الأحد، 11 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٢٣_١٢٦
من سورة النساء 
﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا (١٢٣) وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرࣰا (١٢٤) وَمَنۡ أَحۡسَنُ دِینࣰا مِّمَّنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنࣱ وَٱتَّبَعَ مِلَّةَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ حَنِیفࣰاۗ وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ خَلِیلࣰا (١٢٥) وَلِلَّهِ مَا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءࣲ مُّحِیطࣰا (١٢٦)﴾ [النساء ١٢٣-١٢٦]

قَالَ قَتَادَةُ: ذُكرَ لَنَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ افْتَخَرُوا، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، فَنَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللَّهِ مِنْكُمْ نَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَكِتَابُنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتُبِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا](١) ﴾ الْآيَةَ. فَأَفْلَجَ اللَّهُ حُجَّةَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ.وَكَذَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ، وَمَسْرُوقٍ، وَالضَّحَّاكِ وَأَبِي صَالِحٍ، وَغَيْرِهِمْ وَكَذَا رَوَى العَوْفيّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تخاصَمَ أَهْلُ الْأَدْيَانِ فَقَالَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ: كِتَابُنَا خَيْرُ الْكُتُبِ، وَنَبِيُّنَا خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَقَالَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ: لَا دِينَ إِلَّا الْإِسْلَامُ. وَكِتَابُنَا نَسَخَ كُلَّ كِتَابٍ، وَنَبِيُّنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وأُمرْتُم وَأُمِرْنَا أَنْ نُؤْمِنَ بِكِتَابِكُمْ وَنَعْمَلَ بِكِتَابِنَا. فَقَضَى اللَّهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ وخَيَّر بَيْنَ الْأَدْيَانِ فَقَالَ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا](٢) ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْعَرَبُ: لَنْ نبْعث وَلَنْ نُعذَّب. وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ [الْبَقَرَةِ: ١١١] وَقَالُوا ﴿لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً﴾ [الْبَقَرَةِ: ٨٠] .وَالْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ الدِّينَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، وَلَيْسَ كُلّ مَنِ ادَّعَى شَيْئًا حَصَلَ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ، وَلَا كُلُّ مَنْ قَالَ: "إِنَّهُ هُوَ المُحق" سُمِعَ قَوْلُهُ بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنَ اللَّهِ بُرْهَانٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ أَيْ: لَيْسَ لَكُمْ وَلَا لَهُمُ النَّجَاةُ بِمُجَرَّدِ التَّمَنِّي، بَلِ الْعِبْرَةُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَاتِّبَاعِ مَا شَرَعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ الْكِرَامِ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ كَقَوْلِهِ ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨] .وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمَّا نَزَلَتْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْر، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ قَالَ: أخْبرْتُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ الصَّلَاحُ بَعْدَ هذه الآية: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَكُل سُوءٍ عَمِلْنَاهُ جُزِينَا بِهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "غَفَر اللَّهُ لكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، ألستَ تَمْرضُ؟ ألستَ تَنْصَب؟ أَلَسْتَ تَحْزَن؟ أَلَسْتَ تُصيبك اللَّأْوَاءُ(٣) ؟ " قَالَ: بَلَى. قَالَ: "فهو ما تُجْزَوْنَ به".وَرَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ خَلِيفَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي يَعلى، عَنْ أَبِي خَيْثَمة، عَنْ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهِ(٤) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ زِيَادٍ الْجَصَّاصِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "من يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا"(٥) .وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هُشَيْم بْنِ جُهَيْمَة، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، حَدَّثَنَا زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: انْظُرُوا الْمَكَانَ الَّذِي بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَصْلُوبًا وَلَا تمرُّنَّ عَلَيْهِ. قَالَ: فَسَهَا الْغُلَامُ، فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ يَنْظُرُ إِلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ ثَلَاثًا، أَمَا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلَّا صَوَّامًا قَوَّامًا وَصَّالًا(٦) لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُوَ مَعَ مُتَسَاوِي مَا أصبتَ أَلَّا يُعَذِّبَكَ اللَّهُ بَعْدَهَا. قَالَ: ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا فِي الدُّنْيَا يُجْزَ بِهِ".وَرَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ عَطَاءٍ، بِهِ(٧) مُخْتَصَرًا. وَقَدْ قَالَ فِي مُسْنَدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُسْتَمِرِّ العُروفي(٨) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَيّان، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدِّي حَيَّانَ بْنِ بِسْطَامٍ، قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ، فَمَرَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهُوَ مَصْلُوبٌ، فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ أَبَا خُبيب، سَمِعْتُ أَبَاكَ -يَعْنِي الزُّبَيْرَ-يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْأُخْرَى" ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنِ الزُّبَيْرِ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(٩)وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ كَامِلٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ الْعَوْفِيُّ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عبيدة، حدثني مولى بن سِبَاع قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يُحَدِّثُ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، هَلْ أُقْرِئُكَ آيَةً نَزَلَتْ عَلَيَّ؟ " قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَقْرَأَنِيهَا فَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنِّي وَجَدْتُ انقصَامًا فِي ظَهْرِي حَتَّى تَمَطَّأْتُ(١٠) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مالك يَا أَبَا بَكْرٍ؟ " قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَيُّنَا لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ، وَإِنَّا لمجْزيُّون بِكُلِّ سُوءٍ عَمِلْنَاهُ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَّا أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ يَا أَبَا بَكْرٍ الْمُؤْمِنُونَ فَتُجْزَوْنَ بِذَلِكَ في الدُّنْيَا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ، وَلَيْسَ لَكُمْ ذُنُوبٌ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَيُجْمَعُ لَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى يُجْزَوْا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُوسَى، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَمُوسَى بن عبيدة يضعف، ومولى بن سِبَاعٍ مَجْهُولٌ(١١) .[وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا الْغُلَامُ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ قَالَ: لمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَاءَتْ قَاصِمَةُ الظَّهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّمَا هِيَ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا"](١٢) .طَرِيقٌ أُخْرَى عَنِ الصِّدِّيقِ: قَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ الْعَسْكَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَامِرٍ السَّعْدِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيح، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ [الصِّدِّيقُ](١٣) يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَشَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ وَالْأَحْزَانُ فِي الدُّنْيَا جَزَاءٌ"(١٤) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَا حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الْحَارِثِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ قُنْفُذ(١٥) عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّ مَا نَعْمَلُ نُؤَاخَذُ بِهِ؟ فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ يُصِيبُكَ كَذَا وَكَذَا؟ فَهُوَ كَفَّارَةٌ"(١٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سِوَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي يَزِيدَ حَدَّثَهُ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَجُلًا تَلَا هذه الآية: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَ: إِنَّا لنُجْزَى بِكُلِّ عَمَل(١٧) ؟ هَلَكْنَا إذًا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "نَعَمْ، يُجْزَى بِهِ الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا، فِي نَفْسِهِ، فِي جَسَدِهِ، فِيمَا يُؤْذِيهِ"(١٨) .طَرِيقٌ(١٩) أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْم، عَنْ أَبِي عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكة، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَأَعْلَمُ أَشَدَّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ. فَقَالَ: "مَا هِيَ يَا عَائِشَةُ؟ " قُلْتُ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَ: "هُوَ مَا يُصِيبُ العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها".رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ صَالِحِ بْنِ رُسْتُمَ الْخَزَّازِ(٢٠) بِهِ(٢١) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أُمَيَّةَ أَنَّهَا سَأَلَتْ عَائِشَةَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ فَقَالَتْ: مَا سَأَلَنِي عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَدٌ مُنْذُ سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فقال: "يَا عَائِشَةُ، هَذِهِ مُبَايَعَةُ اللَّهِ لِلْعَبْدِ، مِمَّا يُصِيبُهُ مِنَ الْحُمَّى والنَّكْبَة وَالشَّوْكَةِ، حَتَّى الْبِضَاعَةُ فيضعها فِي كُمِّه فَيَفْزَعُ لَهَا، فَيَجِدُهَا فِي جَيْبِهِ، حَتَّى إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كَمَا يَخْرُجُ التِّبْرُ الْأَحْمَرُ مِنَ الكِير"(٢٢) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ(٢٣) إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، حَدَّثَنَا سُرَيج(٢٤) بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْجَرُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي الفَيْظ(٢٥) عِنْدَ الْمَوْتِ".وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بالحَزَن ليُكَفِّرها عَنْهُ"(٢٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ سَعِيدُ بْنِ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَيْصِن، سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَة، يُخْبِرُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ شَقّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "سَدِّدوا وَقَارِبُوا، فَإِنَّ فِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ الْمُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكها، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، وَمُسْلِمٍ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، بِهِ(٢٧) وَرَوَاهُ ابْنُ مَردُويه مِنْ حَدِيثِ رَوْحٍ وَمُعْتَمِرٍ كِلَاهُمَا، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ(٢٨) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ بَكَيْنَا وَحَزِنَّا وَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَبْقَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ شَيْءٍ. قَالَ: "أَمَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَكَمَا نَزَلَتْ، وَلَكِنْ أَبْشِرُوا وَقَارِبُوا وسَدِّدوا؛ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ أحدًا منكم فِي الدُّنْيَا إِلَّا كفَّر اللَّهُ بِهَا خَطِيئَتَهُ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكها أَحَدُكُمْ فِي قَدَمِهِ"(٢٩) .وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصب وَلَا وَصَب وَلَا سَقَم وَلَا حَزَن، حَتَّى الْهَمِّ يُهَمّه، إِلَّا كُفّر بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" أَخْرَجَاهُ(٣٠) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَتْنِي زَيْنَبُ بِنْتُ كَعْبِ بنُ عُجْرَة، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْأَمْرَاضَ الَّتِي تُصِيبُنَا؟ مَا لَنَا بِهَا؟ قَالَ: "كَفَّارَاتٌ". قَالَ أُبَيٌّ: وَإِنْ قَلَّتْ؟ قَالَ: "وَإِنْ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا" قَالَ: فَدَعَا أُبَيٌّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ الْوَعْك حَتَّى يَمُوتَ، فِي أَلَّا يَشْغَلَهُ عَنْ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَلَا جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي جَمَاعَةٍ، فَمَا مَسَّهُ إِنْسَانٌ إِلَّا وَجَدَ حَرَّهُ، حَتَّى مَاتَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ(٣١) .حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَمَنْ يَعْمَلْ حَسَنَةً يُجزَ بِهَا عَشْرًا. فَهَلَكَ مَنْ غَلَبَ وَاحِدَتُهُ(٣٢) عَشْرًا"(٣٣) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ الْحَسَنِ: ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ﴾ قَالَ: الْكَافِرُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ﴾ [سَبَأٍ: ١٧] .وَهَكَذَا رُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُمَا فَسَّرَا السُّوءَ هَاهُنَا بِالشِّرْكِ أَيْضًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ عامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَعْمَالِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا](٣٤) ﴾ لَمَّا ذَكَرَ الْجَزَاءَ عَلَى السَّيِّئَاتِ، وَأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَأْخُذَ مُسْتَحَقَّهَا مِنَ الْعَبْدِ إِمَّا فِي الدُّنْيَا -وَهُوَ الْأَجْوَدُ لَهُ -وَإِمَّا فِي الْآخِرَةِ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ، وَنَسْأَلُهُ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالصَّفْحَ وَالْعَفْوَ وَالْمُسَامَحَةَ -شَرَعَ فِي بَيَانِ إِحْسَانِهِ وَكَرَمِهِ وَرَحْمَتِهِ فِي قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادِهِ ذُكْرَانهم وَإِنَاثِهِمْ، بِشَرْطِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّهُ سَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَلَا يَظْلِمُهُمْ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَلَا مِقْدَارَ النَّقِيرِ، وَهُوَ: النَّقْرَةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَتِيلِ، وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، وَهَذَا النَّقِيرُ وَهُمَا فِي نَوَاةِ التَّمْرَةِ، وَكَذَا الْقِطْمِيرُ وَهُوَ اللِّفَافَةُ الَّتِي عَلَى نَوَاةِ التَّمْرَةِ، الثَّلَاثَةُ فِي القرآن.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ﴾ أَخْلَصَ الْعَمَلَ لِرَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَعَمِلَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيِ: اتَّبَعَ فِي عَمَلِهِ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ لَهُ، وَمَا أَرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، وَهَذَانَ الشَّرْطَانِ لَا يَصِحُّ عَمَلُ عَامِلٍ بِدُونِهِمَا، أَيْ: يَكُونُ خَالِصًا صَوَابًا، وَالْخَالِصُ أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ مُتَّبِعًا لِلشَّرِيعَةِ فيصح ظاهره بالمتابعة، وباطنه بالإخلاص، فمن فَقَدَ الْعَمَلُ أَحَدَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فَسَدَ. فَمَنْ فقد الإخلاص كان منافقًا، وهم الذين يراءون النَّاسَ، وَمَنْ فَقَدَ الْمُتَابَعَةَ كَانَ ضَالًّا جَاهِلًا. وَمَتَى جَمَعَهُمَا فَهُوَ عَمَلُ الْمُؤْمِنِينَ: ﴿الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ](٣٥) ﴾ [الْأَحْقَافِ: ١٦] ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ وَهُمْ مُحَمَّدٌ وَأَتْبَاعُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ](٣٦) ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٦٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ](٣٧) ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٦١] وَ ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٣] وَالْحَنِيفُ: هُوَ الْمَائِلُ عَنِ الشِّرْكِ قَصْدًا، أَيْ تَارِكًا لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ، وَمُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ بِكُلِّيَّتِهِ، لَا يَصُدُّهُ عَنْهُ صَادٌّ، وَلَا يَرُدُّهُ عَنْهُ رَادٌّ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّرْغِيبِ فِي اتِّبَاعِهِ؛ لِأَنَّهُ إِمَامٌ يُقْتَدَى بِهِ، حَيْثُ وَصَلَ إِلَى غَايَةِ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعِبَادُ لَهُ، فَإِنَّهُ انْتَهَى إِلَى دَرَجَةِ الخُلَّة الَّتِي هِيَ أَرْفَعُ مَقَامَاتِ الْمُحِبَّةِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِكَثْرَةِ طَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، كَمَا وَصَفَهُ بِهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النَّجْمِ: ٣٧] قَالَ كَثِيرُونَ(٣٨) مِنَ السَّلَفِ: أَيْ قَامَ بِجَمِيعِ مَا أُمِرَ بِهِ ووفَّى(٣٩) كُلَّ مَقَامٍ مِنْ مَقَامَاتِ الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَشْغَلُهُ أَمْرٌ جَلِيلٌ عَنْ حَقِيرٍ، وَلَا كَبِيرٌ عَنْ صَغِيرٍ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا](٤٠) ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ: ١٢٤] . وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ](٤١) ﴾ [النَّحْلِ: ١٢٠-١٢٢] .وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: إِنَّ مُعَاذًا لَمَّا قَدِمَ الْيَمَنَ صَلَّى الصُّبْحَ بِهِمْ: فَقَرَأَ: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا﴾ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَقَدْ قَرّت عينُ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ.وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ إِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّهُ خَلِيلًا مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَصَابَ أَهْلَ نَاحِيَتِهِ جَدْب، فَارْتَحَلَ إِلَى خَلِيلٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْمَوْصِلِ -وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مِنْ أَهْلِ مِصْرَ -لِيَمْتَارَ طَعَامًا لِأَهْلِهِ مِنْ قِبَله، فَلَمْ يُصِبْ عِنْدَهُ حَاجَتَهُ. فَلَمَّا قَرُب مِنْ أَهْلِهِ مَرَّ بِمَفَازَةٍ ذَاتِ رَمْلٍ، فَقَالَ: لَوْ مَلَأْتُ غَرَائري مِنْ هَذَا الرَّمْلِ، لِئَلَّا أغُمّ أَهْلِي بِرُجُوعِي إِلَيْهِمْ بِغَيْرِ مِيرَةٍ، وَلِيَظُنُّوا أَنِّي أَتَيْتُهُمْ بِمَا يُحِبُّونَ. فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَتَحَوَّلَ مَا فِي غَرَائِرِهِ مِنَ الرَّمْلِ دَقِيقًا، فَلَمَّا صَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ نَامَ وقام أهله ففتحوا الغرائر، فَوَجَدُوا دَقِيقًا فَعَجَنُوا وَخَبَزُوا مِنْهُ فَاسْتَيْقَظَ، فَسَأَلَهُمْ عَنِ الدَّقِيقِ الَّذِي مِنْهُ خَبَزُوا، فَقَالُوا: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ مِنْ عِنْدِ خَلِيلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ، هُوَ مِنْ خَلِيلِي اللَّهِ. فَسَمَّاهُ اللَّهُ بِذَلِكَ خَلِيلًا.وَفِي صِحَّةِ هَذَا وَوُقُوعِهِ نَظَرٌ، وَغَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا إِسْرَائِيلِيًّا لَا يُصدَّق وَلَا يُكذَّب، وَإِنَّمَا سُمّي خَلِيلَ اللَّهِ لِشِدَّةِ مَحَبَّةِ رَبِّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، لَهُ، لِمَا قَامَ لَهُ(٤٢) مِنَ الطَّاعَةِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ(٤٣) أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَطَبَهُمْ فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ خَلِيلًا وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ"(٤٤) .وَجَاءَ مِنْ طَرِيقِ جُنْدُب بْنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلي، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمرو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: "إن اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا"(٤٥) .وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أُسَيْد، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَعْقُوبَ الجَوْزجاني بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا عُبَيد اللَّهِ(٤٦) الحَنَفي، حَدَّثَنَا زَمْعة بْنِ صَالِحٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ وَهْرَام، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَلَسَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَنْتَظِرُونَهُ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْهُمْ سَمِعَهُمْ يَتَذَاكَرُونَ، فَسَمِعَ حَدِيثَهُمْ، وَإِذَا بَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَجَبًا إِنِ اللَّهَ اتَّخَذَ مِنْ خَلْقِهِ خَلِيلًا فَإِبْرَاهِيمُ خَلِيلُهُ! وَقَالَ آخَرُ: مَاذَا بِأَعْجَبِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا! وَقَالَ آخَرُ: فَعِيسَى رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ! وَقَالَ آخَرُ: آدَمُ اصْطَفَاهُ اللَّهُ! فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ وَقَالَ: "قَدْ سَمِعْتُ كَلَامَكُمْ وَتَعَجُّبَكُمْ(٤٧) أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمُوسَى كَلِيمُهُ، وَعِيسَى رُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ، وَآدَمَ اصْطَفَاهُ اللَّهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ أَلَا وَإِنِّي حَبِيبُ اللَّهِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مشَفع وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُ حِلَق الْجَنَّةِ، فَيَفْتَحُ اللَّهُ فَيُدْخِلُنِيهَا وَمَعِي فُقَرَاءُ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ".وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلِبَعْضِهِ شَوَاهِدُ فِي الصِّحَاحِ(٤٨) وَغَيْرِهَا.وَقَالَ قَتَادَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ تَكُونَ الخُلَّة لِإِبْرَاهِيمَ، وَالْكَلَامُ لِمُوسَى، وَالرُّؤْيَةُ لِمُحَمَّدٍ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَالْأَئِمَّةِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدَكَ الْقَزْوِينِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ -يَعْنِي ابْنَ سَعِيدِ بْنِ سابق - حَدَّثَنَا عَمْرٌو -يَعْنِي ابْنَ أَبِي قَيْسٍ -عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي رَاشِدٍ، عَنْ عُبَيْد بْنِ عُمَير قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُضِيفُ النَّاسَ، فَخَرَجَ يَوْمًا يَلْتَمِسُ إِنْسَانًا يُضِيفُهُ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُضِيفُهُ، فَرَجَعَ إِلَى دَارِهِ فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلًا قَائِمًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، مَا أَدْخَلَكَ دَارِي بِغَيْرِ إِذْنِي؟ قَالَ: دَخَلْتُهَا بِإِذْنِ رَبِّهَا. قَالَ: وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مَلَكُ الْمَوْتِ، أَرْسَلَنِي رَبِّي إِلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ أُبَشِّرُهُ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا. قَالَ: مَنْ هُوَ؟ فَوَاللَّهِ إِنْ أَخْبَرْتَنِي بِهِ ثُمَّ كَانَ بِأَقْصَى الْبِلَادِ لَآتِيَنَّهُ(٤٩) ثُمَّ(٥٠) لَا أَبْرَحُ لَهُ جَارًا حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَنَا الْمَوْتُ. قَالَ: ذَلِكَ الْعَبْدُ أَنْتَ. قَالَ: أَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فِيمَ اتَّخَذَنِي اللَّهُ خَلِيلًا؟ قَالَ: إِنَّكَ تُعْطِي النَّاسَ وَلَا تَسْأَلُهُمْ(٥١) .وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ خَالِدٍ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا أَلْقَى فِي قَلْبِهِ الوَجَل، حَتَّى إِنْ كَانَ خفقانُ قَلْبِهِ لَيُسْمَعُ مِنْ بَعِيدٍ(٥٢) كَمَا يُسْمَعُ خَفَقَانُ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ. وَهَكَذَا جَاءَ فِي صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهُ كَانَ يُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المرْجل مِنَ الْبُكَاءِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ﴾ أَيِ: الْجَمِيعُ مِلْكُهُ وَعَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ، وَهُوَ الْمُتَصَرِّفُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا رَادَّ لِمَا قَضَى، وَلَا مُعَقِّبَ لِمَا حَكَمَ، وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، لِعَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلُطْفِهِ وَرَحْمَتِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا﴾ أَيْ: عِلْمُهُ نَافِذٌ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، لَا تَخْفَى(٥٣) عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ عِبَادِهِ، وَلَا يعْزُب عَنْ عِلْمِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السموات وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ ذَرَّةٌ لِمَا(٥٤) تَرَاءَى لِلنَّاظِرِينَ وَمَا تَوَارَى.

