الجمعة، 30 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧٦
من سورة النساء 
﴿یَسۡتَفۡتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ یُفۡتِیكُمۡ فِی ٱلۡكَلَـٰلَةِۚ إِنِ ٱمۡرُؤٌا۟ هَلَكَ لَیۡسَ لَهُۥ وَلَدࣱ وَلَهُۥۤ أُخۡتࣱ فَلَهَا نِصۡفُ مَا تَرَكَۚ وَهُوَ یَرِثُهَاۤ إِن لَّمۡ یَكُن لَّهَا وَلَدࣱۚ فَإِن كَانَتَا ٱثۡنَتَیۡنِ فَلَهُمَا ٱلثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَۚ وَإِن كَانُوۤا۟ إِخۡوَةࣰ رِّجَالࣰا وَنِسَاۤءࣰ فَلِلذَّكَرِ مِثۡلُ حَظِّ ٱلۡأُنثَیَیۡنِۗ یُبَیِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ أَن تَضِلُّوا۟ۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَیۡءٍ عَلِیمُۢ﴾ [النساء ١٧٦]

قَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ: آخِرُ سُورَةٍ نَزَلَتْ: "بَرَاءَةٌ"، وَآخِرُ آيَةٍ نَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾(١) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَا مَرِيضٌ لَا أَعْقِل، قَالَ: فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيّ -أَوْ قَالَ صُبُّوا عَلَيْهِ -فَعَقَلْتُ فَقُلت: إِنَّهُ لَا يَرِثُنِي إِلَّا كَلَالَةٌ، فَكَيْفَ الْمِيرَاثُ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ.أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ(٢) ، وَرَوَاهُ الْجَمَاعَةُ مِنْ طَرِيقِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنة، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدر، عَنْ جَابِرٍ، بِهِ(٣) . وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: فَنَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ الْآيَةَ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ -يَعْنِي جَابِرًا -: نَزَلَتْ فِيَّ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ .وَكَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ : عَنِ الْكَلَالَةِ قُلْ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهَا، فَدَلَّ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمَتْرُوكِ.وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْكَلَالَةِ وَاشْتِقَاقِهَا، وَأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنَ الْإِكْلِيلِ الَّذِي يُحِيطُ بِالرَّأْسِ مِنْ جَوَانِبِهِ؛ وَلِهَذَا فَسَّرَهَا أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: بِمَنْ يَمُوتُ وَلَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ: الْكَلَالَةُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ [أَيْ مَاتَ](٤) ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ .وَقَدْ أُشْكِل حُكْم الْكَلَالَةِ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم كان عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِنَّ عَهْدًا نَنْتَهِي إِلَيْهِ: الْجَدُّ، وَالْكَلَالَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادة، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ مَعْدان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَا سألتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، حَتَّى طَعَنَ بأُصْبُعِه فِي صَدْرِي وَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ".هَكَذَا رَوَاهُ مُخْتَصَرًا وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مُطَوَّلًا أَكْثَرَ مِنْ هذا(٥) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ [الْإِمَامُ](٦) أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، حَدَّثَنَا مالك -يعني ابن مِغْل-سَمِعْتُ الْفَضْلَ بْنَ عَمْرٍو، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ ". فَقَالَ: لَأَنْ أَكُونَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَنْهَا أحبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يكونَ لِي حُمْر النَّعم. وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ إِلَّا أَنَّ فِيهِ انْقِطَاعًا بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ عُمَر، فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ(٧) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ البَراءِ بْنِ عازبٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: " يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عيَّاش، بِهِ(٨) . وَكَأَنَّ الْمُرَادَ بِآيَةِ الصَّيْفِ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَصْلِ الصَّيْفِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.وَلَمَّا أَرْشَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى تَفَهُّمِهَا -فَإِنَّ فِيهَا كِفَايَةً-نَسِيَ أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ مَعْنَاهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ: فَلَأَنْ أَكُونُ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْهَا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي حُمْر النَّعَم.وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ(٩) الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرة، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَقَالَ: " أَلَيْسَ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ؟ " فَنَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ](١٠) ﴾ الْآيَةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكر(١١) لَنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١٢) قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ الْآيَةَ الَّتِي أُنْزِلَتْ(١٣) فِي أَوَّلِ "سُورَةِ النِّسَاءِ" فِي شَأْنِ الْفَرَائِضِ، أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ. وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ أَنْزَلَهَا فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْإِخْوَةِ مِنَ الْأُمِّ. وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا "سُورَةَ النِّسَاءِ" أَنْزَلَهَا فِي الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، وَالْآيَةُ الَّتِي خَتَمَ بِهَا "سُورَةَ الْأَنْفَالِ" أَنْزَلَهَا فِي أُولِي الْأَرْحَامِ، بَعْضِهِمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مِمَّا جَرّت الرَّحِمُ مِنَ العَصَبة. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ(١٤) .ذِكْرُ الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَاهَا وَبِاللَّهِ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ:قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ﴾ أَيْ: مَاتَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ﴾ [الْقَصَصِ: ٨٨] كُلُّ شَيْءٍ يَفْنَى وَلَا يَبْقَى إِلَّا(١٥) اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا قَالَ: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾ [الرحمن: ٢٦، ٢٧] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ﴾ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَالِدِ(١٦) ، بَلْ يَكْفِي فِي وُجُودِ الْكَلَالَةِ انْتِفَاءُ الْوَلَدِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَوَاهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ. وَلَكِنَّ الَّذِي رَجَعَ(١٧) إِلَيْهِ هُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَقَضَاءُ الصِّدِّيقِ: أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ له ولا وَالِدَ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ وَلَوْ كَانَ مَعَهَا أَبٌ لَمْ تَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَحْجُبُهَا بِالْإِجْمَاعِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَلَا وَالِدَ بِالنَّصِّ عِنْدَ التَّأَمُّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْأُخْتَ لَا يُفْرَضُ لَهَا النِّصْفُ مَعَ الْوَالِدِ، بَلْ لَيْسَ لَهَا مِيرَاثٌ بِالْكُلِّيَّةِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَكْحُول وَعَطِيَّةَ وَحَمْزَةَ وَرَاشِدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ سئلَ عَنْ زَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَأَعْطَى الزوجَ النصفَ وَالْأُخْتَ النصفَ. فكُلِّم فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: حضرتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِذَلِكَ.تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ(١٨) ، وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ جَرِيرٍ(١٩) وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَيِّتِ تَرَكَ بِنْتًا وَأُخْتًا: إِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِقَوْلِهِ: ﴿إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ﴾ قَالَ: فَإِذَا تَرَكَ بِنْتًا فَقَدْ تَرَكَ وَلَدًا(٢٠) ، فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ، وَخَالَفَهُمَا الْجُمْهُورُ، فَقَالُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ بِالْفَرْضِ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ الْآخَرُ بِالتَّعْصِيبِ، بِدَلِيلٍ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَهَذِهِ نَصب(٢١) أَنْ يُفْرَضَ لَهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَأَمَّا وِرَاثَتُهَا بِالتَّعْصِيبِ؛ فَلِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ سُلَيْمَانَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، قَالَ: قَضَى فِينَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: النِّصْفُ لِلِابْنَةِ، وَالنِّصْفُ لِلْأُخْتِ. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ: قَضَى فِينَا وَلَمْ يَذْكُرْ: عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ(٢٢) ﷺ(٢٣) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنْ هُزيل بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: سُئِلَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ عَنِ ابْنَةٍ وَابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ، فَقَالَ: لِلِابْنَةِ(٢٤) النِّصْفُ، وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ، وَأْتِ ابْنَ مَسْعُودٍ فَسَيُتَابِعُنِي. فَسُئِلَ ابنُ مَسْعُودٍ -وَأُخْبِرَ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى-فَقَالَ: لَقَدْ ضَلَلْتُ إذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ، أَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ ﷺ لِلِابْنَةِ النِّصْفَ، وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسَ، تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ، وَمَا بَقِيَ فَلِلْأُخْتِ، فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ(٢٥) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ﴾ أَيْ: وَالْأَخُ يَرِثُ جَمِيعَ مَا لَهَا إِذَا مَاتَتْ كَلَالَةً، وَلَيْسَ لَهَا وَلَدٌ، أَيْ: وَلَا وَالِدَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهَا وَالِدٌ لَمْ يَرِثِ الْأَخُ شَيْئًا، فَإِنْ فُرِضَ أَنَّ مَعَهُ مَنْ لَهُ فَرْضٌ، صُرِفَ إِلَيْهِ فَرْضُهُ؛ كَزَوْجٍ، أَوْ أَخٍ مِنْ أُمٍّ، وَصُرِفَ الْبَاقِي إِلَى الْأَخِ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأوْلَى رجلٍ ذَكَر"(٢٦) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ﴾ أَيْ: فَإِنْ كَانَ لِمَنْ يَمُوتُ كَلَالَةً، أُخْتَانِ، فُرِضَ لَهُمَا الثُّلُثَانِ، وَكَذَا مَا زَادَ عَلَى الْأُخْتَيْنِ فِي حُكْمِهِمَا، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ الْجَمَاعَةُ حُكْمَ الْبِنْتَيْنِ كَمَا اسْتُفِيدَ حُكْمُ الْأَخَوَاتِ مِنَ الْبَنَاتِ، فِي قَوْلِهِ: ﴿فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ﴾ .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ﴾ . هَذَا حُكْمُ الْعَصَبَاتِ مِنَ الْبَنِينَ وَبَنِي الْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ إِذَا اجْتَمَعَ ذُكُورُهُمْ وَإِنَاثُهُمْ، أُعْطِيَ الذَّكَرُ مثل حظ الأنثيين.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ﴾ أَيْ: يَفْرِضُ لَكُمْ فَرَائِضَهُ، وَيَحُدُّ لَكُمْ حُدُودَهُ، وَيُوَضِّحُ لَكُمْ شَرَائِعَهُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَنْ تَضِلُّوا﴾ أَيْ: لِئَلَّا تَضِلُّوا عَنِ الْحَقِّ بَعْدَ الْبَيَانِ. ﴿وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَصَالِحِهَا وَمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ لِعِبَادِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَرَابَاتِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنَ الْمُتَوَفَّى.وقد قال أبو جعفر ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنِي ابْنُ عُلَيَّة، أَنْبَأَنَا ابْنُ عَوْن، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كَانُوا فِي مَسِيرٍ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ رِدْف رَاحِلَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَرَأْسُ رَاحِلَةِ عُمَرَ عِنْدَ رِدْفِ رَاحِلَةِ حُذَيْفَةَ. قَالَ: وَنَزَلَتْ: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾ فلقَّاها رسولُ اللَّهِ ﷺ حُذَيْفَةَ، فَلَقَّاهَا حُذَيْفَةُ عُمَر، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ سَأَلَ عُمَرُ عَنْهَا حُذَيْفَةَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَأَحْمَقُ إِنْ كُنْتَ ظَنَنْتَ أَنَّهُ لقَّانيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَقَّيْتُكَهَا كَمَا لَقَّانِيهَا(٢٧) ، وَاللَّهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَيْهَا شَيْئًا أَبَدًا. قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٢٨) يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ(٢٩) كُنْتَ بَيَّنْتَهَا لَهُ فَإِنَّهَا لَمْ تُبَين لِي.