِينًا لَهُ عَلَى الْعِبَادَةِ، لِكَيْ يَبْلُغَ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالطَّاعَةِ وَمُجَانَبَةِ الْمَعْصِيَةِ وَتَرْكِ الْمُنْكَرِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ ﴿وَقُودُهَا﴾ أَيْ: حَطَبُهَا الَّذِي يُلْقَى فِيهَا جُثث بَنِي آدَمَ. ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ الْأَصْنَامُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ لِقَوْلِهِ: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٨] .وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ الْبَاقِرُ، وَالسُّدِّيُّ: هِيَ حِجَارَةٌ مِنْ كِبْرِيتٍ -زَادَ مُجَاهِدٌ: أَنْتَنُ مِنَ الْجِيفَةِ.وَرَوَى ذَلِكَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سِنَانٍ الْمِنْقَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي رَاَّود-قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾ وعنده بعض أصحابه، وفيهم شَيْخٌ، فَقَالَ الشَّيْخُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حِجَارَةُ جَهَنَّمَ كَحِجَارَةِ الدُّنْيَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَصَخرة مِنْ صَخْرِ جَهَنَّمَ أعظمُ مِنْ جبَال الدُّنْيَا كُلِّهَا". قَالَ: فَوَقَعَ الشيخُ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ يَدَهُ عَلَى فُؤَادِهِ فَإِذَا هُوَ حَيّ فَنَادَاهُ قَالَ: "يَا شَيْخُ"، قُلْ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". فَقَالَهَا، فَبَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: فَقَالَ أَصْحَابُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمِنْ بَيْنِنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ١٤] هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ غَرِيبٌ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ﴾ أَيْ: طِبَاعُهُمْ غَلِيظَةٌ، قَدْ نُزِعَتْ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةُ بِالْكَافِرِينَ بِاللَّهِ، ﴿شِدَادٌ﴾ أَيْ: تَرْكِيبُهُمْ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ وَالْكَثَافَةِ وَالْمَنْظَرِ الْمُزْعِجِ.قَالَ(٣) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَصَلَ أَوَّلُ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ، وَجَدوا عَلَى الْبَابِ أَرْبَعَمِائَةِ أَلْفٍ مِنْ خَزَنة جَهَنَّمَ، سُودٌ وُجُوهُهُمْ، كَالِحَةٌ أَنْيَابُهُمْ، قَدْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قُلُوبِهِمُ الرَّحْمَةَ، لَيْسَ فِي قَلْبِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْقَالُ ذَرَة مِنَ الرَّحْمَةِ، لَوْ طُيِّرَ الطَّيْرُ مِنْ مَنْكِبِ أَحَدِهِمْ لَطَارَ شَهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَنْكِبَهُ الْآخَرَ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى الْبَابِ التِّسْعَةَ عَشَرَ، عَرْضُ صَدْرِ أَحَدِهِمْ سَبْعُونَ خَرِيفًا، ثُمَّ يَهْوُونَ مِنْ بَابٍ إِلَى بَابٍ خَمْسَمِائَةِ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجِدُونَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْهَا مثلَ مَا وَجَدُوا عَلَى الْبَابِ الْأَوَّلِ، حَتَّى يَنْتَهُوا إِلَى آخِرِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ أَيْ: مَهْمَا أَمَرَهُمْ بِهِ تَعَالَى يُبَادِرُوا إِلَيْهِ، لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى فِعْلِهِ لَيْسَ بِهِمْ عَجْزٌ عَنْهُ. وَهَؤُلَاءِ هُمُ الزَّبَانِيَةُ عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: يُقَالُ لِلْكَفَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: لَا تَعْتَذِرُوا فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْكُمْ، وَإِنَّمَا تُجْزَوْنَ الْيَوْمَ بِأَعْمَالِكُمْ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ أَيْ: تَوْبَةً صَادِقَةً جَازِمَةً، تَمْحُو مَا قَبْلَهَا مِنَ السَّيِّئَاتِ وَتَلُمُّ شَعَثَ التَّائِبِ وَتَجْمَعُهُ، وَتَكُفُّهُ عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ مِنَ الدَّنَاءَاتِ.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ مُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاك بْنِ حَرب: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ قَالَ: يُذْنِبُ الذَّنْبَ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ فِيهِ.وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ سِماك، عَنِ النُّعْمَانِ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ، أَوْ لَا يَعُودُ فِيهِ.وَقَالَ أَبُو الْأَحْوَصِ وَغَيْرُهُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنِ النُّعْمَانِ، سُئِل عُمَرَ عَنِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَقَالَ: أَنْ يَتُوبَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ، ثُمَّ لَا يَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا.وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: ﴿تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ قال: يتوب ثم لا يعود.وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مَرْفُوعًا فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمُ الهَجَري، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "التَّوْبَةُ مِنَ الذَّنْبِ أَنْ يَتُوبَ مِنْهُ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِيهِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُسْلِمٍ الهَجَري، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ(٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ هُوَ أَنْ يُقلعَ عَنِ الذَّنْبِ فِي الْحَاضِرِ، ويندمَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُ فِي الْمَاضِي، ويعزِم عَلَى أَلَّا يَفْعَلَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ إِنْ كَانَ الْحَقُّ لِآدَمِيٍّ رَدَّهُ إِلَيْهِ بِطَرِيقِهِ.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، أَخْبَرَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعقِل قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَنْتَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: "النَّدَمُ تَوْبَةٌ؟ ". قَالَ: نَعَمْ. وَقَالَ مَرَة: نَعَمْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "النَّدَمُ تَوْبَةٌ".وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَمَّار، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيينة، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ -وَهُوَ ابْنُ مَالِكٍ الجَزَريّ-بِهِ(٥) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ بُكَيْر أَبُو خَبَّابٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ العَدَوي، عَنْ أَبِي سِنان الْبَصْرِيِّ، عَنْ أَبِي قِلابة، عَنْ زِرّ بْنِ حُبَيش، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قِيلَ لَنَا أَشْيَاءُ تَكُونُ فِي آخِرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عِنْدَ اقْتِرَابِ السَّاعَةِ، مِنْهَا نِكَاحُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فِي دُبُرِهَا، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ، وَمِنْهَا: نِكَاحُ الرَّجُلِ الرَّجُلَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ. وَمِنْهَا نِكَاحُ الْمَرْأَةِ الْمَرْأَةَ، وَذَلِكَ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَيَمْقُتُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَرَسُولُهُ. وَلَيْسَ لِهَؤُلَاءِ صَلَاةٌ مَا أَقَامُوا عَلَى هَذَا، حَتَّى يَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا. قَالَ زِرٌّ: فَقُلْتُ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: فَمَا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ؟ فَقَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "هُوَ النَّدَمُ عَلَى الذَّنْبِ حينَ يَفرطُ مِنْكَ، فتستغفرُ اللَّهَ بِنَدَامَتِكَ مِنْهُ عِنْدَ الْحَاضِرِ، ثُمَّ لَا تَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا"(٦) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ، سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ: أَنْ تُبغِض الذنبَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ، وَتَسْتَغْفِرَ مِنْهُ إِذَا ذَكَرْتَهُ.فَأَمَّا إِذَا حَزَم بِالتَّوْبَةِ وصَمم عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تَجُب مَا قَبْلَهَا مِنَ الْخَطِيئَاتِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: "الْإِسْلَامُ يَجُب مَا قَبْلَهُ، وَالتَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا"(٧) .وَهَلْ مِنْ شَرْطِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ الاستمرارُ عَلَى ذَلِكَ إِلَى الْمَمَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ وَفِي الْأَثَرِ: "لَا يَعُودُ فِيهِ أَبَدًا"، أَوْ يَكْفِي الْعَزْمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ فِي تَكْفِيرِ الماضي، بحيث لو وقع منه ذَلِكَ الذَّنْبُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ ضَارًّا فِي تَكْفِيرِ مَا تَقَدَّمَ، لِعُمُومِ قَوْلِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: "التَّوْبَةُ تَجُبُّ مَا قَبْلَهَا؟ ". وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَحْتَجَّ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا: "مَن أحسنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤاخَذ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ"(٨) فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَقْوَى مِنَ التَّوْبَةِ، فَالتَّوْبَةُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ﴾ وَ ﴿عَسَى﴾ مِنَ اللَّهِ مُوجِبَةٌ، ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ أَيْ: وَلَا يُخْزِيهِمْ مَعَهُ يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ.﴿يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُمْ: هَذَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَ يَرَون يَوْمَ الْقِيَامَةِ نورَ الْمُنَافِقِينَ قَدْ طفِئ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا ابْنِ لَهِيعة، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا ذَرٍّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أنا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ فِي السُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِرَفْعِ رَأْسِهِ، فأنظرُ بَيْنَ يَدَيّ فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ يَمِينِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ، وَأَنْظُرُ عَنْ شِمَالِي فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ. قَالَ: "غُرٌّ مُحجلون مِنْ آثَارِ الطُّهور(٩) وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَمِ كَذَلِكَ غَيْرُهُمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يؤتَون كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ"(١٠) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَالَقَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَامَ الْفَتْحِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: "اللَّهُمَّ، لَا تُخْزِنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(١١) .

(١) المسند (٣/٤٠٤) وسنن أبي داود برقم (٤٩٤) وسنن الترمذي برقم (٤٠٧) .
(٢) سنن أبي داود برقم (٤٩٥) .
(٣) في م: "كما قال".
(٤) المسند (١/٤٤٦) .
(٥) المسند (١/٣٧٦) وسنن ابن ماجة برقم (٤٢٥٢) وقال البوصيري في الزوائد (٣/٣٠٨) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(٦) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٥٤٥٧) من طريق إسماعيل الصفار، عن الحسن بن عرفة به، وقال: "إسناده ضعيف".
(٧) صحيح مسلم برقم (١٢١) من حديث عمرو بن العاص، رضي الله عنه.
(٨) صحيح البخاري برقم (٦٩٢١) وصحيح مسلم برقم (١٢٠) مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(٩) في م: "الوضوء".
(١٠) تعظيم قدر الصلاة برقم (٢٦١) ورواه أحمد في المسند (٥/١٩٩) من هذا الطريق -طريق ابن المبارك- وعن حسن، عن ابن لهيعة به نحوه، قال المنذري في الترغيب والترهيب (١/١٥١) : "رواه أحمد، وفي إسناده ابن لهيعو، وهو حديث في المتابعات". وهو هنا من رواية ابن المبارك وهي رواية صحيحه.
(١١) المسند (٤/٢٣٤)

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 24 يونيو 2023

من سورة التحريم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٥ من 
سورة التحريم 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَاۤ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَۖ تَبۡتَغِی مَرۡضَاتَ أَزۡوَ ٰ⁠جِكَۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ (١) قَدۡ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمۡ تَحِلَّةَ أَیۡمَـٰنِكُمۡۚ وَٱللَّهُ مَوۡلَىٰكُمۡۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ (٢) وَإِذۡ أَسَرَّ ٱلنَّبِیُّ إِلَىٰ بَعۡضِ أَزۡوَ ٰ⁠جِهِۦ حَدِیثࣰا فَلَمَّا نَبَّأَتۡ بِهِۦ وَأَظۡهَرَهُ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ عَرَّفَ بَعۡضَهُۥ وَأَعۡرَضَ عَنۢ بَعۡضࣲۖ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِۦ قَالَتۡ مَنۡ أَنۢبَأَكَ هَـٰذَاۖ قَالَ نَبَّأَنِیَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡخَبِیرُ (٣) إِن تَتُوبَاۤ إِلَى ٱللَّهِ فَقَدۡ صَغَتۡ قُلُوبُكُمَاۖ وَإِن تَظَـٰهَرَا عَلَیۡهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ مَوۡلَىٰهُ وَجِبۡرِیلُ وَصَـٰلِحُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۖ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ ظَهِیرٌ (٤) عَسَىٰ رَبُّهُۥۤ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن یُبۡدِلَهُۥۤ أَزۡوَ ٰ⁠جًا خَیۡرࣰا مِّنكُنَّ مُسۡلِمَـٰتࣲ مُّؤۡمِنَـٰتࣲ قَـٰنِتَـٰتࣲ تَـٰۤىِٕبَـٰتٍ عَـٰبِدَ ٰ⁠تࣲ سَـٰۤىِٕحَـٰتࣲ ثَیِّبَـٰتࣲ وَأَبۡكَارࣰا (٥)﴾ [التحريم ١-٥]