(١) زيادة من ر، أ.
(٢) زيادة من ر.
(٣) في أ: "ألست يصيبك أذى".
(٤) المسند (١/١١) وسنن سعيد بن منصور برقم (٦٩٦) وصحيح ابن حبان برقم (١٧٣٤) "موارد" والمستدرك (٣/٧٤) .
(٥) المسند (١/٦) .
(٦) في ر، أ: "وصولا".
(٧) مسند البزار برقم (٢١) ، وقال الدارقطني في العلل (٤/٢٢٣) : "رواه زياد الجصاص واختلف عنه، فرواه عبد الوهاب بن عطاء عن زياد عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابن عمر عن أبي بكر، وخالفه أبو عاصم العباداني فرواه عن زياد الجصاص عن سالم عن ابن عمر عن عمر، وليس فيه شيء يثبت".
(٨) في ر، أ: "العوفي".
(٩) مسند البزار برقم (٩٦٢) ، وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٢) "فيه عبد الرحمن بن سليم بن حيان ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات"، والظاهر أنه عبد الرحيم، كما في العلل للدارقطني (٤/٢٢٣) حين سئل عن طريق سليم بن حيان عن أبيه عن ابن عمر فقال: يقوله عبد الرحمن بن سليم بن حيان عن أبيه عن ابن عمر، وقال مرة: عن أبيه عن نافع عن ابن عمر، وعبد الرحيم ضعيف، وزياد ضعيف".
(١٠) في ر، أ: "تمطأت لها".
(١١) سنن الترمذي برقم (٣٠٣٩) .
(١٢) زيادة من أ.
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) ورواه أبو نعيم في الحلية (٨/١١٩) من هذا الطريق به، وفيه محمد السعدي كان يكذب ويضع.
(١٥) في أ: "نمير".
(١٦) تفسير الطبري (٩/٢٤٠) .
(١٧) في أ: "عمل عملنا".
(١٨) سنن سعيد بن منصور برقم (٦٩٩) ورواه أحمد في المسند (٦/٦٥) من طريق عبد الله بن وهب به.
(١٩) في أ: "حديث".
(٢٠) في ر، أ: "الجزار".
(٢١) تفسير الطبري (٩/٢٤٦) وسنن أبي داود برقم (٣٠٩٣) .
(٢٢) مسند الطيالسي برقم (١٥٨٤) ورواه أحمد في المسند (٦/٢١٨) من طريق حماد بن سلمة به.
تنبيه: وقع عند الطيالسي "معاتبة" بدل: "مبايعة" وعند أحمد "متابعة".
(٢٣) في ر: "أبو".
(٢٤) في ر، أ: "شريح".
(٢٥) في ر: "الغيض"، وفي أ: "الغيط". الفيظ: خروج الروح.
(٢٦) المسند (٦/١٥٧) .
(٢٧) سنن سعيد بن منصور برقم (٦٩٤) والمسند (٢/٢٤٨) وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٤) ، وسنن الترمذي برقم (٥٠٢٩) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٢٢) .
(٢٨) في أ: "زيد".
(٢٩) وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزمي ضعيف.
(٣٠) صحيح البخاري برقم (٥٦٤١، ٥٦٤٢) . وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٣) .
(٣١) المسند (٣/٢٣) ، ورواه أبو يعلى في مسنده (٢/٢٨١) وقال الهيثمي في المجمع (٢/٣٠١) : "رجاله ثقات".
(٣٢) في ر: "واحد" وفي أ: "واحدة".
(٣٣) وإسناده ضعيف جدا كما سبق في المقدمة.
(٣٤) زيادة من و، أ، وفي هـ "الآية".
(٣٥) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣٦) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣٧) زيادة من أ.
(٣٨) في د: "كثير".
(٣٩) في أ: "به وفى".
(٤٠) زيادة من ر، أ.
(٤١) زيادة من ر.
(٤٢) في أ: "لديه".
(٤٣) في أ: "رواية".
(٤٤) صحيح البخاري برقم (٣٦٥٤) وصحيح مسلم برقم (٢٣٨٢) ولفظه: "صاحبكم خليل الله" هي من حديث عبد الله بن مسعود، رواه مسلم برقم (٢٣٨٣) .
(٤٥) أما حديث جندب بن عبد الله فرواه مسلم في صحيحه برقم (٥٣٢) ، وأما حديث عبد الله بن عمرو فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٩٦١٦) ، وأما حديث عبد الله بن مسعود، فرواه مسلم في صحيحه برقم (٢٣٨٣) .
(٤٦) في د، ر: "عبد الله".
(٤٧) في أ: "عجبكم".
(٤٨) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٦١٦) وقال: "هذا حديث غريب".
(٤٩) في أ: "لأتيته".
(٥٠) في أ: "ثم قال لا ".
(٥١) وإسناده مرسل.
(٥٢) في ر: "بعد".
(٥٣) في ر: "يخفي".
(٥٤) في ر: "الذرة أما".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 9 ديسمبر 2022

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١_٣
من سورة الأنعام 
﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَۖ ثُمَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِرَبِّهِمۡ یَعۡدِلُونَ (١) هُوَ ٱلَّذِی خَلَقَكُم مِّن طِینࣲ ثُمَّ قَضَىٰۤ أَجَلࣰاۖ وَأَجَلࣱ مُّسَمًّى عِندَهُۥۖ ثُمَّ أَنتُمۡ تَمۡتَرُونَ (٢) وَهُوَ ٱللَّهُ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَفِی ٱلۡأَرۡضِ یَعۡلَمُ سِرَّكُمۡ وَجَهۡرَكُمۡ وَیَعۡلَمُ مَا تَكۡسِبُونَ (٣)﴾ [الأنعام ١-٣]