كَذَا(٣٠) رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ بْنِ يَحْيَى(٣١) ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ كَذَلِكَ بِنَحْوِهِ. وَهُوَ مُنْقَطِعٌ بَيْنَ ابْنِ سِيرِينَ وَحُذَيْفَةَ(٣٢) ، وَقَدْ قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو البزَّار في مسنده: حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ المَعْنيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حسَّان، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ حُذَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ: "نَزَلَتِ الْكَلَالَةُ عَلَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَوَقَفَ النَّبِيُّ ﷺ وَإِذَا هُوَ بِحُذَيْفَةَ، وَإِذَا رَأَسُ نَاقَةِ حُذَيْفَةَ عِنْدَ مُؤتَزَر النَّبِيِّ ﷺ، فلقَّاها إِيَّاهُ، فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَقَّاهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ نَظَرَ عُمَرُ فِي الْكَلَالَةِ، فَدَعَا حُذَيْفَةَ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَقَدْ لقَّانيها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَلَقَّيتُك كَمَا لَقَّانِي، وَاللَّهِ(٣٣) إِنِّي لَصَادِقٌ، وَوَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئًا أَبَدًا.ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَاهُ إِلَّا حُذَيْفَةَ، وَلَا نَعْلَمُ لَهُ طَرِيقًا عَنْ حُذَيْفَةَ إِلَّا هَذَا الطَّرِيقَ، وَلَا رَوَاهُ عَنْ هِشَامٍ إِلَّا عَبْدُ الْأَعْلَى. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَردُوَيه مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْأَعْلَى(٣٤) .وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَة: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الشَّيباني، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّة، عَنْ سَعِيدٍ -[هُوَ](٣٥) ابْنُ المسيَّب-أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَيْفَ يُوَرّث الْكَلَالَةَ؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ](٣٦) ﴾ الْآيَةَ(٣٧) ، قَالَ: فَكَأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَفْهَمْ. فَقَالَ لِحَفْصَةَ: إِذَا رَأَيْتِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ طِيبَ نَفْس فَسَلِيهِ عَنْهَا، فَرَأَتْ مِنْهُ طِيبَ نَفْسٍ فَسَأَلَتْهُ عَنْهَا(٣٨) ، فقال: "أبوك ذكر لك هذا؟ ما أَرَى أَبَاكِ يَعْلَمُهَا". قَالَ: وَكَانَ(٣٩) عُمَرُ يَقُولُ: مَا أَرَانِي أَعْلَمُهَا، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَا قَالَ.رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه(٤٠) ، ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ طَاوُسٍ: أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ حَفْصَة أَنْ تَسْأَلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الْكَلَالَةِ، فَأَمْلَاهَا عَلَيْهَا فِي كَتَفٍ، فَقَالَ: "مَنْ أَمَرَكِ بِهَذَا؟ أَعُمَرُ؟ مَا أَرَاهُ يُقِيمُهَا، أَوَمَا تَكْفِيهِ(٤١) آيَةُ الصَّيْفِ؟ " قَالَ سُفْيَانُ: وَآيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ﴾ ، فَلَمَّا سَأَلُوا رسولَ اللَّهِ ﷺ نَزَلَتِ الْآيَةُ الَّتِي هِيَ خَاتِمَةُ النِّسَاءِ، فَأَلْقَى عُمَرُ الْكَتِفَ. كَذَا قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَهُوَ مُرْسَلٌ(٤٢) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرِيْبٍ، حَدَّثَنَا عَثَّام، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِم، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: "أَخَذَ عُمَرُ كَتفًا وَجَمَعَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺ، ثُمَّ قَالَ: لأقضينَّ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً تُحَدِّثُ بِهِ النِّسَاءُ فِي خُدُورِهِنَّ. فَخَرَجَتْ حِينَئِذٍ حَيّة مِنَ الْبَيْتِ، فَتَفَرَّقُوا، فَقَالَ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ لَأَتَمَّهُ. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ(٤٣) .وَقَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُقْبَةَ الشَّيْبَاني بِالْكُوفَةِ، حَدَّثَنَا الهيثمُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْم، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، سَمِعْتُ محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانَة يُحَدِّثُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: لَأَنْ أكون سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ ثَلَاثٍ أحبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْر النَّعَم: مَن الْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ؟ وَعَنْ قَوْمٍ قَالُوا: نُقرُّ فِي الزَّكَاةِ مِنْ أَمْوَالِنَا وَلَا نُؤَدِّيهَا إِلَيْكَ، أَيَحِلُّ قِتَالُهُمْ؟ وَعَنِ الْكَلَالَةِ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٤٤) . ثُمَّ رُوِيَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ مُرة، عَنْ عُمَرَ قَالَ: ثَلَاثٌ لَأَنَّ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَهُنّ لَنَا أحبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا: الْخِلَافَةُ، وَالْكَلَالَةُ، وَالرِّبَا. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٤٥) .وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: سمعتُ سُلَيْمَانَ الأحولَ يُحَدِّثُ، عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كنتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: القولُ مَا قلتُ: قلتُ: وَمَا قلتَ؟ قَالَ: قلتُ: الْكَلَالَةُ، مَنْ لَا وَلَدَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا وَلَمْ يُخْرِجَاهُ.وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُوَيه مِنْ طَرِيقِ زَمْعة بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ وَسُلَيْمَانَ الْأَحْوَلِ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كنتُ آخِرَ النَّاسِ عَهْدًا بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: اخْتَلَفْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْكَلَالَةِ، والقولُ مَا قلتُ. قَالَ: وَذُكِرَ أَنَّ عُمَرَ شَرَكَ بَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَلِلْأُمِّ(٤٦) ، وَبَيْنَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فِي الثُّلُثِ إِذَا اجْتَمَعُوا، وَخَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما(٤٧) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْد الْمَعْمَرِي(٤٨) ، عَنْ مَعْمَر عَنِ الزُّهْرِي، عَنْ سَعِيدِ بْنِ المسيَّب: أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ فِي الجَدِّ والكلالةِ كِتَابًا، فَمَكَثَ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهِ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ عَلِمْتَ فِيهِ خَيْرًا فَأَمْضِهِ، حَتَّى إِذَا طَعِن دَعَا بِكِتَابٍ فَمُحِيَ، وَلَمْ يدرِ أحدٌ مَا كَتَبَ فِيهِ. فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ كَتَبْتُ فِي الجَدِّ وَالْكَلَالَةِ كِتَابًا، وَكُنْتُ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ فِيهِ، فَرَأَيْتُ أَنْ أَتْرُكَكُمْ عَلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ(٤٩) .قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَدْ رُوِي عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي أَنْ أُخَالِفَ فِيهِ أَبَا بَكْرٍ. وَكَأَنَّ أَبُو بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: هُوَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ(٥٠) .وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الصِّدِّيقُ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ، فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ وَحَدِيثِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ. وَقَوْلُ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ قَاطِبَةً، وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، كَمَا أَرْشَدَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَوَضَّحَهُ(٥١) فِي قَوْلِهِ(٥٢) : ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .

(١) صحيح البخاري برقم (٢٦٠٥) .
(٢) المسند (٣/٢٩٨) وصحيح البخاري برقم (٦٧٤٣) وصحيح مسلم برقم (١٦١٦) .
(٣) صحيح البخاري برقم (٦٧٢٣) وصحيح مسلم برقم (١٦١٦) وسنن أبي داود برقم (٢٨٨٦) وسنن الترمذي برقم (٢٠٩٧) وسنن النسائي الكبرى برقم (١١١٣٤) وسنن ابن ماجة برقم (١٤٣٦) .
(٤) زيادة من أ.
(٥) المسند (١/٢٦) وصحيح مسلم برقم (١٦١٧) .
(٦) زيادة من أ.
(٧) المسند (١/٣٨) .
(٨) المسند (٤/٢٩٣) وسنن أبي داود برقم (٢٨٨٩) وسنن الترمذي برقم (٣٠٤٢) .
(٩) في أ: "حدثنا".
(١٠) زيادة من أ.
(١١) في د: "وذكر".
(١٢) زيادة من أ.
(١٣) في د: "نزلت".
(١٤) تفسير الطبري (٩/٤٣١) .
(١٥) في ر: "إلا وجه الله".
(١٦) في أ: "الولد".
(١٧) في د: "يرجع".
(١٨) المسند (٥/١٨٨) .
(١٩) تفسير الطبري (٩/٤٤٣) .
(٢٠) في ر: "ولد".
(٢١) في أ: "تعصيب".
(٢٢) في ر: "النبي".
(٢٣) صحيح البخاري برقم (٦٧٣٤) .
(٢٤) في ر، أ: "للبنت".
(٢٥) صحيح البخاري برقم (٦٧٣٦) .
(٢٦) صحيح البخاري برقم (٦٧٣٥) وصحيح مسلم برقم (١٦١٥) .
(٢٧) في أ: "لقاني" وفي د: "لَقَّانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ".
(٢٨) زيادة من أ.
(٢٩) في ر: "من".
(٣٠) في ر: "وكذا".
(٣١) في أ: "محمد".
(٣٢) تفسير الطبري (٩/٤٣٥) .
(٣٣) في ر: "ووالله".
(٣٤) مسند البزار برقم (٢٢٠٦) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٣) : "رجاله رجال الصحيح غير أبي عبيدة بن حذيفة، ووثقه ابن حبان".
(٣٥) زيادة من ر، أ.
(٣٦) زيادة من ر، أ.
(٣٧) في ر، أ: "إلى آخرها".
(٣٨) في ر: "عنه".
(٣٩) في ر: "فكان".
(٤٠) ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في الدر المنثور (٢/٧٥٣) .
(٤١) في ر: "وما تكفيه".
(٤٢) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (٥٨٧) وعبد الرزاق في المصنف برقم (١٩١٩٤) من طريق سفيان بن عيينة به.