تَفْسِيرُ سُورَةِ التَّحْرِيمِوَهِيَ مَدَنِيَّةٌ.بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* * *اختلُف فِي سَبَبِ نُزُولِ صَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مَارِيَةَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَدْ حَرَّمَهَا، فَنَزَلَ قَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ﴾ الْآيَةَ.قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ يَطَؤُهَا، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ حَتَّى حَرَّمها، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ(١) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ(٢) حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، حَدَّثَنِي زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَصَابَ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ فِي بَيْتِ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَقَالَتْ: أَيْ رَسُولَ اللَّهِ، فِي بَيْتِي وَعَلَى فِرَاشِي؟! فَجَعَلَهَا عَلَيْهِ حَرَامًا فَقَالَتْ: أيْ رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَحْرُم عَلَيْكَ الْحَلَالُ؟ فَحَلَفَ لَهَا بِاللَّهِ لَا يُصِيبُهَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ قَالَ زَيْدُ: بْنُ أَسْلَمَ فَقَوْلُهُ: أَنْتِ عليَّ حَرَامٌ لَغْوٌ(٣) .وَهَكَذَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يُونُسُ، حَدَّثَنَا ابْنِ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: قُلْ لَهَا: "أَنْتِ عليَّ حَرَامٌ، وواللَّهِ لَا أطؤك".وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَابْنُ عُلَيَّة، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: آلَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَحَرَّمَ، فعُوتِبَ فِي التَّحْرِيمِ، وَأُمِرَ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْيَمِينِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، نَفْسِهِ. وَكَذَا قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَرَوَى الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقِصَّةَ مُطَوَّلَةً.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَنِ الْمَرْأَتَانِ؟ قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. وَكَانَ بَدْءُ الْحَدِيثِ فِي شَأْنِ أَمِّ إِبْرَاهِيمَ الْقِبْطِيَّةِ، أَصَابَهَا النَّبِيِّ ﷺ فِي بَيْتِ حَفْصَةَ فِي نَوْبَتِهَا(٤) فَوَجَدت حَفْصَةُ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَقَدْ جِئْتَ إليَّ شَيْئًا مَا جِئْتَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ أَزْوَاجِكَ، فِي يَوْمِي، وَفِي دَوْرِي، وَعَلَى فِرَاشِي. قَالَ: "أَلَا تَرْضَيْنَ أَنْ أُحَرِّمَهَا فَلَا أَقْرَبَهَا؟ ". قَالَتْ: بَلَى. فحَرَّمها وَقَالَ: "لَا تَذْكُرِي ذَلِكَ لِأَحَدٍ". فَذَكَرَتْهُ لِعَائِشَةَ، فَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ﴾ الْآيَاتِ(٥) فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كفَّر [عَنْ](٦) يَمِينِهِ، وَأَصَابَ جَارِيَتَهُ(٧) .وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيب فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو قِلابة عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّقَاشِيُّ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِحَفْصَةَ: "لَا تُخْبِرِي أَحَدًا، وَإِنَّ أُمَّ إِبْرَاهِيمَ عليَّ حَرَامٌ". فَقَالَتْ: أَتُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ؟ قَالَ: "فَوَاللَّهِ لَا أَقْرَبُهَا". قَالَ: فَلَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى أَخْبَرَتْ عَائِشَةَ. قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ السِّتَّةِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ الْحَافِظُ الضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسْتَخْرَجِ(٨) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَيْضًا حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائي قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ يَحْيَى يُحَدِّثُ عَنْ يَعْلَى بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ فِي الْحَرَامِ: يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الْأَحْزَابِ: ٢١] يَعْنِي: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ فَقَالَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ فَكَفَّرَ يَمِينَهُ، فَصَيَّرَ الْحَرَامَ يَمِينًا(٩) .وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ هِشَامٍ -هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ-عَنْ يَحْيَى -هُوَ ابْنُ كَثِيرٍ-عَنِ ابْنِ حَكِيمٍ -وَهُوَ يَعْلَى-عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْحَرَامِ: يمين تُكَفر. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الْأَحْزَابِ: ٢١](١٠) .وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائي بِهِ(١١) .وَقَالَ النَّسَائِيُّ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مَخْلد -هُوَ ابْنُ يَزِيدَ-حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي جَعَلْتُ امْرَأَتِي عَلَيَّ حَرَاما؟ قَالَ: كذبتَ لَيْسَ عَلَيْكَ بِحَرَامٍ. ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ عَلَيْكَ أَغْلَظُ الْكَفَّارَاتِ، عِتْقُ رَقَبَةٍ.تَفَرَّدَ بِهِ النَّسَائِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، بِهَذَا اللَّفْظِ(١٢) .وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زكَريا، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ قَالَ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سُرَيَّته(١٣) .ومن هاهنا ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْفُقَهَاءِ مِمَّنْ قَالَ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَنْ حَرَّمَ جَارِيَتَهُ أَوْ زَوْجَتَهُ أَوْ طَعَامًا أَوْ شَرَابًا أَوْ مَلْبَسًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْمُبَاحَاتِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَطَائِفَةٍ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ فِيمَا عَدَا الزَّوْجَةَ وَالْجَارِيَةَ، إِذَا حَرَّم عَيْنَيْهِمَا أَوْ أَطْلَقَ التَّحْرِيمَ فِيهِمَا فِي قَوْلِهِ، فَأَمَّا إِنْ نَوَى بِالتَّحْرِيمِ طَلَاقَ الزَّوْجَةِ أَوْ عِتْقَ الْأَمَةِ، نَفَذَ فِيهِمَا.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الظَّهْرَانِيُّ(١٤) أَخْبَرَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ العَدَني، أَخْبَرَنَا الْحَكَمُ بْنُ أَبَانٍ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﷺ.وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي تَحْرِيمِهِ العَسَل، كَمَا قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ:حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ(١٥) بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحش، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فتواطأتُ أَنَا وحفصةُ عَلَى: أيتُنا دخلَ عَلَيْهَا، فَلْتَقُلْ لَهُ: أكلتَ مَغَافير؟ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ. قَالَ: "لَا وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحش، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا"، ﴿تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ﴾(١٦) .هَكَذَا أورد هذا الحديث هاهنا بِهَذَا اللَّفْظِ، وَقَالَ فِي كِتَابِ "الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ": حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعَمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيد بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سمعتُ عَائِشَةَ تَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحش وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلا فتواصيتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أيتُنا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ فَلْتَقُلْ: إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ؛ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَتْ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: "لَا بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحش، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ". فَنَزَلَتْ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾ ؟ إِلَى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ لِقَوْلِهِ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا". وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، عَنْ هِشَامٍ: "وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ، فَلَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا"(١٧) .وَهَكَذَا رَوَاهُ فِي كِتَابِ "الطَّلَاقِ" بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْهُ(١٨) . ثُمَّ قَالَ: الْمَغَافِيرُ: شَبِيهٌ بِالصَّمْغِ، يَكُونُ فِي الرَّمَثِ فِيهِ حَلَاوَةٌ، أَغْفَرَ الرَّمَثُ: إِذَا ظَهَرَ فِيهِ. وَاحِدُهَا مَغْفُورٌ، وَيُقَالُ: مَغَافِيرُ. وَهَكَذَا قَالَ الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: وَقَدْ يَكُونُ الْمَغْفُورُ أَيْضًا للعُشر والثُّمام والسَّلَم وَالطَّلْحِ. قَالَ: والرِّمْثُ، بِالْكَسْرِ: مَرْعَى مِنْ مَرَاعِي الْإِبِلِ، وَهُوَ مِنَ الحَمْض. قَالَ: وَالْعُرْفُطُ: شَجَرٌ مِنَ الْعِضَاهِ ينضَح المغفُور [مِنْهُ](١٩) .وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ "الطَّلَاقِ" مِنْ صَحِيحِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٍ، عَنْ عُبيد بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ،(٢٠) بِهِ، وَلَفْظُهُ كَمَا أَوْرَدَهُ الْبُخَارِيُّ فِي "الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ".ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ "الطَّلَاقِ": حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهَر، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ الحَلوى والعَسل، وَكَانَ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ. فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مَا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَغِرْتُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ، فَقِيلَ لِي: أَهْدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّة عَسَل، فَسَقَتِ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لنحتالَن لَهُ. فَقُلْتُ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: إِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ، فَإِذَا دَنَا مِنْكِ فَقُولِي: أَكَلْتَ مغَافير؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ ذَلِكَ(٢١) لَا. فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ لَكِ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ. فَقُولِي: جَرَسَتْ نحلُه العُرفُطَ. وَسَأَقُولُ ذَلِكَ، وَقَوْلِي أَنْتِ لَهُ يَا صَفِيَّةُ ذَلِكَ، قَالَتْ -تَقُولُ سَوْدَةُ-: وَاللَّهِ(٢٢) مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَامَ عَلَى الْبَابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُنَادِيَهُ بِمَا أَمَرْتِنِي فَرَقًا مِنْكِ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا قَالَتْ لَهُ سَوْدَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: "لَا ". قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ الَّتِي أَجِدُ مِنْكَ؟ قَالَ: "سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَربة عَسَلٍ". قَالَتْ: جَرَسَت نَحلُه العرفطَ. فَلَمَّا دَارَ إليَّ قُلْتُ نَحْوَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى صَفِيَّةَ قَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَارَ إِلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا أَسْقِيَكَ مِنْهُ؟ قَالَ: "لَا حاجةَ لِي فِيهِ". قَالَتْ -تَقُولُ سَوْدَةُ-: والله لقد حَرَمْنَاه. قلت لها: اسكتي(٢٣) .هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ. وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ سُوَيد بْنِ سَعيد، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِر، بِهِ. وَعَنْ أَبِي كُرَيْب وَهَارُونَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَالْحَسَنِ بْنِ بِشْرٍ، ثَلَاثَتُهُمْ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهِ(٢٤) وَعِنْدَهُ قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ يَعْنِي: الرِّيحَ الْخَبِيثَةَ؛ وَلِهَذَا قُلْنَ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ لِأَنَّ رِيحَهَا فِيهِ شَيْءٌ. فَلَمَّا قَالَ: "بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا ". قُلْنَ: جَرَسَت نحلُه العرفطَ، أَيْ: رَعَت نحلُه شَجَر الْعُرْفُطَ الَّذِي صَمغُه الْمَغَافِيرُ؛ فَلِهَذَا ظَهَرَ ريحُه فِي الْعَسَلِ الَّذِي شَرِبْتَهُ.قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: جَرَسَت نحلُه الْعُرْفُطَ تَجْرِس: إِذَا أَكَلَتْهُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلنَّحْلِ: جَوَارِسُ، قَالَ الشَّاعِرُ:تَظَلّ عَلَى الثَّمْرَاء مِنها جَوَارسُ ...وَقَالَ: الجَرْس والجِرْس: الصَّوْتُ الْخَفِيُّ. وَيُقَالُ: سَمِعْتُ جَرْسَ الطَّيْرِ: إِذَا سمعتَ صَوْتَ مَنَاقِيرِهَا عَلَى شَيْءٍ تَأْكُلُهُ، وَفِي الْحَدِيثِ: "فَيَسْمَعُونَ جَرْس طَيْرِ الْجَنَّةِ". قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ شُعبة قَالَ: "فَيَسْمَعُونَ جَرْشَ طَيْرِ الْجَنَّةِ" بِالشِّينِ [الْمُعْجَمَةِ](٢٥) فَقُلْتُ: "جَرْسَ"؟! فَنَظَرَ إِلَيَّ فَقَالَ: خُذُوهَا عَنْهُ، فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِهَذَا مِنَّا(٢٦) .وَالْغَرَضُ أَنَّ هَذَا السِّيَاقَ فِيهِ أَنَّ حَفْصَةَ هِيَ السَّاقِيَةُ لِلْعَسَلِ، وَهُوَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ خَالَتِهِ عَنْ عَائِشَةَ. وَفِي طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ عَائِشَةَ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحش هِيَ الَّتِي سَقَتِ الْعَسَلَ، وَأَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ تَوَاطَأَتَا وَتَظَاهَرَتَا عَلَيْهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّهُمَا وَاقِعَتَانِ، وَلَا بُعْدَ فِي ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ كونَهما سَبَبًا لِنُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ نَظَرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، هُمَا الْمُتَظَاهِرَتَانِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيد اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ حَتَّى حَجَّ عُمَرُ وَحَجَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ عدَل عُمَرُ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِالْإِدَاوَةِ. فَتَبَرَّزَ ثُمَّ أَتَانِي، فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ فَتَوَضَّأَ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا﴾ ؟ فَقَالَ عُمَرُ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ -قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَرِهَ-وَاللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَلَمْ يَكْتُمْهُ قَالَ: هِيَ حَفْصَةُ وَعَائِشَةُ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ يَسُوقُ الْحَدِيثَ. قَالَ: كُنَّا مَعشَر قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغلبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغلِبُهم نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، قَالَ: وَكَانَ مَنْزِلِي فِي دَارِ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بالعَوَالي. قَالَ: فغضَبت يَوْمًا عَلَى امْرَأَتِي فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعني، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أزواج النبي(٢٧) ﷺ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ. قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: أَتُرَاجِعِينَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَتِ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاكُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وخَسر، أفتأمنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ؟ لَا تُرَاجِعِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَلَا تَسْأَلِيهِ شَيْئًا، وَسَلِينِي مِنْ مَالِي مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ إِنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أوسمُ وَأَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْكِ -يُرِيدُ عَائِشَةَ-قَالَ: وَكَانَ لِي جَارٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَيَأْتِينِي بِخَبَرِ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَآتِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ: وَكُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ غَسَّان تُنعِل الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا، فَنَزَلَ صَاحِبِي يَوْمًا ثُمَّ أَتَى عِشَاءً، فَضَرَبَ بَابِي ثُمَّ نَادَانِي، فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ! فَقُلْتُ: وَمَا ذَاكَ؟ أَجَاءَتْ غَسَّانُ؟ قَالَ: لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَطْوَلُ! طلَّق رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حفصةُ وخَسِرت، قَدْ كُنْتُ أَظُنُّ(٢٨) هَذَا كَائِنًا. حَتَّى إِذَا صليتُ الصُّبْحَ شددتُ عليَّ ثِيَابِي ثُمَّ نَزَلْتُ، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: أَطَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: لَا أَدْرِي، هُوَ هَذَا مُعْتَزِلٌ فِي هَذِهِ المشرَبة(٢٩) فَأَتَيْتُ غُلَامًا لَهُ أسودَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ الْغُلَامُ ثُمَّ خَرَجَ إليَ فَقَالَ: ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ. فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَتَيْتُ الْمِنْبَرَ، فَإِذَا عِنْدَهُ رَهْطٌ جُلُوسٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لعمرَ. فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ. فَخَرَجْتُ فَجَلَسْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَأَتَيْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ. فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فصمتَ. فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا فَإِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ: ادْخُلْ، قَدْ أَذِنَ لَكَ. فدخلتُ فسلمتُ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى رُمَال(٣٠) حَصِير.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَحَدَّثَنَاهُ يَعْقُوبُ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ: رُمَال حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقُلْتُ: أطلَّقت يَا رَسُولَ اللَّهِ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ وَقَالَ: "لَا". فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَغَضِبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ لَيُرَاجِعْنَهُ، وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ. فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْكُنَّ وَخَسِرَ، أفتأمنُ إِحْدَاكُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِهِ، فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَدخَلت عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ: لَا يغُرنَّك أَنْ كَانَتْ جارتُكِ هِيَ أوسمُ -أَوْ: أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْكِ. فَتَبَسَّمَ أُخْرَى، فَقُلْتُ: أَسْتَأْنِسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "نَعَمْ". فَجَلَسْتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فِي الْبَيْتِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي الْبَيْتِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ إِلَّا أهَبَةٌ ثَلَاثَةً(٣١) فَقُلْتُ: ادْعُ اللَّهَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلَى أُمَّتِكَ، فَقَدْ وسَّع عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ. فَاسْتَوَى جالسًا وقال: "أفي شك أنت يا بن الْخَطَّابِ؟ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا". فَقُلْتُ: اسْتَغْفِرْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَكَانَ أَقْسَمَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا؛ مِنْ شِدَّةِ مُوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حَتَّى عَاتَبَهُ الله، عز وجل(٣٢) .وَقَدْ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ(٣٣) وَأَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ عُبَيد بْنِ حُنَين، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَكَثْتُ سَنَةً أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنْ آيَةٍ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ، حَتَّى خَرَجَ حَاجًّا فَخَرَجْتُ مَعَهُ، فَلَمَّا رَجَعْنَا وَكُنَّا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، عَدَلَ إِلَى الأرَاك لِحَاجَةٍ لَهُ، قَالَ: فَوَقَفْتُ حَتَّى فَرَغَ، ثُمَّ سِرْتُ مَعَهُ فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَنِ اللَّتَانِ(٣٤) تَظَاهَرَتَا عَلَى النَّبِيِّ ﷺ؟(٣٥) .هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلِمُسْلِمٍ: مَنِ الْمَرْأَتَانِ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ﴾ ؟ قَالَ: عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ. ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ، وَمِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَهُ.وَقَالَ مُسْلِمٌ أَيْضًا: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِماك بْنِ الْوَلِيدِ -أَبِي زُمَيْلٍ-حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ، دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا النَّاسُ يَنكُتُون بِالْحَصَى، وَيَقُولُونَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ نِسَاءَهُ! وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُؤمَر بِالْحِجَابِ. فَقُلْتُ: لَأَعْلَمَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ ... فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي دُخُولِهِ عَلَى عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ، وَوَعْظِهِ إِيَّاهُمَا، إِلَى أَنْ قَالَ: فَدَخَلْتُ، فَإِذَا أَنَا بِرَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَى أسكُفَّة المشرَبة، فَنَادَيْتُ فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ، اسْتَأْذِنْ لِي عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فَذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقّ عَلَيْكَ مِنْ أَمْرِ النِّسَاءِ، فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وجبريلَ وَمِيكَائِيلَ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ، وَقَلَّمَا تكلمتُ -وَأَحْمَدُ اللَّهَ-بِكَلَامٍ إِلَّا رجوتُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قَوْلِي، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، آيَةُ التَّخْيِيرِ: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ ﴿وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ فَقُلْتُ: أَطَلَّقَتْهُنَّ؟ قَالَ: "لَا". فَقُمْتُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَنَادَيْتُ بِأَعْلَى صَوْتِي: لَمْ يُطَلِّقْ نِسَاءَهُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النِّسَاءِ: ٨٣] فَكُنْتُ أَنَا اسْتَنْبَطْتُ ذَلِكَ الْأَمْرَ(٣٦) .وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ، وَالضَّحَّاكُ، وَغَيْرُهُمْ: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -زَادَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَعُثْمَانُ. وَقَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَالَ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ ثِقَةٌ يَرْفَعُهُ إِلَى عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ [فِي](٣٧) قَوْلِهِ: ﴿وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ. وَهُوَ مُنْكَرٌ جَدًا.وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا هُشَيم، عَنْ حُميد، عن أنس، قال: قال عُمَرُ: اجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ(٣٨) .وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ وَافَقَ الْقُرْآنَ فِي أماكنَ، مِنْهَا فِي نُزُولِ الْحِجَابِ، وَمِنْهَا فِي أُسَارَى بَدْرٍ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ: لَوِ اتَّخَذْتَ مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٢٥] .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا [أَبِي، حَدَّثَنَا](٣٩) الْأَنْصَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيد، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: بَلَغَنِي شَيْءٌ كَانَ بَيْنَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ، فَاسْتَقْرَيْتُهُنَّ(٤٠) أَقُولُ: لَتَكُفُّنَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ أَوْ ليبدلَنّه اللَّهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. حَتَّى أَتَيْتُ عَلَى آخِرِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَتْ: يَا عُمَرُ، أَمَا لِي بِرَسُولِ اللَّهِ مَا يَعِظُ نِسَاءَهُ، حَتَّى تَعِظَهُنَّ؟! فَأَمْسَكْتُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ الَّتِي رَدّته عَمَّا كَانَ فِيهِ مِنْ وَعظ النِّسَاءِ هِيَ أُمُّ سَلَمَةَ، كَمَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ(٤١) .وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَائِلَةَ الْأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ الْبَجَلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانة، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا﴾ قَالَ: دخلَت حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فِي بَيْتِهَا وَهُوَ يَطَأ مَارِيَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تُخْبِرِي عَائِشَةَ حَتَّى أُبَشِّرَكِ بِبِشَارَةٍ، فَإِنَّ أَبَاكِ يَلي الأمرَ مِنْ بَعْدِ أَبِي بَكْرٍ إِذَا أَنَا مِتُّ". فَذَهَبَتْ حَفْصَةُ فأخبَرتْ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: مِنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ قَالَ: ﴿نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ﴾ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَا أَنْظُرُ إِلَيْكَ حَتَّى تُحَرِّمَ مَارِيَةَ فَحَرَّمَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ﴾(٤٢) .إِسْنَادُهُ فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ تَبَيَّنَ مِمَّا أَوْرَدْنَاهُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ﴾ ظَاهِرٌ.
* * *وَقَوْلُهُ ﴿سَائِحَاتٍ﴾ أَيْ: صَائِمَاتٍ، قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَائِشَةُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَطَاءٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، والسُدّيّ، وَغَيْرُهُمْ. وَتَقَدَّمَ فِيهِ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ مِنْ سُورَةِ "بَرَاءَةٌ"، وَلَفْظُهُ: "سياحةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الصيامُ".وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ﴿سَائِحَاتٍ﴾ أَيْ: مُهَاجِرَاتٍ، وَتَلَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ: ﴿السَّائِحُونَ﴾ [التَّوْبَةِ: ١١٢] أَيْ: الْمُهَاجِرُونَ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ أَيْ: مِنْهُنَّ ثَيِّبَاتٍ، وَمِنْهُنَّ أَبْكَارًا، لِيَكُونَ ذَلِكَ أَشْهَى إِلَى النُّفُوسِ، فَإِنَّ التَّنَوُّعَ يبسُط النفسَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ صَدَقَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْزُوقٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ، عَنْ صَالِحُ بْنُ حَيَّان، عَنِ ابْنِ بُرَيدة، عَنْ أَبِيهِ: ﴿ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا﴾ قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ نَبِيَّهُ ﷺ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَالثَّيِّبُ: آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَبِالْأَبْكَارِ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ(٤٣) .وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ "مَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَامُ" مِنْ طَرِيقِ سُوَيْد بْنِ سَعِيدٍ(٤٤) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِمَوْتِ خَدِيجَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُهَا السَّلَامَ، وَيُبَشِّرُهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنَّةِ مِنْ قَصَب، بَعِيدٍ مِنَ اللَّهَبِ(٤٥) لَا نَصَب فِيهِ وَلَا صَخَب، مِنْ لُؤْلُؤَةٍ جَوْفَاءَ بَيْنَ بَيْتِ مَرْيَمَ بِنْتِ عِمْرَانَ وَبَيْتِ آسِيَةَ بِنْتِ مُزَاحِمٍ(٤٦) .وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، وَهِيَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ: "يَا خَدِيجَةُ، إِذَا لَقِيتِ ضَرَائِرَكِ فَأَقْرِئِيهِنَّ مِنِّي السَّلَامَ". فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ تَزَوَّجْتَ قَبْلِي؟ قَالَ: "لَا"، وَلَكِنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ، وَكُلْثُمَ أُخْتَ مُوسَى". ضَعِيفٌ أَيْضًا(٤٧) .وَقَالَ أَبُو يَعْلَى: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ النُّورِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ(٤٨) بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُعْلِمتُ أَنَّ اللَّهَ زَوَّجَنِي فِي الْجَنَّةِ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ، وَكُلْثُمَ أُخْتَ مُوسَى، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ". فَقُلْتُ: هَنِيئًا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ(٤٩) .وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ وَرُوِيَ مُرْسَلًا عَنِ ابْنِ أَبِي دَاوُدَ.

(١) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٠٧) .
(٢) في أ: "الرقي".
(٣) تفسير الطبري (٢٨/١٠٠) .
(٤) في أ: "في يومها".
(٥) في م، أ: "الآيات كلها".
(٦) زيادة من أ.
(٧) تفسير الطبري (٢٨/١٠٢) وأصله في الصحيح وسيأتي.
(٨) المختارة للضياء المقدسي برقم (١٨٩) .
(٩) تفسير الطبري (٢٨/١٠١) .
(١٠) صحيح البخاري برقم (٤٩١١) .
(١١) صحيح مسلم برقم (١٤٧٣) .
(١٢) سنن النسائي الكبرى برقم (١١٦٠٩) .
(١٣) المعجم الكبير (١١/٨٦) .
(١٤) في م: "الطبراني".
(١٥) في أ: "عن عبد".
(١٦) صحيح البخاري برقم (٤٩١٢) .
(١٧) صحيح البخاري برقم (٦٦٩١) .
(١٨) صحيح البخاري برقم (٥٢٦٧) .