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَبِهِ الثِّقَةُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ](١)تَفْسِيرُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ[وَهِيَ مَكِّيَّةٌ](٢)قَالَ العَوْفيّ وعِكْرمة وعَطاء، عَنِ ابْنِ عباس: أنزلت سورة الأنعام بمكة.وَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهال، حَدَّثَنَا(٣) حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مِهْران، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ بِمَكَّةَ لَيْلًا جُمْلَةً، حَوْلَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجْأَرُونَ حَوْلَهَا بِالتَّسْبِيحِ(٤)وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ لَيْث، عَنْ شَهْر بْنِ حَوْشَب، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ جُمْلَةً [وَاحِدَةً](٥) وَأَنَا آخِذَةٌ بِزِمَامِ نَاقَةِ النَّبِيِّ ﷺ، إِنْ كَادَتْ مِنْ ثِقَلِهَا لَتَكْسِرُ عِظَامَ النَّاقَةِ(٦)وَقَالَ شَرِيكٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ شَهْرٍ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ فِي زَجَلٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَقَدْ نَظَمُوا(٧) مَا بَيْنَ السَّمَاءِ والأرض(٨) وَقَالَ السُّدِّي(٩) عَنْ مُرَة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ يُشَيِّعُهَا سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ.وَرُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ.وَقَالَ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظُ، وَأَبُو الْفَضْلِ الْحَسَنِ بْنُ يَعْقُوبَ الْعَدْلُ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْعَبْدِيُّ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْن، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدِّي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ سَبّح رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: " لَقَدْ شَيَّعَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا سَدَّ الْأُفُقَ ". ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ(١٠)وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُوَيه: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ دُرُسْتُويه الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ طَلْحَةَ الرَّقَاشِيُّ، عَنْ نَافِعِ بْنِ مَالِكٍ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " نَزَلَتْ سُورَةُ الْأَنْعَامِ مَعَهَا مَوْكِبٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، سَد مَا بَيْنَ الخَافِقَين لَهُمْ زَجَل بِالتَّسْبِيحِ وَالْأَرْضُ بِهِمْ تَرْتَجّ "، وَرَسُولُ اللَّهِ [ﷺ](١١) يَقُولُ: " سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ "(١٢)ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَرْدُوَيه عَنِ الطَّبَرَانِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نَائِلَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنِ ابْنِ عَوْن، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: " نَزَلَتْ عَلَيّ سُورَةُ الْأَنْعَامِ جُمْلَةً وَاحِدَةً، وشَيَّعَها سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، لَهُمْ زَجَلٌ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ "(١٣)
* * *يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى مَادِحًا نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ، وَحَامِدًا لَهَا عَلَى خَلْقِهِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ قَرَارًا لِعِبَادِهِ، وَجَعَلَ(١٤) الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ مَنْفَعَةً لِعِبَادِهِ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، فَجَمَعَ لَفْظَ "الظُّلُمَاتِ" ووحَّد لَفْظَ(١٥) النُّورَ"؛ لِكَوْنِهِ أَشْرَفَ، كَمَا قَالَ ﴿عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ﴾ [النَّحْلِ: ٤٨] ، وَكَمَا قَالَ(١٦) فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٥٣] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ أَيْ: وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ كَفَرَ بِهِ بَعْضُ عِبَادِهِ، وَجَعَلُوا مَعَهُ شَرِيكًا وَعِدْلًا وَاتَّخَذُوا لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ﴾ يَعْنِي: أَبَاهُمْ آدَمَ الَّذِي هُوَ أَصْلُهُمْ وَمِنْهُ خَرَجُوا، فَانْتَشَرُوا فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ يَعْنِي: الْمَوْتَ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي: الْآخِرَةَ.وَهَكَذَا رُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَطِيَّةَ، والسُّدِّي، ومُقاتِل بْنِ حَيَّان، وَغَيْرِهِمْ.وَقَوْلُ(١٧) الْحَسَنِ -فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ قَالَ: مَا بَيْنَ أَنْ يُخْلَقَ إِلَى أَنْ يَمُوتَ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ مَا بَيْنَ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُبْعَثَ-هُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ تَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْخَاصِّ، وَهُوَ عُمُرُ كُلِّ إِنْسَانٍ، وَتَقْدِيرُ الْأَجَلِ الْعَامِّ، وَهُوَ عُمُرُ الدُّنْيَا بِكَمَالِهَا ثُمَّ انْتِهَائِهَا وَانْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، [وَانْتِقَالِهَا](١٨) وَالْمَصِيرُ إِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ.وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ يَعْنِي: مُدَّةَ الدُّنْيَا ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي: عُمُرَ الْإِنْسَانِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ [يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ](١٩) ﴾ الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: ٦٠] .وَقَالَ عَطِيَّةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا﴾ يَعْنِي: النَّوْمَ، يَقْبِضُ فِيهِ الرُّوحَ، ثُمَّ يَرْجِعُ(٢٠) إِلَى صَاحِبِهِ عِنْدَ الْيَقَظَةِ ﴿وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ﴾ يَعْنِي: أَجَلَ مَوْتِ الْإِنْسَانِ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ.وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿عِنْدَهُ﴾ أَيْ: لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧] ، وَكَقَوْلِهِ ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا﴾ [النَّازِعَاتِ: ٤٢ -٤٤] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ قَالَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ: يَعْنِي تَشُكُّونَ فِي أَمْرِ السَّاعَةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ اختلف مُفَسِّرُو هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ، بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَخْطِئَةِ قَوْلِ الجَهْمِيَّة(٢١) الْأَوَّلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ -تَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-فِي كُلِّ مَكَانٍ؛ حَيْثُ حَمَلُوا الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ، فَأَصَحُّ الْأَقْوَالِ أَنَّهُ(٢٢) الْمَدْعُوُّ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، أَيْ: يَعْبُدُهُ وَيُوَحِّدُهُ وَيُقِرُّ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَيُسَمُّونَهُ اللَّهَ، وَيَدْعُونَهُ رَغَبًا ورَهَبًا، إِلَّا مَنْ كَفَرَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٨٤] ، أَيْ: هُوَ إِلَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهُ مَنْ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ﴾ خَبَرًا أَوْ حَالًا.وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، مِنْ سِرٍّ وَجَهْرٍ. فَيَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿يَعْلَمُ﴾ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ﴾ تَقْدِيرُهُ: وَهُوَ اللَّهُ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ.وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ أَنَّ قَوْلَهُ ﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ وَقْفٌ تَامٌّ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْخَبَرَ فَقَالَ: ﴿وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ وَهَذَا(٢٣) اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ أَيْ: جَمِيعَ أَعْمَالِهِمْ خَيْرَهَا وَشَرَّهَا.

(١) زيادة من أ.
(٢) زيادة من د، أ.
(٣) في م: "عن".
(٤) المعجم الكبير (١٢/٢١٥) ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص ١٢٩) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص ١٥٧) من طريق حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ به، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف.
(٥) زيادة من أ.
(٦) رواه الطبراني في المعجم الكبير (٢٤/١٧٨) من طريق قبيصة عن سفيان به. وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٠) : " فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق".
(٧) في أ: "طبقوا".
(٨) قال الفاضل محمد بن رزق طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (١/٢٥٨) : "الحديث في إسناده ثلاثة ضعفاء في الحفظ وهم المذكورون قبل أسماء، وبالإضافة إلى هذا، ففيه علل أخرى:
الأولى: لفظة: "في مسير" دخلت على أحدهم من حديث نزول المائدة المروي عند أحمد وغيره من حديث ليث عن شهر عن أسماء حيث قَالَتْ: "إِنِّي لَآخِذَةٌ بِزِمَامِ الْعَضْبَاءِ، نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، إِذْ أنزلت عَلَيْهِ الْمَائِدَةُ كُلُّهَا وَكَادَتْ مِنْ ثِقْلِهَا تَدُقُّ بعضد الناقة". أخرجه أَحْمَدُ (٦/٤٥٥) : حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ يعنى شيبان عن ليث به.
الثانية: أن ذكر نزول الأنعام هنا وهم في الأصل من ليث أو شهر، ولا دخل لشريك فيه، فقد رواه أحمد بن منيع. (انظر: "إتحاف المهرة" ٧٤/ب/٤) والطبراني (٢٤/١٧٨) ، وابن مردويه (انظر: "الدر" ٣/٢) وعلقه ابن كثير -والله أعلم- نقلا من تفسيره ٣/٢٣٣ من طريق الليث عن شهر عن أسماء قالت: "نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم، جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة". ورواه عن ليث سفيان الثوري وإسحاق بن يوسف. والذي من هذا الطريق هو ذكر نزول المائدة كما تقدم، وإنما دخل الوهم في ذلك على ليث أو شهر، وحديث أسماء فيما بعد الهجرة بالتأكيد والأنعام مكية بلا خلاف، ولولا أن ثقل المائدة ليس فضلا خاصا بها بل هو للقرآن جملة؛ لكنت ذكرت شواهد حديث أسماء في ذلك عند سورة المائدة.
الثالثة: وهم شريك في جعل الحديث عن أسماء، وإنما هو من مراسيل شهر أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (٢٦٥/أ/٤) أخبرنا جرير، عن ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب: "نزلت سورة الأنعام ومعها زجل من الملائكة قد نظموا السماء الدنيا إلى الأرض"، وفيه ليث وشهر وكلاهما ضعيف من قبل حفظه، وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد (انظر: "الدر" ٣/٣) .
(٩) في أ: "سفيان الثوري".
(١٠) المستدرك (٢/٣١٤) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٣١) من طريق الحاكم به، وقد تعقب الذهبي الحاكم بقوله: "لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا". قلت: "وهو على شرط مسلم في المعاصرة، فإن وفاة السدي كانت سنة ١٢٧هـ، وولادة جعفر بن عون سنة ١٠٩ هـ، فاللقاء بينهما محتمل". وقول الذهبي: "أظنه موضوعا". لا وجه له؛ فرجال إسناد الحديث رجال مسلم، فالحمل فيه على من؟!
(١١) زيادة من م، أ.
(١٢) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (٢٤٣٤) والطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٧) "مجمع البحرين" من طرق عن أبى بكر أحمد بن محمد بن سالم، وفي إسناده أبو بكر أحمد بن محمد بن سالم لم أعرفه.
(١٣) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٦) "مجمع البحرين" ورواه أبو نعيم في الحلية (٣/٤٤) من طريق إبراهيم بن نائلة به. قال الهيثمي في المجمع (٧/٢٠) : "فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف".
(١٤) في د: "وفي جعله"
(١٥) في م: "له".
(١٦) في د: "ثم قال".
(١٧) في أ: "وقال".
(١٨) زيادة من م، أ.
(١٩) زيادة من أ.
(٢٠) في د: "ترجع".
(٢١) في د: "اتفاقهم على إنكار قول الجهمية".
(٢٢) في أ: "أن".
(٢٣) في م: "وهو".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة المائدة

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١٦_١١٨
من سورة المائدة 
﴿وَإِذۡ قَالَ ٱللَّهُ یَـٰعِیسَى ٱبۡنَ مَرۡیَمَ ءَأَنتَ قُلۡتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِی وَأُمِّیَ إِلَـٰهَیۡنِ مِن دُونِ ٱللَّهِۖ قَالَ سُبۡحَـٰنَكَ مَا یَكُونُ لِیۤ أَنۡ أَقُولَ مَا لَیۡسَ لِی بِحَقٍّۚ إِن كُنتُ قُلۡتُهُۥ فَقَدۡ عَلِمۡتَهُۥۚ تَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِی وَلَاۤ أَعۡلَمُ مَا فِی نَفۡسِكَۚ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلۡغُیُوبِ (١١٦) مَا قُلۡتُ لَهُمۡ إِلَّا مَاۤ أَمَرۡتَنِی بِهِۦۤ أَنِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ رَبِّی وَرَبَّكُمۡۚ وَكُنتُ عَلَیۡهِمۡ شَهِیدࣰا مَّا دُمۡتُ فِیهِمۡۖ فَلَمَّا تَوَفَّیۡتَنِی كُنتَ أَنتَ ٱلرَّقِیبَ عَلَیۡهِمۡۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ شَهِیدٌ (١١٧) إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ (١١٨)﴾ [المائدة ١١٦-١١٨]