(٤٣) تفسير الطبري (٩/٤٣٩) .
(٤٤) المستدرك (٢/٣٠٣) وتعقبه الذهبي بقوله: "بل ما خرجا لمحمد شيئا ولا أدرك عمر"، فالسند فيه انقطاع.
(٤٥) المستدرك (٢/٣٠٤) ووافقه الذهبي.
(٤٦) في ر: "للأب والأم".
(٤٧) المستدرك (٢/٣٠٣) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (٥٨٩) من حديث سفيان عن سليمان الأحول به.
(٤٨) في ر: "العمري".
(٤٩) تفسير الطبري (٩/٤٣٨) .
(٥٠) رواه سعيد بن منصور في السنن برقم (٥٩١) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (٦/٢٢٤) من طريق سفيان عن عاصم عن الشعبي قال: قال عمر فذكره.. وهو منقطع.
(٥١) في ر: "وصححه".
(٥٢) في ر: "وفي قول".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٧٤_١٧٥
من سورة النساء 
﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَكُم بُرۡهَـٰنࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكُمۡ نُورࣰا مُّبِینࣰا (١٧٤) فَأَمَّا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُوا۟ بِهِۦ فَسَیُدۡخِلُهُمۡ فِی رَحۡمَةࣲ مِّنۡهُ وَفَضۡلࣲ وَیَهۡدِیهِمۡ إِلَیۡهِ صِرَ ٰ⁠طࣰا مُّسۡتَقِیمࣰا (١٧٥)﴾ [النساء ١٧٤-١٧٥]

يَقُولُ تَعَالَى مُخَاطِبًا جَمِيعَ النَّاسِ وَمُخْبِرًا(١) بِأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُمْ مِنْهُ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ، وَهُوَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ للعُذْر، وَالْحُجَّةُ الْمُزِيلَةُ لِلشُّبْهَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا﴾ أَيْ: ضِيَاءً وَاضِحًا عَلَى الْحَقِّ، قَالَ ابْنُ جُرَيج(٢) وَغَيْرُهُ: وَهُوَ الْقُرْآنُ.﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ﴾ أَيْ: جَمَعُوا بَيْنَ مَقَامَيِ الْعِبَادَةِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِمْ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِالْقُرْآنِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ﴾ أَيْ: يَرْحَمُهُمْ فَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ وَيَزِيدُهُمْ ثَوَابًا وَمُضَاعَفَةً وَرَفْعًا فِي دَرَجَاتِهِمْ، مِنْ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ أَيْ: طَرِيقًا وَاضِحًا قَصْدا قَوَاما لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا انْحِرَافَ. وَهَذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى مِنْهَاجِ الِاسْتِقَامَةِ وَطَرِيقِ السَّلَامَةِ فِي جَمِيعِ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْعَمَلِيَّاتِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ الْمُفْضِي إِلَى رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ. وَفِي حَدِيثِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: " الْقُرْآنُ صراطُ اللهِ المستقيمُ وحبلُ اللَّهِ الْمَتِينُ ". وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ بِتَمَامِهِ فِي أول التفسير ولله الحمد والمنة.

(١) في ر، أ: "ومخبرا لهم".