(١٩) زيادة من الصحاح، مادة "عرفط" ٣/١١٤٢.
(٢٠) صحيح مسلم برقم (١٤٧٤) .
(٢١) في م: "سيقول لك".
(٢٢) في م: "فوالله".
(٢٣) صحيح البخاري برقم (٥٢٦٨) .
(٢٤) صحيح مسلم برقم (١٤٧٤) .
(٢٥) زيادة من م.
(٢٦) انظر: الصحاح للجوهري ٢/٩٠٨ ولسان العرب لابن منظور، مادة "جرس".
(٢٧) في م: "إِنَّ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ".
(٢٨) في م: "أظن".
(٢٩) المشربة: هي الغرفة.
(٣٠) في م: "على رمل".
(٣١) في م: "معان".
(٣٢) المسند (١/٣٣، ٣٤) .
(٣٣) صحيح البخاري برقم (٥١٩١، ٢٤٦٨) وصحيح مسلم برقم (١٤٧٩) وسنن الترمذي برقم (٣٣١٨) وسنن النسائي (٤/١٣٧) .
(٣٤) في م: "المرأتان اللتان".
(٣٥) صحيح البخاري برقم (٤٩١٣) وصحيح مسلم برقم (١٤٧٩) .
(٣٦) صحيح مسلم برقم (١٤٧٩) .
(٣٧) زيادة من م، أ.
(٣٨) صحيح البخاري برقم (٤٩١٦) .
(٣٩) زيادة من م، أ.
(٤٠) في م: "فاستقريته".
(٤١) صحيح البخاري برقم (٤٤٨٣) ولم أر فيه التصريح بأنها أم سلمة والله أعلم.
(٤٢) المعجم الكبير (١٢/١١٧) ووجه ضعفه: أن فيه إسماعيل البجلي وهو ضعيف، والضحاك لم يلق ابن عباس فهو منقطع.
(٤٣) لم أقع عليه في المطبوع من المعجم الكبير للطبراني.
(٤٤) في أ: "بن سعد".
(٤٥) في أ: "من اللهو".
(٤٦) تاريخ دمشق (ص٣٨٣) "تراجم النساء" ط. المجمع العلمي بدمشق.
(٤٧) تاريخ دمشق (ص ٣٨٤) "تراجم النساء" ط. المجمع العلمي بدمشق.
(٤٨) في م، أ، هـ: "يوسف" والمثبت من المعجم الكبير للطبراني.
(٤٩) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٨/٣٠٩) والعقيلي في الضعفاء (٤/٤٥٩) من طريق عبد النور بن عبد الله به، وعبد النور كذاب، قال العقيلي: "وليس بمحفوظ".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الخميس، 22 يونيو 2023

من سورة الطلاق

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٦-٧ 
من سورة الطلاق 
﴿أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَیۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَاۤرُّوهُنَّ لِتُضَیِّقُوا۟ عَلَیۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُو۟لَـٰتِ حَمۡلࣲ فَأَنفِقُوا۟ عَلَیۡهِنَّ حَتَّىٰ یَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُوا۟ بَیۡنَكُم بِمَعۡرُوفࣲۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥۤ أُخۡرَىٰ (٦) لِیُنفِقۡ ذُو سَعَةࣲ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَیۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡیُنفِقۡ مِمَّاۤ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا یُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَاۤ ءَاتَىٰهَاۚ سَیَجۡعَلُ ٱللَّهُ بَعۡدَ عُسۡرࣲ یُسۡرࣰا (٧)﴾ [الطلاق ٦-٧]

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا عِبَادَهُ إِذَا طَلَّقَ أحدُهم الْمَرْأَةَ أَنْ يُسكنَها فِي مَنْزِلٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا، فَقَالَ: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ أَيْ: عِنْدَكُمْ، ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي سَعَتكم. حَتَّى قَالَ قَتَادَةُ: إِنْ لَمْ تَجِدْ إِلَّا جَنْبَ بَيْتِكَ فأسكنها فيه.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَعْنِي يُضَاجِرُهَا لِتَفْتَدِيَ مِنْهُ بِمَالِهَا أَوْ تَخْرُجَ مِنْ مَسْكَنِهِ.وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى: ﴿وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ قَالَ: يُطَلِّقُهَا، فَإِذَا بَقِيَ يَوْمَانِ رَاجَعَهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ، وَجَمَاعَاتٌ مِنَ الْخَلَفِ: هَذِهِ فِي الْبَائِنِ، إِنْ كَانَتْ حَامِلًا أَنْفَقَ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا، قَالُوا: بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ تَجِبُ نَفَقَتُهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا.وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ السِّيَاقُ كُلُّهُ فِي الرَّجْعِيَّاتِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى الْحَامِلِ وَإِنْ كَانَتْ رَجْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ تَطُولُ مُدَّتُهُ غَالِبًا، فَاحْتِيجَ إِلَى النَّصِّ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ إِلَى الْوَضْعِ؛ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ إِنَّمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِمِقْدَارِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ.وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ: هَلِ النَّفَقَةُ لَهَا بِوَاسِطَةِ الْحَمْلِ، أَمْ لِلْحَمْلِ وَحْدَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مَنْصُوصَيْنِ عَنِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا مَسَائِلُ مَذْكُورَةٌ فِي عِلْمِ الْفُرُوعِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ أَيْ: إِذَا وَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَهُنَّ طَوَالِقُ، فَقَدْ بنَّ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، وَلَهَا حِينَئِذٍ أَنْ تُرْضِعَ الْوَلَدَ، وَلَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْهُ، وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ تُغَذِّيَهُ باللبَّأ -وَهُوَ بَاكُورَةُ اللَّبَنِ الَّذِي لَا قِوَامَ لِلْوَلَدِ غَالِبًا إِلَّا بِهِ-فَإِنْ أَرْضَعَتِ اسْتَحَقَّتْ أَجْرَ مِثْلِهَا، وَلَهَا أَنْ تُعَاقِدَ أَبَاهُ أَوْ وَلِيَّهُ عَلَى مَا يَتَّفِقَانِ عَلَيْهِ مِنْ أُجْرَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ وَقَوْلُهُ: ﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ أَيْ: وَلْتَكُنْ أُمُورُكُمْ فِيمَا بَيْنَكُمْ بِالْمَعْرُوفِ، مِنْ غَيْرِ إِضْرَارٍ وَلَا مُضَارَّةٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ "الْبَقَرَةِ": ﴿لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣]