هَذَا أَيْضًا مِمَّا يُخَاطِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عبده ورسوله عيسى ابن مريم، عليه السلام، قَائِلًا لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَضْرَةِ مَنِ اتَّخَذَهُ وَأَمَّهُ إِلَهَيْنِ مَنْ دُونِ اللَّهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ؟ وَهَذَا تَهْدِيدٌ لِلنَّصَارَى وَتَوْبِيخٌ وَتَقْرِيعٌ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ. هَكَذَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلَّ قَتَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ﴾وَقَالَ السُّدِّي: هَذَا الْخِطَابُ وَالْجَوَابُ فِي الدُّنْيَا.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: هَذَا هُوَ الصَّوَابُ، وَكَانَ ذَلِكَ حِينَ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا. وَاحْتَجَّ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى ذَلِكَ بِمَعْنَيَيْنِ:أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ لُفْظُ الْمُضِيِّ.وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ﴾ وَ ﴿إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ﴾وَهَذَانَ الدَّلِيلَانِ فِيهِمَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْمُضِيِّ، لِيَدُلَّ عَلَى الْوُقُوعِ وَالثُّبُوتِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ الْآيَةَ: التَّبَرِّي مِنْهُمْ وَرَدُّ الْمَشِيئَةِ فِيهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَتَعْلِيقُ ذَلِكَ عَلَى الشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ، كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَالَّذِي(١) قَالَهُ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ هُوَ الْأَظْهَرُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِيَدُلَّ عَلَى تَهْدِيدِ النَّصَارَى وَتَقْرِيعِهِمْ وَتَوْبِيخِهِمْ عَلَى رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ رُوِيَ بِذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، رَوَاهُ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَكَانَ ثِقَةً، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ يُحَدِّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُعِيَ بِالْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ، ثُمَّ يُدْعَى بِعِيسَى فَيُذَكِّرُهُ اللَّهُ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ، فيقِر بِهَا، فيقولُ: ﴿يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ﴾ الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ: ١١٠] ثُمَّ يَقُولُ: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ؟ فَيُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ، فَيُؤْتَى بِالنَّصَارَى فَيُسْأَلُونَ، فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هُوَ أَمَرَنَا بِذَلِكَ، قَالَ: فَيُطَوَّلُ شَعْرُ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَأْخُذُ كُلُّ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ بِشَعْرَةٍ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهِ وَجَسَدِهِ. فَيُجَاثِيهِمْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، مِقْدَارَ أَلْفِ عَامٍ، حَتَّى تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ، وَيُرْفَعَ لَهُمُ الصَّلِيبُ، وَيُنْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ"، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ عَزِيزٌ.(٢)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ هَذَا تَوْفِيقٌ لِلتَّأَدُّبِ فِي الْجَوَابِ الْكَامِلِ، كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: يَلْقَى عِيسَى حُجَّتَهُ، ولقَّاه اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَلَقَّاهُ اللَّهُ: ﴿سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أي آخِرِ الْآيَةِ.وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ مَعْمَر، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ طَاوُسٍ، بِنَحْوِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ أَيْ: إِنْ كَانَ صَدَرَ مِنِّي هَذَا فَقَدْ عَلِمْتَهُ يَا رَبِّ، فَإِنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكَ شَيْءٌ مِمَّا قُلْتُهُ وَلَا أَرَدْتُهُ فِي نَفْسِي وَلَا أَضْمَرْتُهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ بِإِبْلَاغِهِ ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أَيْ: مَا دَعَوْتُهُمْ إِلَّا إِلَى الَّذِي أَرْسَلْتَنِي بِهِ وَأَمَرْتَنِي بِإِبْلَاغِهِ: ﴿أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أَيْ: هَذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ لَهُمْ، ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أَيْ: كُنْتُ أَشْهَدُ عَلَى أَعْمَالِهِمْ حِينَ كُنْتُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ، ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ: حَدَّثَنَا شُعْبَة قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ فَأَمْلَاهُ عَلَى سُفْيَانَ وَأَنَا مَعَهُ، فَلَمَّا قَامَ انْتَسَخْتُ مِنْ سُفْيَانَ، فَحَدَّثَنَا قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَوْعِظَةٍ، فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، حُفَاةً عُرَاةً غُرْلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ، وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلَائِقِ يُكْسى إِبْرَاهِيمُ، أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: ﴿وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَيُقَالُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ".وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ الْوَلِيدِ، عَنْ أَبِي شُعْبَةَ -وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، كِلَاهُمَا عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ، بِهِ.(٣)
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هَذَا الْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ رَدَّ الْمَشِيئَةِ إِلَى اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الَّذِي لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. ويتضمن التَّبَرِّيَ مِنَ النَّصَارَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، وَعَلَى رَسُولِهِ، وَجَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا وَصَاحِبَةً وَوَلَدًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًا كَبِيرًا، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَهَا شَأْنٌ(٤) عَظِيمٌ وَنَبَأٌ عَجِيبٌ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ(٥) ﷺ قَامَ بِهَا لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ يُرَدِّدُهَا.قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْل، حَدَّثَنِي فُليَت الْعَامِرِيُّ، عَنْ جَسْرة الْعَامِرِيَّةِ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ-لَيْلَةً فَقَرَأَ بِآيَةٍ حَتَّى أَصْبَحَ، يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ بِهَا: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَلَمَّا أَصْبَحَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا زِلْتَ تَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى أَصْبَحْتَ تَرْكَعُ بِهَا وَتَسْجُدُ بِهَا؟ قَالَ: "إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، الشَّفَاعَةَ لِأُمَّتِي، فَأَعْطَانِيهَا، وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا".(٦)طَرِيقٌ أُخْرَى وَسِيَاقٌ آخَرُ: قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا قُدَامة بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَتْنِي جَسْرة بِنْتُ دَجَاجَةَ: أَنَّهَا انْطَلَقَتْ مُعْتَمِرَةً، فَانْتَهَتْ إِلَى الرَّبَذَةِ، فَسَمِعَتْ أَبَا ذَرٍّ يَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَصَلَّى بِالْقَوْمِ، ثُمَّ تَخَلَّفَ أَصْحَابٌ لَهُ يُصَلُّونَ، فَلَمَّا رَأَى قِيَامَهُمْ وَتَخَلُّفَهُمُ انْصَرَفَ إِلَى رَحْلِهِ، فَلَمَّا رَأَى الْقَوْمَ قَدْ أَخْلَوُا الْمَكَانَ رَجَعَ إِلَى مَكَانِهِ فَصَلَّى، فَجِئْتُ فَقُمْتُ خَلْفَهُ، فَأَوْمَأَ إليَّ بِيَمِينِهِ، فَقُمْتُ عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ جَاءَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَامَ خَلْفِي وَخَلْفَهُ، فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ بِشَمَالِهِ، فَقَامَ عَنْ شِمَالِهِ، فَقُمْنَا ثَلَاثَتُنَا يُصَلِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا بِنَفْسِهِ، وَيَتْلُو مِنَ الْقُرْآنِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْلُوَ. وَقَامَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُرَدِّدُهَا حَتَّى صَلَّى الْغَدَاةَ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا أَوْمَأْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: أَنْ سَلْهُ مَا أَرَادَ إِلَى مَا صَنَعَ الْبَارِحَةَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِيَدِهِ: لَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ حَتَّى يُحَدِّثَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، قُمْتَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَمَعَكَ الْقُرْآنُ، لَوْ فَعَلَ هَذَا بَعْضُنَا لَوَجَدْنَا عَلَيْهِ، قَالَ: "دَعَوْتُ لِأُمَّتِي". قُلْتُ: فَمَاذَا أَجِبْتَ؟ -أَوْ مَاذَا رُدَّ عَلَيْكَ؟ -قَالَ: "أُجِبْتُ بِالَّذِي لَوِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْهُمْ طلْعة تَرَكُوا الصَّلَاةَ". قُلْتُ: أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ؟ قَالَ: "بَلَى". فانطلقتُ مُعْنقًا قَرِيبًا مِنْ قَذْفة بِحَجَرٍ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ إِنْ تَبْعَثْ إِلَى النَّاسِ بِهَذَا نَكَلوا عَنِ الْعِبَادَةِ. فَنَادَاهُ أَنِ ارْجِعْ فَرَجَعَ، وَتِلْكَ الْآيَةُ: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾(٧)وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدَّثَهُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ؛ أن النبي ﷺ تَلَا قَوْلَ عِيسَى: ﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: "اللَّهُمَّ أُمَّتِي". وَبَكَى، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ -وَرَبُّكَ أَعْلَمُ-فَاسْأَلْهُ: مَا يُبْكِيهِ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قَالَ، فَقَالَ اللَّهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوؤُكَ.(٨)وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَسَنٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَة، حَدَّثَنَا ابْنُ هُبَيْرة(٩) أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا تَمِيمٍ الجَيْشاني يَقُولُ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: غَابَ عَنَّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا فَلَمْ يَخْرُجْ، حَتَّى ظَنَّنَا أَنْ لَنْ يَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ سَجَدَ سَجْدَةً ظَنَنَّا أَنَّ نَفْسه قَدْ قُبِضَتْ فِيهَا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: "إِنَّ رَبِّي، عَزَّ وَجَلَّ، اسْتَشَارَنِي فِي أُمَّتِي: مَاذَا أَفْعَلُ بِهِمْ؟ فَقُلْتُ: مَا شِئْتَ أَيْ رَبِّ هُمْ خَلْقُكَ وَعِبَادُكَ. فَاسْتَشَارَنِي الثَّانِيَةَ، فَقُلْتُ لَهُ كَذَلِكَ، فَقَالَ: لَا أُخْزِيكَ فِي أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَبَشَّرَنِي أَنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مَعِي سَبْعُونَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا، لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَقَالَ: ادْعُ تُجب، وَسَلْ تُعْطَ". فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: أَوَمُعْطٍي رَبِّي سُؤْلِي؟ قَالَ: مَا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ إِلَّا لِيُعْطِيَكَ، وَلَقَدْ أَعْطَانِي رَبِّي وَلَا فَخْرَ، وَغَفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنَا أَمْشِي حَيًّا صَحِيحًا، وَأَعْطَانِي أَلَّا تَجُوعَ أُمَّتِي وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطَانِي الْكَوْثَرَ، وَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ يَسِيلُ فِي حَوْضِي، وَأَعْطَانِي الْعِزَّ وَالنَّصْرَ وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا، وَأَعْطَانِي أَنِّي أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتِي الْغَنِيمَةَ، وَأَحَلَّ لَنَا كَثِيرًا مِمَّا شُدد عَلَى مَنْ قَبْلَنَا، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ".(١٠)

(١) في د: "فالذي".
(٢) تاريخ دمشق (١٩/١٢٨ القسم المخطوط) والمختصر لابن منظور (٢٩/٥٤) .
(٣) مسند الطيالسي برقم (٢٦٣٨) وصحيح البخاري برقم (٤٦٢٥) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٣٠٢٣) .
(٤) في د: "نبأ".
(٥) في د: "أن النبي".
(٦) المسند (٥/١٤٩) .
(٧) المسند (٥/١٤٩) .
(٨) ورواه مسلم في صحيحه برقم (٢٠٢) من طريق يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى عَنِ ابْنِ وَهْبٍ بنحوه.
(٩) في د: "ابن ميسرة".
(١٠) المسند (٥/٣٩٣) وقال الهيثمي في المجمع (٢/٢٨٧) : "فيه ابن لهيعة وفيه كلام".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 2 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم١٠٥_١٠٩ 
من سورة النساء 
﴿إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا (١٠٥) وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا (١٠٦) وَلَا تُجَـٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِینَ یَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمࣰا (١٠٧) یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا یَسۡتَخۡفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمۡ إِذۡ یُبَیِّتُونَ مَا لَا یَرۡضَىٰ مِنَ ٱلۡقَوۡلِۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا یَعۡمَلُونَ مُحِیطًا (١٠٨) هَـٰۤأَنتُمۡ هَـٰۤؤُلَاۤءِ جَـٰدَلۡتُمۡ عَنۡهُمۡ فِی ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا فَمَن یُجَـٰدِلُ ٱللَّهَ عَنۡهُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِ أَم مَّن یَكُونُ عَلَیۡهِمۡ وَكِیلࣰا (١٠٩)﴾ [النساء ١٠٥-١٠٩]

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿إِنّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ أَيْ: هُوَ حَقٌّ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ الْحَقَّ فِي خَبَرِهِ وَطَلَبِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾ احْتَجَّ بِهِ مَنْ ذَهَبَ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ إِلَى أَنَّهُ كَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِالِاجْتِهَادِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَبِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ رِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم سمع حَلَبَةَ خَصْمٍ بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: "أَلَا إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بِنَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ فَلْيَحْمِلَهَا(١) أَوْ لِيَذَرْهَا"(٢) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: جَاءَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ يَخْتَصِمَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي مَوَارِيثَ بَيْنَهُمَا قَدْ دَرَسَتْ، لَيْسَ عِنْدَهُمَا(٣) بَيِّنَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَن بحُجَّتِه مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ، يَأْتِي بِهَا إِسْطَامًا فِي عُنُقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". فَبَكَى الرَّجُلَانِ وَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمَا: حَقِّي لِأَخِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَمَّا إِذَا قُلْتُمَا فَاذْهَبَا فَاقْتَسِمَا، ثُمَّ تَوَخَّيَا الْحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِمَا، ثُمَّ ليُحْللْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا(٤) صَاحِبَهُ".وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، بِهِ. وَزَادَ: "إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بينكما برأي فيما لم يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ"(٥) .وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَرْدُويه، مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ غَزَوْا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ، فَسُرِقَتْ دِرْعٌ لِأَحَدِهِمْ، فَأُظِنَّ بِهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَى صَاحِبُ الدِّرْعِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنْ طُعْمةَ بْنَ أُبَيْرق سَرَقَ دِرْعِي، فَلَمَّا رَأَى السَّارِقُ(٦) ذَلِكَ عَمَدَ إِلَيْهَا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ رَجُلٍ بَرِيءٍ، وَقَالَ لِنَفَرٍ مِنْ عَشِيرَتِهِ: إِنِّي غَيَّبْتُ الدِّرْعَ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ فُلَانٍ، وَسَتُوجَدُ عِنْدَهُ. فَانْطَلِقُوا إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ لَيْلًا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ صَاحِبَنَا بَرِيءٌ. وَإِنَّ صَاحِبَ الدِّرْعِ فُلَانٌ، وَقَدْ أحطنا بذلك علما، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس النَّاسِ وَجَادِلْ عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِلَّا(٧) يَعْصِمْهُ اللَّهُ بِكَ يَهْلِكْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فبرأه وعذرَه على رءوس النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا(٨) ﴾ [يَقُولُ: احْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فِي الْكِتَابِ](٩) ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا](١٠) ﴾ ثُمَّ قَالَ لِلَّذِينِ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْفين بِالْكَذِبِ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا](١١) ﴾ يَعْنِي: الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْفِينَ يُجَادِلُونَ عَنِ الْخَائِنِينَ ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا](١٢) ﴾ يَعْنِي: الَّذِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَخْفِينَ بِالْكَذِبِ، ثُمَّ قَالَ: ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ يَعْنِي: السَّارِقَ وَالَّذِينَ جَادَلُوا عَنِ السَّارِقِ. وَهَذَا سِيَاقٌ غَرِيبٌ(١٣) وَكَذَا(١٤) ذَكَرَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ(١٥) فِي سَارِقِ بَنِي أُبَيْرِقٍ عَلَى اخْتِلَافِ سِيَاقَاتِهِمْ، وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ.وَقَدْ رَوَى هَذِهِ الْقِصَّةَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُطَوَّلَةً، فَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ جَامِعِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ:حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي شُعَيْبٍ أَبُو مُسْلِمٍ الحرَّاني، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الحرَّاني، حَدَّثَنَا محمد بن إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَر بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَتَادة بْنِ النُّعْمَانِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ بَيْتٍ مِنَّا يُقَالُ لَهُمْ بَنُو أُبَيْرق: بِشْر وَبُشَيْرٌ ومُبَشّر، وَكَانَ بُشَير رَجُلًا مُنَافِقًا، يَقُولُ(١٦) الشِّعْرَ يَهْجُو بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ يُنْحِلُهُ بَعْضَ الْعَرَبِ، ثُمَّ يَقُولُ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ فُلَانٌ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا سَمِعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَلِكَ الشِّعْرَ قَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَقُولُ هَذَا الشِّعْرَ إِلَّا هَذَا الْخَبِيثُ؟ -أَوْ كَمَا قَالَ الرَّجُلُ -وَقَالُوا(١٧) ابْنُ الْأُبَيْرِقِ قَالَهَا. قَالُوا: وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ حَاجَةٍ وَفَاقَةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَكَانَ النَّاسُ إِنَّمَا طَعَامُهُمْ بِالْمَدِينَةِ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ لَهُ يَسَارٌ فَقَدِمَتْ ضَافِطَةٌ(١٨) مِنَ الشَّامِ مِنَ الدَّرْمَك ابْتَاعَ الرَّجُلُ مِنْهَا فَخَصَّ بِهَا نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْعِيَالُ فَإِنَّمَا طَعَامُهُمُ التَّمْرُ وَالشَّعِيرُ، فَقَدِمَتْ ضَافطة(١٩) مِنَ الشَّامِ، فَابْتَاعَ عَمِّي رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ حِمْلًا مِنَ الدَّرْمَكِ فَحَطَّهُ فِي مَشْربة لَهُ، وَفِي الْمَشْرَبَةِ سِلَاحٌ: دِرْعٌ وَسَيْفٌ، فَعُدى عَلَيْهِ مِنْ تَحْتِ الْبَيْتِ، فَنقّبت الْمَشْرَبَةُ وَأُخِذَ الطَّعَامُ وَالسِّلَاحُ. فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنَّهُ قَدْ عُدِيَ عَلَيْنَا فِي لَيْلَتِنَا هَذِهِ. فَنُقِبَتْ مَشْرَبَتُنَا وَذُهِبَ بِطَعَامِنَا وَسِلَاحِنَا. قَالَ: فَتَجَسَّسْنَا فِي الدَّارِ وَسَأَلْنَا، فَقِيلَ لَنَا: قَدْ رَأَيْنَا بَنِي أُبَيْرق اسْتَوْقَدُوا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، وَلَا نَرَى فِيمَا نَرَى إِلَّا عَلَى بَعْضِ طَعَامِكُمْ.قَالَ: وَكَانَ بَنُو أُبَيْرِقٍ قَالُوا -وَنَحْنُ نَسْأَلُ فِي الدَّارِ -: وَاللَّهِ مَا نَرَى صَاحِبَكُمْ إِلَّا لَبِيد بْنَ سَهْلٍ رَجُلًا مِنَّا لَهُ صَلَاحٌ وَإِسْلَامٌ. فَلَمَّا سَمِعَ لَبِيدٌ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ: أَنَا أَسْرِقُ؟ وَاللَّهِ(٢٠) لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ. قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا أَيُّهَا الرَّجُلُ، فَمَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا. فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حَتَّى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا.فَقَالَ لِي عَمِّي: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ أتيتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرْتَ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَلْتُ: إِنَّ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَّا أَهَّلُ جَفَاءٍ عَمَدُوا إِلَى عَمِّي رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ، فنَقَبوا مُشْرَبَةً لَهُ، وَأَخَذُوا سِلَاحَهُ وَطَعَامَهُ. فَلْيردوا عَلَيْنَا سِلَاحَنَا، فَأَمَّا الطَّعَامُ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ(٢١) ﷺ "سآمُرُ فِي ذَلِكَ".فَلَمَّا سَمِعَ بَنُو أُبَيْرق أَتَوْا رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَير بْنُ عمْرو(٢٢) فَكَلَّمُوهُ فِي ذَلِكَ، فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ قَتَادَةَ(٢٣) بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ عَمِدَا إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إِسْلَامٍ وَصَلَاحٍ، يَرْمُونَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَلَا ثَبْتٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ: "عَمَدْتَ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ ذُكر مِنْهُمْ إِسْلَامٌ وَصَلَاحٌ، تَرْمِيهِمْ بِالسَّرِقَةِ عَلَى غَيْرِ ثَبَت وَلَا بَيِّنَةٍ؟(٢٤) ؟قَالَ: فَرَجَعْتُ ولَوَدِدت أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ، فَأَتَانِي عَمِّي رِفَاعَةُ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، مَا صَنَعْتَ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَقَالَ: اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ. فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ: ﴿إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ بَنِي أُبَيْرِقٍ ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ﴾ مِمَّا قُلْتَ لِقَتَادَةَ ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ](٢٥) ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿رَحِيمًا﴾ أَيْ: لَوِ اسْتَغْفَرُوا اللَّهَ لَغَفَرَ لَهُمْ ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِثْمًا مُبِينًا﴾ قَوْلُهُمْ لِلَبِيدٍ: ﴿وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ﴾ إِلَى قَوْلِهِ: ﴿فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالسِّلَاحِ فردَّه إِلَى رِفَاعَةَ.فَقَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا أَتَيْتُ عَمِّي بِالسِّلَاحِ وَكَانَ شَيْخًا، قَدْ عَشَا أَوْ عَسَا -الشَّكُّ مِنْ أَبِي عِيسَى -فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكُنْتُ أَرَى إِسْلَامَهُ مَدْخُولًا فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِالسِّلَاحِ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، هُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَعَرَفْتُ أَنَّ إِسْلَامَهُ كَانَ صَحِيحًا، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ لَحِقَ بُشَيرٌ بِالْمُشْرِكِينَ، فَنَزَلَ عَلَى سُلافةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ سُمَية، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا﴾ فَلَمَّا نَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ رَمَاهَا حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ بِأَبْيَاتٍ مِنْ(٢٦) شِعْرِهِ، فَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَوَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ فَرَمَتْ بِهِ فِي الْأَبْطَحِ، ثُمَّ قَالَتْ: أهديتَ لِي شِعْر حَسَّانَ؟ مَا كنتَ تَأْتِينِي بِخَيْرٍ.لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا أَسْنَدَهُ غَيْرَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ الْحَرَّانِيِّ: وَرَوَى يُونُسُ بْنُ بُكَير وَغَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَر بْنِ قَتَادَةَ مُرْسَلًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ عَنْ(٢٧) أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ.وَرَوَاهُ ابْنُ حَاتِمٍ عَنْ هَاشِمِ بْنِ الْقَاسِمِ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ بِبَعْضِهِ.وَرَوَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ -يَعْنِي الصَّائِغَ -حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أحمد ابن أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ -فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.وَرَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ بْنِ أَيُّوبَ وَالْحَسَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، كِلَاهُمَا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أحمد بن أبي شعيب الحراني، عن محمد بْنِ سَلَمَةَ، بِهِ. ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِهِ: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ: سَمِعَ مِنِّي هَذَا الْحَدِيثَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ إِسْرَائِيلَ(٢٨) .وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِهِ "الْمُسْتَدْرَكِ" عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ العُطاردي، عَنْ يُونُسَ بْنِ بُكَير، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ -بِمَعْنَاهُ أَتَمَّ مِنْهُ، وَفِيهِ الشِّعْرُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٢٩) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ](٣٠) ﴾ الْآيَةَ، هَذَا إِنْكَارٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ فِي كَوْنِهِمْ يَسْتَخْفُونَ بِقَبَائِحِهِمْ مِنَ النَّاسِ لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ، وَيُجَاهِرُونَ اللَّهَ بِهَا لِأَنَّهُ(٣١) مُطَّلِعٌ عَلَى سَرَائِرِهِمْ وَعَالَمٌ بِمَا فِي ضَمَائِرِهِمْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا﴾ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ.ثُمَّ قَالَ: ﴿هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا](٣٢) ﴾ أَيْ: هَبْ أَنَّ هَؤُلَاءِ انْتَصَرُوا فِي الدُّنْيَا بِمَا أَبْدَوْهُ أَوْ أبدى لهم عند الحكام الذين يَحْكُمُونَ بِالظَّاهِرِ -وَهُمْ مُتَعَبدون(٣٣) بِذَلِكَ -فَمَاذَا يَكُونُ صَنِيعُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ، الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي يَتَوَكَّلُ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي تَرْوِيجِ دَعْوَاهُمْ؟ أَيْ: لَا أَحَدَ يَكُونُ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ وَكِيلًا وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا﴾