(٢) في أ: "جرير".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٤٠_٤٥ 
من سورة الأنعام 
﴿قُلۡ أَرَءَیۡتَكُمۡ إِنۡ أَتَىٰكُمۡ عَذَابُ ٱللَّهِ أَوۡ أَتَتۡكُمُ ٱلسَّاعَةُ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ تَدۡعُونَ إِن كُنتُمۡ صَـٰدِقِینَ (٤٠) بَلۡ إِیَّاهُ تَدۡعُونَ فَیَكۡشِفُ مَا تَدۡعُونَ إِلَیۡهِ إِن شَاۤءَ وَتَنسَوۡنَ مَا تُشۡرِكُونَ (٤١) وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَىٰۤ أُمَمࣲ مِّن قَبۡلِكَ فَأَخَذۡنَـٰهُم بِٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ لَعَلَّهُمۡ یَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوۡلَاۤ إِذۡ جَاۤءَهُم بَأۡسُنَا تَضَرَّعُوا۟ وَلَـٰكِن قَسَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰ⁠بَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ (٤٥)﴾ [الأنعام ٤٠-٤٥]

يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَأَنَّهُ لَا مُعقِّب لِحُكْمِهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى صَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ خَلْقِهِ، بَلْ هُوَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، الَّذِي إِذَا سُئِلَ يُجِيبُ لِمَنْ يَشَاءُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ﴾ أَيْ: أَتَاكُمْ هَذَا أَوْ هَذَا(١) ﴿أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: لَا تَدْعُونَ غَيْرَهُ لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ ذلك سواه؛ ولهذا قال: إن ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أَيْ: فِي اتِّخَاذِكُمْ آلِهَةً مَعَهُ.﴿بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ أَيْ: فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ لَا تَدْعُونَ أَحَدًا سِوَاهُ وَتَذْهَبُ عَنْكُمْ أَصْنَامُكُمْ وَأَنْدَادُكُمْ كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ﴾ الْآيَةَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ﴾ يَعْنِي: الْفَقْرَ وَالضِّيقَ فِي الْعَيْشِ ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ وَهِيَ الْأَمْرَاضُ وَالْأَسْقَامُ وَالْآلَامُ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ أَيْ: يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيْهِ وَيَخْشَعُونَ.قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ أَيْ: فَهَلَّا إِذِ ابْتَلَيْنَاهُمْ بِذَلِكَ تَضَرَّعُوا إِلَيْنَا وَتَمَسْكَنُوا إِلَيْنَا(٢) ﴿وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أَيْ: مَا رَقَّتْ وَلَا خَشَعَتْ ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أَيْ: مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي.﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾ أَيْ: أَعْرَضُوا عَنْهُ وَتَنَاسَوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أَيْ: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ مِنْ كُلِّ مَا يَخْتَارُونَ، وَهَذَا(٣) اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ تَعَالَى وَإِمْلَاءٌ لَهُمْ، عِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا﴾ أَيْ: مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ أَيْ: عَلَى غَفْلَةٍ ﴿فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ أَيْ: آيِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ.قَالَ الْوَالِبِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْمُبْلِسُ: الْآيِسُ.وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَنْ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَمْكُرُ بِهِ، فَلَا رَأْيَ لَهُ. وَمَنْ قَتَر عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ أَنَّهُ يَنْظُرُ لَهُ، فَلَا رَأْيَ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: مَكَرَ بِالْقَوْمِ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ؛ أُعْطُوا حَاجَتَهُمْ ثُمَّ أُخِذُوا. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.وَقَالَ قَتَادَةُ: بَغَت القومَ أمرُ اللَّهِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ قَوْمًا قَطُّ إِلَّا عِنْدَ سَكْرَتِهِمْ وَغَرَّتِهِمْ وَنَعِيمِهِمْ(٤) فَلَا تَغْتَرُّوا بِاللَّهِ، إِنَّهُ لَا يَغْتَرُّ بِاللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا.وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قَالَ: إِرْخَاءُ(٥) الدُّنْيَا وَسَتْرُهَا.وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلان، حَدَّثَنَا رِشْدِين -يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ أَبَا الْحَجَّاجِ الْمَهْرِيَّ -عَنْ حَرْمَلَة بْنِ عِمْرَانَ التُّجِيبي، عَنْ عُقْبة بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العبدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعاصيه مَا يُحِبُّ، فَإِنَّمَا هُوَ اسْتِدْرَاج". ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، مِنْ حَدِيثِ حَرْمَلة وَابْنِ لَهِيعة، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، بِهِ(٦)وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِرَاك بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلة، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](٧) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَقُولُ: "إِنَّ اللَّهَ [تَبَارَكَ وَتَعَالَى](٨) إذا أراد الله بِقَوْمٍ بَقَاءً -أَوْ: نَمَاءً -رَزَقَهُمُ الْقَصْدَ وَالْعَفَافَ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ اقْتِطَاعًا فَتَحَ لَهُمْ -أَوْ فَتْحَ عَلَيْهِمْ -بَابَ خِيَانَةٍ"(٩)﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ كَمَا قَالَ: ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

(١) في أ: "وهذا".
(٢) في أ: "لدينا".
(٣) في أ: "وهو".
(٤) في أ: "ونعمتهم".