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ أَيْ: وَإِنِ اخْتَلَفَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، فَطَلَبَتِ الْمَرْأَةُ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ كَثِيرًا وَلَمْ يُجِبْهَا الرَّجُلُ إِلَى ذَلِكَ، أَوْ بَذَلَ الرَّجُلُ قَلِيلًا وَلَمْ تُوَافِقْهُ عَلَيْهِ، فَلْيَسْتَرْضِعْ لَهُ غَيْرَهَا. فَلَوْ رَضِيَتِ الْأُمُّ بِمَا اسْتُؤْجِرَتْ عَلَيْهِ الْأَجْنَبِيَّةُ فَهِيَ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ أَيْ: لِيُنْفِقْ عَلَى الْمَوْلُودِ وَالِدُهُ، أَوْ وَلِيُّهُ، بِحَسَبِ قُدْرَتِهِ، ﴿وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا﴾ كَقَوْلِهِ: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] .رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا حَكَّام، عن أَبِي سِنَانٍ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، فَقِيلَ: إِنَّهُ يَلْبَسُ الْغَلِيظَ مِنَ الثِّيَابِ، وَيَأْكُلُ أَخْشَنَ الطَّعَامِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ لِلرَّسُولِ: انْظُرْ مَا يَصْنَعُ بِهَا إِذَا هُوَ أَخَذَهَا: فَمَا لَبِثَ أَنْ لَبِسَ اللَّيِّنَ مِنَ الثِّيَابِ، وَأَكَلَ أَطْيَبَ الطَّعَامِ، فَجَاءَهُ الرَّسُولُ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: رَحِمَهُ اللَّهُ، تَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾(١) وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ مَرْثَدٍ الطَّبَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ، أَخْبَرَنِي أَبِي، أَخْبَرَنِي ضَمْضَم بْنُ زُرْعَة، عَنْ شُرَيح بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -وَاسْمُهُ الْحَارِثُ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، كَانَ لِأَحَدِهِمْ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، فَتَصَدَّقَ مِنْهَا بِدِينَارٍ. وَكَانَ لِآخَرَ عَشْرُ أَوَاقٍ، فَتَصَدَّقَ مِنْهَا بِأُوقِيَّةٍ. وَكَانَ لِآخَرَ مِائَةُ أُوقِيَّةٍ، فَتَصَدَّقَ مِنْهَا بِعَشْرِ أَوَاقٍ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "هُمْ فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ، كُلٌّ قَدْ تَصَدَّقَ بِعُشْرِ مَالِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾(٢)هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ وَعْدٌ مِنْهُ تَعَالَى، وَوَعْدُهُ حَقٌّ، لَا يُخْلِفُهُ، وَهَذِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشَّرْحِ: ٥، ٦]وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدِيثًا يَحْسُنُ أَنْ نَذْكُرَهُ هَا هُنَا، فَقَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَهْرَام، حَدَّثَنَا شَهْر بْنُ حَوْشَب قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ لَهُ فِي السَّلَفِ الْخَالِي لَا يَقْدِرَانِ عَلَى شَيْءٍ، فَجَاءَ الرَّجُلُ مِنْ سَفَرِهِ، فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ جَائِعًا قَدْ أَصَابَ(٣) مَسْغَبَةً شَدِيدَةً، فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَبْشِرْ، أَتَاكَ رِزْقُ اللَّهِ، فَاسْتَحَثَّهَا، فَقَالَ: وَيْحَكِ! ابْتَغِي إِنْ كَانَ عِنْدَكِ شَيْءٌ. قَالَتْ نَعَمْ، هُنَيهة -تَرْجُو رَحْمَةَ اللَّهِ-حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيْهِ الطَّوَى(٤) قَالَ: وَيْحَكِ! قُومِي فَابْتَغِي إِنْ كَانَ عِنْدَكِ شَيْءٌ فائتيني به، فإني قد بُلغتُ وجَهِدتُ. فقال: نعم، الآن يُنضح التَّنُّورُ فَلَا تَعْجَلْ. فَلَمَّا أَنْ سَكَتَ عَنْهَا سَاعَةً وَتَحَيَّنَتْ أَنْ يَقُولَ لَهَا، قَالَتْ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهَا: لَوْ قمتُ فنظرتُ إِلَى تَنُّورِي؟ فقامَتْ فنظرَت إِلَى تَنورها مَلْآنَ مِنْ جنُوبَ الْغَنَمِ، ورَحييها تطحنَان. فَقَامَتْ إِلَى الرَّحَى فنَفضتها، وَاسْتَخْرَجَتْ مَا فِي تَنُّورِهَا مِنْ جُنُوبِ الْغَنَمِ.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَالَّذِي نَفْسُ أَبِي الْقَاسِمِ بِيَدِهِ، هُوَ(٥) قَوْلُ مُحَمَّدٍ ﷺ: "لَوْ أَخَذَتْ مَا فِي رَحييها وَلَمْ تَنْفُضْهَا لَطَحَنَتَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(٦)وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ -وَهُوَ ابْنُ سِيرِينَ-عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْحَاجَةِ خَرَجَ إِلَى البَرِيَّة، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ قَامَتْ إِلَى الرَّحَى فَوَضَعَتْهَا، وَإِلَى التَّنُّورِ فسَجَرته، ثُمَّ قَالَتِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا. فَنَظَرَتْ، فَإِذَا الْجَفْنَةُ قَدِ امْتَلَأَتْ، قَالَ: وَذَهَبَتْ إِلَى التَّنُّورِ فَوَجَدَتْهُ مُمْتَلِئًا، قَالَ: فَرَجَعَ الزَّوْجُ قَالَ: أَصَبْتُمْ بَعْدِي شَيْئًا؟ قَالَتِ امْرَأَتُهُ: نَعَمْ، مِنْ رَبِّنَا. قَامَ إِلَى الرَّحَى، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَمَا إِنَّهُ لَوْ لَمْ تَرْفَعْهَا، لَمْ تزل تدور إلى يوم القيامة"(٧)

(١) تفسير الطبري (٢٨/٩٦) .
(٢) المعجم الكبير (٣/٢٩٢) وفس إسناده ضعف وانقطاع كما تقدم مرارًا.
(٣) في م، أ: "أصابته".
(٤) في م: "الطول".
(٥) في م: "عن".
(٦) المسند (٢/٤٢١) .
(٧) المسند (٢/٥١٣) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))