(١) في أ: "فليأخذها".
(٢) صحيح البخاري برقم (٢٤٥٨) وصحيح مسلم برقم (١٧١٣) .
(٣) في أ: "بينهما".
(٤) في أ: "كل منهما".
(٥) المسند (٦/٣٢٠) وسنن أبي داود برقم (٣٥٨٤) .
(٦) في ر: "البارق".
(٧) في د: "إن لم".
(٨) في ر: "وأنزل الله الذكر في الكتاب".
(٩) زيادة من أ.
(١٠) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(١١) زيادة من ر، أ، و، وفي هـ: "الآيتين".
(١٢) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(١٣) ورواه الطبري في تفسيره (٩/١٨٣) وإسناده مسلسل بالضعفاء كما تقدم.
(١٤) في أ: "وهكذا".
(١٥) في ر: "أن هذه الآية نزلت".
(١٦) في أ: "منافقا فكان يقول".
(١٧) في أ: "وقال".
(١٨) في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".
(١٩) في د: "غير"، وفي ر: "صافطة".
(٢٠) في أ: "فوالله".
(٢١) في د: "رسول الله".
(٢٢) في د، أ: "ابن عروة".
(٢٣) في أ: "قدادة".
(٢٤) في أ: "ثبت وبينة".
(٢٥) زيادة من ر، أ.
(٢٦) في ر: "في".
(٢٧) في أ: "غير".
(٢٨) سنن الترمذي برقم (٣٠٣٦) وتفسير الطبري (٩/١٧٧) وانظر: حاشية الشيخ أحمد شاكر في كلامه على هذا الحديث (٩/١٨١) .
(٢٩) المستدرك (٤/٣٨٥ - ٣٨٨) ووافقه الذهبي.
(٣٠) زيادة من ر، أ.
(٣١) في أ: "فإنه".
(٣٢) زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".
(٣٣) في ر، أ: "معبدون".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 29 نوفمبر 2022

من سورة المائدة

﴿مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِیرَةࣲ وَلَا سَاۤىِٕبَةࣲ وَلَا وَصِیلَةࣲ وَلَا حَامࣲ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا یَعۡقِلُونَ (١٠٣) وَإِذَا قِیلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡا۟ إِلَىٰ مَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ قَالُوا۟ حَسۡبُنَا مَا وَجَدۡنَا عَلَیۡهِ ءَابَاۤءَنَاۤۚ أَوَلَوۡ كَانَ ءَابَاۤؤُهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَهۡتَدُونَ (١٠٤)﴾ [المائدة ١٠٣-١٠٤]

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسان، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب قَالَ: "الْبَحِيرَةُ": الَّتِي يُمْنَعُ دَرُّهَا لِلطَّوَاغِيتِ، فَلَا يَحْلبها(١) أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ. وَ"السَّائِبَةُ": كَانُوا يسيبونَها لِآلِهَتِهِمْ، لَا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شَيْءٌ -قَالَ: وَقَالَ(٢) أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "رَأَيْتُ عمْرَو بْنَ عَامِرٍ الْخُزَاعِيَّ يجُرّ قُصْبَه فِي النَّارِ، كَانَ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ"-و"الْوَصِيلَةُ": النَّاقَةُ الْبِكْرُ، تُبَكّر فِي أَوَّلِ نِتَاجِ الْإِبِلِ، ثُمَّ تُثَنّي بَعْدُ بِأُنْثَى، وَكَانُوا يُسَيِّبُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ، إِنْ وَصَلَتْ إحْدَاهما بِالْأُخْرَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذكَر. و"الْحَامُ": فَحْلُ الْإِبِلِ يَضربُ الضرّابَ الْمَعْدُودَ، فَإِذَا قَضَى ضِرَابَهُ وَدَعُوه لِلطَّوَاغِيتِ، وَأَعْفَوْهُ عَنِ الحَمْل، فَلَمْ يُحْمَل عَلَيْهِ شَيْءٌ، وسَمّوه(٣) الْحَامِيَ.وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، بِهِ.(٤)ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ لِي أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدًا يُخْبِرُ بِهَذَا. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ. وَرَوَاهُ ابْنُ الْهَادِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ.(٥)قَالَ الْحَاكِمُ: أَرَادَ الْبُخَارِيُّ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بُخْت، عَنِ الزُّهْرِيِّ. كَذَا حَكَاهُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَجَّاجِ الْمُزَنِيُّ فِي "الْأَطْرَافِ" وَسَكَتَ وَلَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهِ. وَفِيمَا قَالَهُ الْحَاكِمُ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ وَأَبَا جَعْفَرِ بْنَ جَرِيرٍ رَوَيَاهُ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عن الزُّهْرِيِّ نَفْسِهِ.(٦) وَاللَّهُ أَعْلَمُ.ثُمَّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَعْقُوبَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الكِرْماني، حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَة؛ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "رَأَيْتُ جَهَنَّم يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَرَأَيْتُ عَمْرًا يَجُرُّ قُصْبه، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ". تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.(٧)وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حدثنا هَنَّاد، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَير، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الجَوْن: "يَا أَكْثَمُ، رَأَيْتُ عَمْرو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمعَةَ بْنِ خِنْدف يَجُرُّ قُصْبه فِي النَّارِ، فَمَا رَأَيْتُ رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلٍ مِنْكَ بِهِ، وَلَا بِهِ مِنْكَ". فَقَالَ أَكْثَمُ: تَخْشَى أَنْ يَضُرَّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ(٨) رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا إِنَّكَ مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ، إِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيّر دِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَبَحَّرَ الْبَحِيرَةَ، وَسَيَّبَ السَّائِبَةَ، وَحَمَى الْحَامِيَ". ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ هَنَّادٍ، عَنْ عَبْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، بِنَحْوِهِ أَوْ مِثْلِهِ.(٩)لَيْسَ هَذَانَ الطَّرِيقَانِ فِي الْكُتُبِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُجَمِّع، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الهَجَري، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قال: "إن أَوَّلَ مَنْ سَيَّب السَّوَائِبَ، وَعَبَدَ الْأَصْنَامَ، أَبُو خُزَاعَةَ عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُهُ يَجُرُّ أَمْعَاءَهُ فِي النَّارِ". تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.(١٠)وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَر، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ". قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "عَمْرُو بْنُ لُحَيّ أَخُو بَنِي كَعْبٍ، لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصْبه فِي النَّارِ، يُؤذي رِيحُهُ أَهْلَ النَّارِ. وَإِنِّي لَأَعْرِفُ أَوَّلَ مَنْ بَحَّرَ الْبَحَائِرَ". قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلج، كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ، فَجَدَعَ آذَانَهُمَا، وَحَرَّمَ أَلْبَانَهُمَا، ثُمَّ شَرِبَ أَلْبَانَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُمَا يَعَضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا وَيَخْبِطَانِهِ(١١) بِأَخْفَافِهِمَا".(١٢)فَعَمْرُو هَذَا هُوَ ابْنُ لُحَيِّ بْنِ قَمَعَة، أَحَدُ رُؤَسَاءِ خُزَاعَةَ، الَّذِينَ ولَوا الْبَيْتَ بَعْدَ جَرْهم. وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، فَأَدْخَلَ الْأَصْنَامَ إِلَى الْحِجَازِ، وَدَعَا الرَّعَاعَ مِنَ النَّاسِ إِلَى عِبَادَتِهَا وَالتَّقَرُّبِ بِهَا، وَشَرَعَ لَهُمْ هَذِهِ الشَّرَائِعَ الْجَاهِلِيَّةَ فِي الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٣٦] إِلَى آخَرِ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ.فَأَمَّا الْبَحِيرَةُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا نَتَجَتْ خَمْسَةَ أبْطُن نَظَرُوا إِلَى الْخَامِسِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا ذَبَحُوهُ، فَأَكَلَهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ. وَإِنْ كَانَ(١٣) أُنْثَى جَدَعُوا آذَانَهَا، فَقَالُوا: هَذِهِ بَحِيرَةٌ.وَذَكَرَ السُّدِّي وَغَيْرُهُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا.وَأَمَّا السَّائِبَةُ، فَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ مِنَ الْغَنَمِ نَحْوَ مَا فُسِّرَ مِنَ الْبَحِيرَةِ، إِلَّا أَنَّهَا مَا وُلِدَتْ مِنْ وَلَدٍ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِتَّةِ أَوْلَادٍ كَانَ عَلَى هَيْئَتِهَا، فَإِذَا وَلَدَتِ السَّابِعَ ذَكَرًا أَوْ ذَكَرَيْنِ، ذَبَحُوهُ، فَأَكَلَهُ رِجَالُهُمْ دُونَ نِسَائِهِمْ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: السَّائِبَةُ: هِيَ النَّاقَةُ إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ مِنَ الْوَلَدِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ ذَكَرٌ، سُيّبت فَلَمْ تُرْكَبْ، وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهَا، وَلَمْ يَحْلِبْ لَبَنَهَا إِلَّا الضَّيْفُ.وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: السَّائِبَةُ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا خَرَجَ فَقُضيت حَاجَتُهُ، سَيَّب مِنْ مَالِهِ نَاقَةً أَوْ غَيْرَهَا، فَجَعَلَهَا لِلطَّوَاغِيتِ. فَمَا وَلَدَتْ مِنْ شَيْءٍ كَانَ لَهَا.وَقَالَ السُّدِّي: كَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا قُضيت حَاجَتُهُ أَوْ عُوفي مِنْ مَرَضٍ أَوْ كَثُرَ مَالُهُ سَيَّب شَيْئًا مِنْ مَالِهِ لِلْأَوْثَانِ، فَمَنْ عَرَضَ لَهُ مِنَ النَّاسِ عُوقب بِعُقُوبَةٍ(١٤) فِي الدُّنْيَا.وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هِيَ الشَّاةُ إِذَا نَتَجَتْ سَبْعَةَ أُبْطُنٍ نَظَرُوا إِلَى السَّابِعِ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مَيِّتٌ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ أُنْثَى اسْتَحْيَوْهَا، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا وَأُنْثَى فِي بَطْنٍ اسْتَحْيَوْهُمَا وَقَالُوا: وَصَلَتْهُ أُخْتُهُ فَحَرَّمَتْهُ عَلَيْنَا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: ﴿وَلا وَصِيلَةٍ﴾ قَالَ: فَالْوَصِيلَةُ مِنَ الْإِبِلِ، كَانَتِ النَّاقَةُ تَبْتَكِرُ بِأُنْثَى، ثُمَّ تُثَنَّى بِأُنْثَى، فَسَمَّوْهَا الْوَصِيلَةَ، وَيَقُولُونَ: وَصَلَتْ أُنْثَيَيْنِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا ذَكَرٌ، فَكَانُوا يَجْدَعُونَهَا لِطَوَاغِيتِهِمْ.وَكَذَا رُوِيَ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ.وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: الْوَصِيلَةُ مِنَ الْغَنَمِ: إِذَا وَلَدَتْ عَشْرَ إِنَاثٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ، تَوْأَمَيْنِ تَوْأَمَيْنِ فِي كُلِّ بَطْنٍ، سُمِّيَتِ الْوَصِيلَةَ وَتُرِكَتْ، فَمَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، جُعِلَتْ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً اشْتَرَكُوا فِيهَا.وَأَمَّا الْحَامُ، فَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا لقح فحله عشرًا، قيل حام، فاتركوه.وَكَذَا قَالَ أَبُو رَوْقٍ، وَقَتَادَةُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَأَمَّا الْحَامِ فَالْفَحْلُ مِنَ الْإِبِلِ، إِذَا وُلد لِوَلَدِهِ قَالُوا: حَمى هَذَا ظَهْرَهُ، فَلَا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا، وَلَا يَجُزُّونَ لَهُ وَبَرًا، وَلَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ حِمَى رَعْيٍ، وَمِنْ حَوْضٍ يَشْرَبُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ الْحَوْضُ لِغَيْرِ صَاحِبِهِ.وَقَالَ ابْنُ وَهْب: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: أَمَّا الْحَامِ فَمِنَ الْإِبِلِ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْإِبِلِ، فَإِذَا انْقَضَى ضِرَابُهُ جَعَلُوا عَلَيْهِ رِيشَ الطَّوَاوِيسِ وَسَيَّبُوهُ.وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ طَرِيقِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعي، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ الجُشَمي، عَنْ أَبِيهِ مَالِكِ بْنِ نَضْلَة قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي خَلْقان مِنَ الثِّيَابِ، فَقَالَ لِي: "هَلْ لَكَ مِنْ مَالٍ؟ " قُلْتُ(١٥) نَعَمْ. قَالَ: "مِنْ أَيِّ الْمَالِ؟ " قَالَ: فَقُلْتُ: مِنْ كُلِّ الْمَالِ، مِنَ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ. قَالَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فلْيُرَ عَلَيْكَ". ثُمَّ قَالَ: "تُنْتِجُ إِبِلُكَ وَافِيَةً آذَانُهَا؟ " قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "وَهَلْ تُنْتِجُ الْإِبِلُ إِلَّا كَذَلِكَ؟ " قَالَ: "فَلَعَلَّكَ تَأْخُذُ الْمُوسَى فَتَقْطَعُ آذَانَ طَائِفَةٍ مِنْهَا وَتَقُولُ: هَذِهِ بَحِيرٌ، وَتَشُقُّ آذَانَ طَائِفَةٍ مِنْهَا، وَتَقُولُ: هَذِهِ حَرَمٌ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: "فَلَا تَفْعَلْ، إِنَّ كُلَّ مَا آتَاكَ اللَّهُ لَكَ حِلٌّ"، ثُمَّ قَالَ: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ﴾ أَمَّا الْبَحِيرَةُ: فَهِيَ الَّتِي يَجْدَعُونَ آذَانَهَا، فَلَا تَنْتَفِعُ امْرَأَتُهُ وَلَا بَنَاتُهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ بِصُوفِهَا وَلَا أَوْبَارِهَا وَلَا أَشْعَارِهَا وَلَا أَلْبَانِهَا، فَإِذَا مَاتَتِ اشْتَرَكُوا فِيهَا. وَأَمَّا السَّائِبَةُ: فَهِيَ الَّتِي يُسَيِّبُونَ لِآلِهَتِهِمْ، وَيَذْهَبُونَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَيُسَيِّبُونَهَا، وَأَمَّا الْوَصِيلَةُ: فَالشَّاةُ تَلِدُ سِتَّةَ أَبْطُنٍ، فَإِذَا وَلَدَتِ السَّابِعَ(١٦) جُدِعَتْ وَقُطِعَ قَرْنُهَا، فَيَقُولُونَ: قَدْ وَصَلَتْ، فَلَا يَذْبَحُونَهَا وَلَا تُضْرَبُ وَلَا تُمْنَعُ مَهْمَا وَرَدَتْ عَلَى حَوْضٍ. هَكَذَا يَذْكُرُ تَفْسِيرَ ذَلِكَ مُدْرَجًا فِي الْحَدِيثِ. وَقَدْ رُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، مِنْ قَوْلِهِ، وَهُوَ أَشْبَهُ.(١٧)وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ(١٨) الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَمْرِو بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَمِّهِ أَبِي الْأَحْوَصِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَضْلَةَ، عَنْ أَبِيهِ، بِهِ. وَلَيْسَ فِيهِ تفسير هذه(١٩) والله أعلم.وقوله: ﴿وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ أَيْ: مَا شَرَعَ اللَّهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَلَا هِيَ عِنْدَهُ قُرْبَةٌ، وَلَكِنَّ الْمُشْرِكِينَ افْتَرَوْا ذَلِكَ(٢٠) وَجَعَلُوهُ شَرْعًا لَهُمْ وَقُرْبَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَيْهِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَاصِلٍ لَهُمْ، بَلْ هُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِمْ.﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أَيْ: إِذَا دُعُوا إِلَى دِينِ اللَّهِ وَشَرْعِهِ وَمَا أَوجَبَهُ وتَرْك مَا حَرَّمَهُ، قَالُوا: يَكْفِينَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ الآباءَ وَالْأَجْدَادَ مِنَ الطَّرَائِقِ وَالْمَسَالِكِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ أَيْ: لا يفهمون حقًا، ولا يَعْرِفُونَهُ، وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَتْبَعُونَهُمْ وَالْحَالَةُ هَذِهِ؟ لَا يَتْبَعُهُمْ إِلَّا مَنْ هُوَ أَجْهَلُ مِنْهُمْ، وَأَضَلُّ سَبِيلًا.

(١) في د: "عليها".
(٢) في د: "فقال".
(٣) في د: "ويسموه".
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٦٢٣) وصحيح مسلم برقم (٢٨٥٦) .
(٥) صحيح البخاري برقم (٤٦٢٣) .
(٦) المسند (٢/٣٦٦) وتفسير الطبري (١١/١١٦) .
(٧) صحيح البخاري برقم (٤٦٢٤) .
(٨) في د: "قال".
(٩) تفسير الطبري (١١/١١٧) ورواه ابن هشام في السيرة النبوية (١/٧٨) من طريق محمد بن إسحاق به.
(١٠) المسند (١/٤٤٦) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف، لكن للحديث شواهد من حديث عائشة وأبي هريرة المتقدمين، وانظر كلام الشيخ ناصر الألباني في السلسة الصحيحة برقم (١٦٧٧) .
(١١) في د: "ويطآنه".
(١٢) تفسير عبد الرزاق (١/١٩١) ورواه الطبري في تفسيره (١١/١٢٠) من طريق عبد الرزاق به.
(١٣) في د: "كانت".
(١٤) في د: "يغربه".
(١٥) في د: "فقلت".
(١٦) في د: "وتلد السابع".
(١٧) ورواه الطبري في تفسيره (١١/١٢٢) من طريق شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ أبيه به.
(١٨) في د: "وروى الحديث".
(١٩) المسند (٤/١٣٦) .
(٢٠) في د: "ولكن افتروه المشركون".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 25 نوفمبر 2022

من سورة ال عمران

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٩٩_٢٠٠
من سورة ال عمران 
﴿وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَمَن یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِمۡ خَـٰشِعِینَ لِلَّهِ لَا یَشۡتَرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنࣰا قَلِیلًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ (١٩٩) یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱصۡبِرُوا۟ وَصَابِرُوا۟ وَرَابِطُوا۟ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ (٢٠٠)﴾ [آل عمران ١٩٩-٢٠٠]

يخبرُ تَعَالَى عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ حَقَّ الْإِيمَانِ، وَبِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، مَعَ مَا هُمْ يُؤْمِنُونَ بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَنَّهُمْ خَاشِعُونَ لِلَّهِ، أَيْ: مُطِيعُونَ لَهُ خَاضِعُونَ مُتَذَلِّلُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ أَيْ: لَا يَكْتُمُونَ بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِمُحَمَّدٍ ﷺ، وَذَكَرَ صِفَتَهُ وَنَعْتَهُ وَمَبْعَثَهُ وَصِفَةَ أُمَّتِهِ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ خِيرَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ وَصَفْوَتُهُمْ، سَوَاءً كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى(١) عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا﴾ الْآيَةَ [الْقَصَصِ:٥٢-٥٤] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ الْآيَةَ [الْبَقَرَةِ:١٢١] ، وَقَالَ: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الْأَعْرَافِ:١٥٩] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ:١١٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا. وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ [الْإِسْرَاءِ:١٠٧-١٠٩] ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ تُوجَدُ فِي الْيَهُودِ، وَلَكِنْ قَلِيلًا كَمَا وُجِدَ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ آمَنُ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ وَلَمْ يَبْلُغُوا عَشْرَةَ أنفُس، وَأَمَّا النَّصَارَى فَكَثِيرٌ مِنْهُمْ مُهْتَدُونَ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ.(٢) ] فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ الْآيَةَ [الْمَائِدَةِ:٨٢-٨٥] ، وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ](٣) ﴾ الآية.وَقَدْ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمّا قَرَأَ سُورَةَ ﴿كهيعص﴾ بِحَضْرَةِ النَّجَاشِيِّ مَلِكِ الْحَبَشَةِ، وَعِنْدَهُ الْبَطَارِكَةُ وَالْقَسَاوِسَةُ(٤) بَكَى وبَكَوْا مَعَهُ، حَتَّى أخْضَبُوا(٥) لِحَاهُم.وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ النَّجَاشِيَّ لَمَّا مَاتَ نَعَاه النَّبِيُّ(٦) ﷺ إِلَى أَصْحَابِهِ، وَقَالَ: "إِنَّ أَخًا(٧) لَكُمْ بِالْحَبَشَةِ قَدْ مَاتَ فصَلُّوا عَلَيْهِ". فَخَرَجَ [بِهِمْ](٨) إِلَى الصَّحْرَاءِ، فَصفَّهم، وَصَلَّى عَلَيْهِ(٩) .وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا تُوُفي النَّجَاشِيُّ قَالَ رسولُ اللَّهِ ﷺ: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ. فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَسْتَغْفِرَ لِعِلْج مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. فَنَزَلَتْ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ الْآيَةَ.وَرَوَاهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ(١٠) أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنِ الْحَسَنِ(١١) عَنِ النَّبِيِّ ﷺ(١٢) . ثُمَّ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدويه [أَيْضًا](١٣) مِنْ طُرُقٍ عَنْ حُمَيْد، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ(١٤) .وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ(١٥) جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ الهُذَلي، عَنْ قَتَادة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّب، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ [لَنَا](١٦) رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ مَاتَ النَّجَاشِيُّ: "إِنَّ أَخَاكُمْ أصْحَمة قَدْ مَاتَ". فَخَرَجَ رسولُ اللَّهِ ﷺ فصلَّى كَمَا يُصَلِّي عَلَى الْجَنَائِزِ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ مَاتَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ [عَزَّ وَجَلَّ](١٧) ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ](١٨) ﴾(١٩) .وَقَدْ رَوَى الحافظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ أَنْبَأَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّيَّارِيُّ بِمَرْوٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْغَزَّالُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَنْبَأَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَزَلَ بِالنَّجَاشِيِّ عَدُوّ مِنْ أَرْضِهِمْ، فَجَاءَهُ الْمُهَاجِرُونَ فَقَالُوا: نُحِبُّ(٢٠) أَنْ نَخْرُجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى نُقَاتِلَ مَعَكَ، وَتَرَى جُرْأَتَنَا، وَنَجْزِيَكَ بِمَا صَنَعْتَ بِنَا. فقال: لا دواء بِنُصْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ خَيْر مِنْ دَوَاءٍ بِنُصْرَةِ النَّاسِ. قَالَ: وَفِيهِ نَزَلَتْ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ﴾ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ(٢١) .وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرو الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كُنَّا نُحَدِّث أَنَّهُ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى(٢٢) قَبْرِهِ نُورٌ(٢٣) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ يَعْنِي: مُسْلِمَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ.وَقَالَ عَباد بْنُ مَنْصُورٍ: سَأَلْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ] ﴾(٢٤) الْآيَةَ. قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَاتَّبَعُوهُ وَعَرَفُوا الْإِسْلَامَ، فَأَعْطَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْرَ اثْنَيْنِ(٢٥) لِلَّذِي(٢٦) كَانُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ(٢٧) قَبْلَ مُحَمَّدٍ ﷺ وَبِالَّذِي اتَّبَعُوا مُحَمَّدًا ﷺ. رَوَاهُمَا ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "ثَلَاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجرَهم مَرَّتَيْنِ" فَذَكَرَ مِنْهُمْ: "وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِي"(٢٨) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا﴾ أَيْ: لَا يَكْتُمُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعِلْمِ، كَمَا فَعَلَهُ الطَّائِفَةُ الْمَرْذُولَةُ مِنْهُمْ(٢٩) بَلْ يَبْذُلُونَ ذَلِكَ مَجَّانًا؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾قَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يَعْنِي: سَرِيعَ الْإِحْصَاءِ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: أُمِرُوا أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَلَا يَدْعُوهُ لِسَرَّاءَ وَلَا لضرّاءَ وَلَا لشِدَّة وَلَا لرِخَاء، حَتَّى يَمُوتُوا مُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُصَابِرُوا الْأَعْدَاءَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ(٣٠) دِينَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ.وَأَمَّا الْمُرَابَطَةُ فَهِيَ الْمُدَاوَمَةُ فِي مَكَانِ الْعِبَادَةِ وَالثَّبَاتِ. وَقِيلَ: انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصلاة، قاله [مجاهد و](٣١) ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَهْلُ بْنُ حُنَيف، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظي، وَغَيْرُهُمْ.وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الحُرَقَة، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "ألا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسباغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاط، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ"(٣٢) .وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا أَبُو جُحَيْفة(٣٣) عَلِيُّ ابن يَزِيدَ الْكُوفِيُّ، أَنْبَأَنَا ابْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَزِيدَ(٣٤) عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: أَقْبَلَ عليَّ أَبُو هُرَيْرَةَ يَوْمًا فَقَالَ: أَتَدْرِي يَا ابْنَ أَخِي فِيمَ نَزَلَتْ(٣٥) هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: أَمَا إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ ﷺ غَزْوٌ يُرَابِطُونَ فِيهِ، وَلَكِنَّهَا نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ يُعَمِّرُونَ الْمَسَاجِدَ، يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ فِي مَوَاقِيتِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُونَ اللَّهَ فِيهَا، فَعَلَيْهِمْ أُنْزِلَتْ: ﴿اصْبِرُوا﴾ أَيْ: عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ﴿وَصَابِرُوا﴾ [عَلَى](٣٦) أَنْفُسِكُمْ وَهَوَاكُمْ ﴿وَرَابِطُوا﴾ فِي مَسَاجِدِكُمْ ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ فِيمَا عَلَيْكُمْ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(٣٧) .وَهَكَذَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -بِنَحْوِهِ(٣٨) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنِي ابْنُ فُضَيْلٍ(٣٩) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُكَفِّر الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا؟ إسْباغُ الوُضُوء عَلَى الْمَكَارِهِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباط"(٤٠) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْل الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهاجر، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَة، عَنْ شُرَحْبيل، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَا أدُلُّكم عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا ويُكفّر بِهِ الذُّنُوبَ؟ " قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "إِسْبَاغُ الوُضوء فِي أَمَاكِنِهَا، وَكَثْرَةُ الخُطا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّباط"(٤١) .وَقَالَ ابْنُ مَرْدُويه: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، أَنْبَأَنَا محمد بن عبد الله بن(٤٢) السَّلَامِ الْبَيْرُوتِيُّ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غَالِبٍ الْأَنْطَاكِيُّ، أَنْبَأَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنْبَأَنَا الْوَازِعُ بن نافع، عن أبي سلمة بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَقَفَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "هَلْ لَكُمْ(٤٣) إِلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الذُّنُوبَ وَيُعْظِمُ بِهِ الْأَجْرَ؟ " قُلْنَا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُوَ؟ قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ".قَالَ: "وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فَذَلِكَ هُوَ الرِّبَاطُ فِي الْمَسَاجِدِ" وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جِدًّا(٤٤) .وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُصْعَب بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْر، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: قَالَ لِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ تَدْرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ﴿اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا﴾ ؟ قَالَ: قُلْتُ: لَا. قَالَ: إِنَّهُ -يَا ابْنَ أَخِي-لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ ﷺ غَزْو يُرَابَطُ فِيهِ، وَلَكِنَّهُ انْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ سياقُ ابْنِ مَرْدُويه، وَأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُرَابَطَةِ هَاهُنَا مُرَابَطَةُ الْغَزْوِ فِي نُحور الْعَدُوِّ، وَحِفْظُ ثُغور الْإِسْلَامِ وَصِيَانَتُهَا عَنْ دُخُولِ الْأَعْدَاءِ إِلَى حَوْزَة بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ وَرَدَتِ الْأَخْبَارُ بِالتَّرْغِيبِ فِي ذَلِكَ، وذِكْر كَثْرَةِ الثَّوَابِ فِيهِ، فرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ سَهْل بْنِ سَعْد السَّاعِدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(٤٥) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "رباطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا"(٤٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى مُسْلِمٌ، عَنْ سَلمان الفارسي، عن رسوله اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "رباطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأجْرِيَ عَلَيْهِ رزْقُه، وأمِنَ الفَتَّان "(٤٧) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ حَيْوة بْنِ شُرَيح، أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَالِكٍ الجَنْبي(٤٨) أَخْبَرَهُ: أَنَّهُ سَمِعَ فُضالة بْنَ عُبيد يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَى عَمَلِهِ، إِلَّا الَّذِي مَاتَ مُرَابطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَنْمى(٤٩) لَهُ عملُه إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ فِتْنَةَ الْقَبْرِ".وَهَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هَانِئٍ الْخَوْلَانِيِّ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ أَيْضًا(٥٠) .حَدِيثٌ آخَرُ: وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ يَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ وَحَسَنِ بْنِ مُوسَى وَأَبِي(٥١) سعيد [وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ](٥٢) قَالُوا: حَدَّثَنَا(٥٣) ابْنُ لَهِيعة حَدَّثَنَا مَشْرَح بْنُ هَاعَانَ، سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَم لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، إِلَّا الْمُرَابِطَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي عَلَيْهِ(٥٤) عَمَلُهُ حَتَّى يُبْعَثَ وَيَأْمَنَ مِنَ الفَتَّان"(٥٥) .وَرَوَى الْحَارِثُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ الْمَقْبُرِيِّ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، بِهِ إِلَى قَوْلِهِ: "حَتَّى يُبْعَثَ" دُونَ ذِكْرِ "الْفَتَّانِ"(٥٦) . وَابْنُ لَهِيعة إِذَا صَرَّحَ بِالتَّحْدِيثِ فَهُوَ حَسَن، وَلَا سِيَّمَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الشَّوَاهِدِ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْب، أَخْبَرَنِي اللَّيْث، عَنْ زُهرة بْنِ مَعْبَد(٥٧) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيرة، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: "من مَاتَ مُرَابطًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أُجْرِيَ(٥٨) عَلَيْهِ عَمَلُهُ الصَّالِحُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ وأجْري عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ مِنَ الْفَتَّانِ، وَبَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آمِنًا مِنَ الفَزَع"(٥٩) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُوسَى، أَنْبَأَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ مُوسَى بْنِ وَرْدان، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ مَاتَ مُرَابطا وُقِيَ فِتنة الْقَبْرِ، وَأَمِنَ(٦٠) مِنَ الفَزَع الْأَكْبَرِ، وغَدَا عَلَيْهِ وَرِيحَ بِرِزْقِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، وَكُتِبَ لَهُ أَجْرُ الْمُرَابِطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"(٦١) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عيَّاش، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَلْحَلَة الدُّؤَلِيِّ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أُمِّ الدَّرْداء تَرْفَعُ الْحَدِيثَ قَالَتْ(٦٢) مَنْ رَابَطَ فِي شَيْءٍ مِنْ سَوَاحِلِ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَجْزَأَتْ عَنْهُ رِبَاطَ سَنَةٍ"(٦٣) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا كَهْمَس، حَدَّثَنَا مُصْعب بْنُ ثابت بن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ عُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ-: إِنِّي مُحدِّثكم حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَمْنَعُنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ إِلَّا الضِّنُّ بِكُمْ، سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ(٦٤) مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ لَيْلُهَا ويُصَام نَهَارُهَا"(٦٥) .وَهَكَذَا رَوَاهُ أَحْمَدُ أَيْضًا عَنْ رَوْح عَنْ كَهْمَسٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عُثْمَانَ(٦٦) . وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عمَّار، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن أبيه، عن مُصْعب بن ثابت، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: خَطَبَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ النَّاسَ فقال: يأيها النَّاسُ، إِنِّي سَمِعْتُ حَدِيثًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أُحَدِّثَكُمْ بِهِ إِلَّا الضِّنُّ بِكُمْ وَبِصَحَابَتِكُمْ، فَليخْتَرْ مُخْتَار لِنَفْسِهِ أَوْ ليَدَعْ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَنْ رَابطَ لَيْلة فِي سَبِيل اللَّهِ كَانَتْ كألْفِ لَيْلَةٍ صِيامها وقِيامها"(٦٧) .طَرِيقٌ أُخْرَى عَنْ عُثْمَانَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٦٨) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو(٦٩) عَقِيل زهْرَة بْنُ مَعْبد، عَنْ أَبِي صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ -وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ-يَقُولُ: إِنِّي كَتَمْتُكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَرَاهية تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ أحدثكُمُوه، لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رباطُ يَوْمٍ فِي سَبِيل اللَّهِ خَير مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاه مِنَ الْمَنَازِلِ".ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، قَالَ مُحَمَّدٌ -يَعْنِي الْبُخَارِيَّ-: أَبُو صَالِحٍ مَوْلَى عُثْمَانَ اسْمُهُ بُرْكان(٧٠) وَذَكَرَ غَيْرُ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ اسْمَهُ الْحَارِثُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ(٧١) وَهَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعة وَعِنْدَهُ زِيَادَةٌ فِي آخِرِهِ فَقَالَ -يَعْنِي عُثْمَانَ-: فَلْيُرَابِطِ امْرُؤٌ كَيْفَ شَاءَ، هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ(٧٢) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُنْكَدر قَالَ: مَرَّ سَلْمان الْفَارِسِيُّ بشُرَحْبِيل بْنِ السِّمْط، وَهُوَ فِي مُرَابَط لَهُ، وَقَدْ شَق عَلَيْهِ وَعَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَفَلَا(٧٣) أُحَدِّثُكَ -يَا ابْنَ السِّمْطِ-بِحَدِيثٍ سمعتُه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "رِبَاط يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ -أَوْ قَالَ: خَيْرٌ-مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَمَنْ مَاتَ فِيهِ وُقي فِتْنَة الْقَبْرِ، ونَمَا لَهُ عَمَلُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".تَفَرَّدَ بِهِ التِّرْمِذِيُّ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ(٧٤) . وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةٌ: وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ بِمُتَّصِلٍ، وَابْنُ الْمُنْكَدِرِ لَمْ يُدْرِكْ سَلْمَانَ.قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ سَمِعَهُ مِنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمط وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ مَكْحُولٍ وَأَبِي عُبيدة بنُ عُقْبَةَ، كِلَاهُمَا عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ -وَلَهُ صُحْبَةٌ-عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "رِباطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأجرِي عَلَيْهِ رزقُه، وَأَمِنَ الفَتَّان" وَقَدْ تَقَدَّمَ(٧٥) سِيَاقُ مُسْلِمٍ بِمُفْرَدِهِ(٧٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَمُرة، حَدَّثَنَا(٧٧) مُحَمَّدُ بْنُ يَعْلى السُّلَمي، حَدَّثَنَا عُمَر بْنُ صُبَيْح، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرو، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لربَاط يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مِنْ وَرَاءِ عَوْرَة الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسبًا، مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ، أعظمُ أَجْرًا مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ، صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا. ورباطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا، مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْظَمُ أَجْرًا -أَرَاهُ قَالَ-: مِنْ عِبَادَةِ أَلْفِ سَنَةٍ صِيَامِهَا، وَقِيَامِهَا فَإِنْ رَدَّهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى أَهْلِهِ سَالِمًا، لَمْ تُكْتَبْ(٧٨) عَلَيْهِ سَيِّئَةُ أَلْفِ سَنَةٍ، وَتُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ، ويُجْرَى لَهُ أَجْرُ الرِّبَاطِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، بَلْ مُنْكَرٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وعُمَر بْنُ صُبَيْح مُتَّهم(٧٩) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدثنا عِيسَى بْنُ يُونُسَ الرمْلي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شُعيب بْنِ شَابُورَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أَبِي طَوِيلٍ، سمعتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ رَجُل وَقِيَامِهِ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ: السَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ(٨٠) يَوْمًا، وَالْيَوْمُ(٨١) كَأَلْفِ سَنَةٍ".وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ أَيْضًا(٨٢) وَسَعِيدُ بْنُ خَالِدٍ هَذَا ضَعَّفَه أَبُو زُرْعَة وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَقَالَ الْعُقَيْلِيُّ: لَا يُتَابَعُ عَلَى حَدِيثِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ. وَقَالَ الْحَاكِمُ: رَوَى عَنْ أَنَسٍ أَحَادِيثَ مَوْضُوعَةً.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاح، أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّد بْنِ زائدَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "رَحِمَ اللَّهُ حَارِسَ الْحَرَسِ"(٨٣) .فِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ -يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ عَنْ زَيْدٍ-يَعْنِي ابْنَ سَلَّامٍ-أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي السَّلُولِيُّ: أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ ابْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ(٨٤) أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ حُنين، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَتْ عَشِيّة، فَحَضَرْتُ الصَّلَاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذَا أَنَا بهُوازن عَلَى بَكْرَة أَبِيهِمْ بظُعنهم ونَعَمِهم وشَائِهم(٨٥) اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَالَ: "تِلْكَ غَنِيمَة الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ [تَعَالَى(٨٦) ] ". ثُمَّ قَالَ: "مَنْ يَحْرُسُنَا اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ أَنَسُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ(٨٧) فَارْكَبْ" فَرَكِبَ فَرَسًا لَهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، فقال له رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "اسْتَقْبِل هَذَا الشِّعْب حَتَّى تَكُونَ فِي أَعْلَاهُ وَلَا يَغَرَّن(٨٨) مِنْ قِبَلِك اللَّيْلَةَ" فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خرَج رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى مُصَلاه فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: "هَلْ أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ " قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَحْسَسْنَاهُ، فثُوِّب بِالصَّلَاةِ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ، وَهُوَ يُصَلِّي يَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلَاتَهُ قَالَ: "أبْشِرُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ فَارِسُكُمْ" فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلال الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: إِنِّي انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ رَسُولُ اللَّهِ(٨٩) ﷺ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ كِلَيْهِمَا، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "هل نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ " قَالَ: لَا إِلَّا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيًا حَاجَةً، فَقَالَ لَهُ: "أوْجَبْتَ، فَلَا عَلَيْكَ أَلَّا تَعْمَلَ بَعْدَهَا".وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ الْحَرَّانِيِّ، عَنْ أَبِي تَوْبَةَ وَهُوَ الرَّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ بِهِ(٩٠) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَاب: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيح، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ شُمَير(٩١) الرُّعَيْني يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَامِرٍ التَّجِيبي. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: وَقَالَ غَيْرُ زَيْدٍ: أَبَا عَلِيٍّ الجَنْبِي(٩٢) يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا رَيْحَانَةَ يَقُولُ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي غَزْوَةٍ، فَأَتَيْنَا ذَاتَ لَيْلَةٍ إِلَى شَرَف فَبتْنَا عَلَيْهِ، فَأَصَابَنَا بَرْدٌ شَدِيدٌ، حَتَّى رأيتُ مَنْ يَحْفِرُ فِي الْأَرْضِ حُفْرَةً، يَدْخُلُ فِيهَا وَيُلْقِي عَلَيْهِ الجَحْفَة -يَعني التِّرس-فَلِمَا رَأَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن النَّاسِ نَادَى: "مَنْ يَحْرُسُنا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ فَأَدْعُوَ لَهُ بِدُعَاءٍ يَكُونُ لَهُ فِيهِ فَضْلٌ؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: "ادْنُ" فَدَنَا، فَقَالَ: "مَنْ أَنْتَ؟ " فَتَسَمَّى لَهُ الْأَنْصَارِيُّ، فَفَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالدُّعَاءِ، فَأَكْثَرَ مِنْهُ. فَقَالَ(٩٣) أَبُو رَيْحَانَةَ: فَلَمَّا سَمِعْتُ مَا دَعَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُلْتُ(٩٤) أَنَا رَجُلٌ آخَرُ. فَقَالَ: "ادْنُ". فَدَنَوْتُ. فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَبُو رَيْحَانَةَ. فَدَعَا بِدُعَاءٍ هُوَ دُونَ مَا دَعَا لِلْأَنْصَارِيِّ، ثُمَّ قَالَ: "حُرِّمَت النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمِعَت -أَوْ بَكَتْ-مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَحُرِّمَتِ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيل اللَّهِ".وَرَوَى النَّسَائِيُّ مِنْهُ: "حُرِّمَتِ النَّارُ ... " إِلَى آخِرِهِ عَنْ عِصْمَة بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ الْحُبَابِ بِهِ، وَعَنِ الْحَارِثِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنِ ابْنِ وَهْب، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شُرَيح، بِهِ، وَأَتَمَّ، وَقَالَ فِي الرِّوَايَتَيْنِ: عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجَنْبِيِّ(٩٥)(٩٦) .حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الجَهْضَمِيّ، حَدَّثَنَا بِشْر بْنُ عُمَر، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ رزَيق أَبُو شَيْبة، حَدَّثَنَا عطَاء الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "عَيْنان لَا تَمَسُّهما النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ باتت تَحْرُسُ في سبيل الله".ثُمَّ قَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ شُعَيب بْنِ رُزَيق(٩٧) قَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ عُثْمَانَ وَأَبِي رَيْحَانَةَ(٩٨) قُلْتُ: وَقَدْ تَقَدَّمَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلان، حَدَّثَنَا رِشْدين، عن زَبّان(٩٩) عن سهل بن معاذ عَنْ أَبِيهِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: " مَنْ حَرَس مِنْ وَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُتَطَوِّعًا لَا بِأُجْرَةِ سُلْطَانٍ، لَمْ يَرَ النَّارَ بِعَيْنَيْهِ إِلَّا تَحِلَّة القَسَم، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا﴾ [مَرْيَمَ:٧١] .تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ(١٠٠) رَحِمَهُ اللَّهُ [تَعَالَى](١٠١) .حَدِيثٌ آخَرُ: رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَم وَعَبْدُ الخَميصة، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِط، تَعس وانتكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَش(١٠٢) طُوبَى لعَبدٍ آخذٍ بِعِنَانِ فَرَسه فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أشعثَ رأسُهُ، مُغَبَّرةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ كَانَ فِي الْحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقة كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَع لَمْ يُشفَّعْ"(١٠٣) .فَهَذَا مَا تَيَسَّر إِيرَادُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ، وَلِلَّهِ الحمدُ عَلَى جَزِيلِ الْإِنْعَامِ، عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ وَالْأَيَّامِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي المُثَنَّى، حَدَّثَنَا مُطَرِّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ(١٠٤) حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنزلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنزلة شِدَّةٍ يَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَهَا فَرَجَا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْر يُسْرَيْنِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(١٠٥) .وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ(١٠٦) مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي سُكَيْنَةَ قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ هذه الأبيات بطرسوس، وودعته للخروج، وأنشدها مَعِي إِلَى الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ فِي سَنَةِ سَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي رِوَايَةٍ: سَنَةَ سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ: يَا عابدَ الْحَرَمَيْنِ لَوْ أبْصَرْتَنا ... لَعَلمْتَ أنكَ فِي العبادِة تلعبُ ...مَنْ كَانَ يَخْضِبُ خدَّه بدموعِه ... فَنُحورنا بِدِمَائِنَا تَتَخضَّب ...أَوْ كَانَ يُتْعِبُ خَيْلَه فِي باطلٍ ... فخُيولنا يومَ الصبِيحة تَتْعبُ ...ريحُ العبيرِ لَكُمْ ونحنُ عبيرُنا ... وَهجُ السنابِك والغبارُ الأطيبُ ...ولَقَد أَتَانَا مِنْ مَقَالِ نَبِيِّنَا ... قَوْلٌ صَحيح صَادِقٌ لَا يَكْذبُ ...لَا يَسْتَوِي وَغُبَارَ خَيْلِ اللَّهِ فِي ... أَنْفِ امْرِئٍ ودخانَ نَارٍ تَلْهَبُ ...هَذَا كِتَابُ اللَّهِ يَنْطق بَيْنَنَا ... لَيْسَ الشهيدُ بمَيِّت لَا يَكْذبُ ...قَالَ: فَلَقِيتُ الفُضيل بْنَ عِيَاضٍ بِكِتَابِهِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَلَمَّا قَرَأَهُ ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ وَقَالَ: صَدَق أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَصَحَنِي، ثُمَّ قَالَ: أَنْتَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْحَدِيثَ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ قَالَ: فَاكْتُبْ هَذَا الْحَدِيثَ كرَاءَ حَمْلِكَ كِتَابَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَيْنَا. وَأَمْلَى عَلَيّ الفُضيل بْنُ عِيَاضٍ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلمني عَمَلًا أَنَالُ بِهِ ثَوَابَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: " هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُصَلِّي فَلَا تَفْتُر وتصومَ فَلَا تُفْطِر؟ " فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا أضْعَفُ مِنْ أَنْ أَسْتَطِيعَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: " فَوالَّذي نَفْسِي بِيَدِه لَوْ طُوقْتَ ذَلِكَ مَا بلغتَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوَمَا عَلمتَ أَنَّ الْفَرَسَ الْمُجَاهِدَ ليَسْتَنُّ فِي طِوَله فَيُكْتَبُ لَهُ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتُ"(١٠٧) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أَيْ: فِي جَمِيعِ أُمُورِكُمْ وَأَحْوَالِكُمْ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمُعَاذِ [بْنِ جَبَلٍ](١٠٨) [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١٠٩) حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: " اتَّق اللَّهَ حَيْثُما كُنْتَ وأتْبع السيئَة الْحَسَنَةَ تَمْحُها وَخَالِقِ النَّاسَ بخُلق حَسَنٍ ".﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَنْبَأَنَا أَبُو(١١٠) صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظي: أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وَاتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غَدًا إِذَا لَقِيتُمُونِي.آخَرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ، نَسْأَلُهُ الْمَوْتَ على الكتاب والسنة.

(١) في جـ أ: "تتلى".
(٢) زيادة من جـ، ر، و. وفي هـ: "إلى قوله تعالى".
(٣) زيادة من جـ، ر، أ.
(٤) في جـ، ر: "القساقسة".
(٥) في جـ، ر: "أخضلوا".
(٦) في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
(٧) في جـ: "أخاكم".
(٨) زيادة من جـ، أ، و.
(٩) صحيح البخاري برقم (١٣٢٠) وصحيح مسلم برقم (٩٥٢) من حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(١٠) في ر: "عن".
(١١) في جـ، ر: "أنس".
(١٢) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٢٦٨٨) من طريق مُؤَمَّلِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهِ. ثُمَّ قَالَ: "لم يروه عن حماد إلا مؤمل".
(١٣) زيادة من أ، و.
(١٤) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٣٩٢٨) "مجمع البحرين" مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ حميد عن أنس به. قال الهيثمي في المجمع (٣/٣٨) : "رجاله ثقات". ورواه الواحدي في الوسيط (١/٥٣٦) من طريق معتمر بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ بِهِ.
(١٥) في ر: "وابن".
(١٦) زيادة من جـ، ر.
(١٧) زيادة من جـ، أ.
(١٨) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(١٩) تفسير الطبري (٧/٤٩٦) .
(٢٠) في جـ، ر: "إنا نحب".
(٢١) المستدرك (٢/٣٠٠) وأقره الذهبي.
(٢٢) في جـ، أ: "في".
(٢٣) سنن أبي داود بررقم (٢٥٢٣) .
(٢٤) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(٢٥) في جـ، ر: "إحدى اثنتين".
(٢٦) في أ: "للذين".
(٢٧) في جـ، ر، أ، و: "الإسلام".
(٢٨) صحيح البخاري برقم (٩٧) وصحيح مسلم برقم (١٥٤) .
(٢٩) في أ: "بينهم".
(٣٠) في ر، أ، و، "يملون".
(٣١) زيادة من و.
(٣٢) رواه مالك في الموطأ في قصر الصلاة برقم (٥٥) ومن طريقه مسلم في صحيحه برقم (٢٥١) والنسائي في السنن الكبرى برقم (١٣٩) .
(٣٣) في جـ: "حجية"، وفي أ: "جحيفة".
(٣٤) في أ: "سويد".
(٣٥) في جـ، ر، أ، و: "أنزلت".
(٣٦) زيادة من أ.
(٣٧) ذكره السيوطي في الدر (٢/٤١٧) وعزاه لابن مردويه.
(٣٨) المستدرك (٢/٣٠١) وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي. ورواه الطبري في تفسيره (٧/٥٠٤) من طريق ابن الْمُبَارَكِ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ دَاوُدَ من كلام أبي سلمة كما سيأتي.
(٣٩) في ر: "فضل".
(٤٠) تفسير الطبري (٧/٥٠٥) وفي إسناده المقبري: عبد الله بن سعيد، ضعيف ورمى بالكذب.
(٤١) تفسير الطبري (٧/٥٠٥، ٥٠٦) ورواه البزار (١/٢٢٣) "كشف الأستار" وقال: "لا نعلم يروى هذا عن جابر بغير هذا الإسناد" ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (١٦١) "موارد" كلاهما من طريق محمد بن سلمة عن خالد بن يزيد عن محمد بن سلمة به.
(٤٢) في جـ، ر، أ، و: "عبد الله بن عبد السلام".
(٤٣) في جـ، أ: "هل أدلكم".
(٤٤) وفي إسناده الوازع بن نافع، قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: منكر الحديث وتركه النسائي. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ. ميزان الاعتدال (٤/٣٢٧) .
(٤٥) في أ، و: "عنهما".
(٤٦) صحيح البخاري برقم (٢٨٩٢) .
(٤٧) صحيح مسلم برقم (١٩١٣) .
(٤٨) في أ: "الختني".
(٤٩) في جـ، ر: "ينمو".
(٥٠) المسند (٦/٢٠) وسنن أبي داود برقم (٢٥٠٠) وسنن الترمذي برقم (١٦٢١) وصحيح ابن حبان (٧/٦٩) "الإحسان".
(٥١) في جـ، أ: "أبو".
(٥٢) زيادة من جـ، ر، أ، و.
(٥٣) في جـ، ر، أ، و: "كلهم عن عبد الله بن لهيعة".
(٥٤) في أ: "له".
(٥٥) المسند (٣/١٥٧) وقال الهيثمي في المجمع (٥/٢٨٩) : "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن".
(٥٦) مسند الحارث برقم (٦٢٧) "بغية الباحث" ورواية عبد الله بن يزيد عن ابن لهيعة صحيحة، فهو ممن روى عنه قبل الاختلاط.
(٥٧) في ر: "وابن سعيد".
(٥٨) في أ، و: "أجر".
(٥٩) سنن ابن ماجة برقم (٢٧٦٧) وقال البوصيري في الزوائد (٢/٣٩١) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(٦٠) في ر: "وأومن".
(٦١) المسند (٢/٤٠٤) .
(٦٢) في ر، أ، و: "قال".
(٦٣) المسند (٦/٣٦٢) وقال الهيثمي في المجمع (٥/٢٨٩) : "رواه أحمد والطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن طريق المدنيين وبقية رجاله ثقات".
(٦٤) في أ: "خير".
(٦٥) المسند (١/٦٤) .
(٦٦) المسند (١/٦١) .
(٦٧) سنن ابن ماجة برقم (٢٧٦٦) وقال البوصيري في الزوائد (٢/٣٩٠) : "إسناده ضعيف".
(٦٨) زيادة من و.
(٦٩) في جـ: "أبي".
(٧٠) في جـ، أ: "تركان".
(٧١) سنن الترمذي برقم (١٦٦٧) ورواه النسائي في السنن (٦/٣٩) .
(٧٢) المسند (١/٦٢) .
(٧٣) في جـ: "ألا".
(٧٤) سنن الترمذي برقم (١٦٦٥) .
(٧٥) في جـ: "قدم".
(٧٦) صحيح مسلم برقم (١٩١٣) وسنن النسائي (٣٩١٦) .
(٧٧) في جـ: "قال: حدثنا".
(٧٨) في جـ: "يكتب".
(٧٩) سنن ابن ماجة برقم (٢٧٦٨) .
(٨٠) في جـ، ر، أ: "وستين".
(٨١) في جـ، ر: "يوم اليوم".
(٨٢) سنن ابن ماجة برقم (٢٧٧٠) .
(٨٣) سنن ابن ماجة برقم (٢٧٦٩) وقال البوصيري في الزوائد (٢/٣٩٤) : "هذا إسناد ضعيف. صالح بن محمد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وأبو داود والنسائي وابن عدي وغيرهم".
(٨٤) في ر: "الحنطلية".
(٨٥) في ر، أ: "وشياههم".
(٨٦) زيادة من جـ، أ.
(٨٧) في جـ، أ، و: "قال".
(٨٨) في جـ، أ، و: "تغرن".
(٨٩) في جـ، ر، أ: "حيث أمرني رسول الله".
(٩٠) سنن أبي داود برقم (٢٥٠١) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٨٨٧٠) .
(٩١) في جـ، ر: "سمير".
(٩٢) في جـ، ر، و: "الحنفي".
(٩٣) في جـ، ر، أ، و: "قال".
(٩٤) في جـ، ر: "فقلت".
(٩٥) في أ، و: "التجيبي".
(٩٦) المسند (٤/١٣٤) وسنن النسائي (٥/١٥) .
(٩٧) في أ: "زريق".
(٩٨) سنن الترمذي برقم (١٦٣٩) .
(٩٩) في ر: "رثان".
(١٠٠) المسند (٣/٤٣٧) .
(١٠١) زيادة من ر.
(١٠٢) في ر: "انتفش".
(١٠٣) صحيح البخاري برقم (٢٨٨٦) .
(١٠٤) في ر: "المديني".
(١٠٥) تفسير الطبري (٧/٥٠٣) ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٣٠٠) من طريق زيد بن أسلم به وقال: صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(١٠٦) انظر: مخنصر تاريخ دمشق لابن منظور (١٤/٢٢) .
(١٠٧) رواه أحمد في المسند (٥/٢٣٦) .
(١٠٨) زيادة من أ.
(١٠٩) زيادة من و.
(١١٠) في أ: "ابن".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))