(٥) في أ: "أرجاء"
(٦) المسند (٤/١٥٤) وتفسير الطبري (١١/٣٦١) ورواه الدولابي (١/١١١) من طريق حجاج بن سليمان، عن حرملة بن عمران به، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (٣٢) من طريق بشر بن عمر، عن عبد الله بن لهيعة، عن عقبة بن مسلم به.
(٧) زيادة من أ.
(٨) زيادة من أ.
(٩) ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (٣/٢٧٠) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأحد، 25 ديسمبر 2022

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣٣_٣٦ 
من سورة الأنعام 
﴿قَدۡ نَعۡلَمُ إِنَّهُۥ لَیَحۡزُنُكَ ٱلَّذِی یَقُولُونَۖ فَإِنَّهُمۡ لَا یُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ یَجۡحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدۡ كُذِّبَتۡ رُسُلࣱ مِّن قَبۡلِكَ فَصَبَرُوا۟ عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا۟ وَأُوذُوا۟ حَتَّىٰۤ أَتَىٰهُمۡ نَصۡرُنَاۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِ ٱللَّهِۚ وَلَقَدۡ جَاۤءَكَ مِن نَّبَإِی۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ (٣٤) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَیۡكَ إِعۡرَاضُهُمۡ فَإِنِ ٱسۡتَطَعۡتَ أَن تَبۡتَغِیَ نَفَقࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ سُلَّمࣰا فِی ٱلسَّمَاۤءِ فَتَأۡتِیَهُم بِـَٔایَةࣲۚ وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمۡ عَلَى ٱلۡهُدَىٰۚ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡجَـٰهِلِینَ (٣٥) ۞ إِنَّمَا یَسۡتَجِیبُ ٱلَّذِینَ یَسۡمَعُونَۘ وَٱلۡمَوۡتَىٰ یَبۡعَثُهُمُ ٱللَّهُ ثُمَّ إِلَیۡهِ یُرۡجَعُونَ (٣٦)﴾ [الأنعام ٣٣-٣٦]

يَقُولُ تَعَالَى مُسَلِّيًا لِنَبِيِّهِ ﷺ، فِي تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ وَمُخَالَفَتِهِمْ إِيَّاهُ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ أَيْ: قَدْ أَحَطْنَا عِلْمًا بِتَكْذِيبِ قَوْمِكَ لَكَ، وَحُزْنِكَ وَتَأَسُّفِكَ عَلَيْهِمْ، ﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٨] كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٣] ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ [الْكَهْفِ: ٧]
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ: لَا يَتَّهِمُونَكَ بِالْكَذِبِ في نَفْسِ الْأَمْرِ ﴿وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنَّهُمْ يُعَانِدُونَ الْحَقَّ وَيَدْفَعُونَهُ بِصُدُورِهِمْ، كَمَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١) قَالَ قَالَ: أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ، وَلَكِنْ نُكَذِّبُ مَا جِئْتَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾(٢)وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ، مِنْ طَرِيقِ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ(٣)وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَزِيرِ الْوَاسِطِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا بِشْر بْنُ المُبَشِّر الْوَاسِطِيُّ، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ أَبِي يَزِيدَ الْمَدَنِيِّ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فَصَافَحَهُ، قَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَلَا أَرَاكَ تُصَافِحُ هَذَا الصَّابِئَ؟ ! فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُ(٤) إِنَّهُ لَنَبِيٌّ، وَلَكِنْ مَتَى كُنَّا لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَبَعًا؟ ! وَتَلَا أَبُو يَزِيدَ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾قَالَ أَبُو صَالِحٍ وَقَتَادَةُ: يَعْلَمُونَ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ وَيَجْحَدُونَ.وَذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، فِي قِصَّةِ أَبِي جَهْلٍ حِينَ جَاءَ يَسْتَمِعُ قِرَاءَةَ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اللَّيْلِ، هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ صَخْر بنِ حَرْب، والأخْنَس بْنُ شِريْق، وَلَا يَشْعُرُ واحدٌ مِنْهُمْ بِالْآخَرِ. فَاسْتَمَعُوهَا إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا هَجَم الصُّبْحُ تَفرَّقوا، فَجَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ لِلْآخَرِ: مَا جَاءَ بِكَ؟ فَذَكَرَ لَهُ مَا جَاءَ لَهُ(٥) ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا، لِمَا يَخَافُونَ مِنْ عِلْمِ شَبَابِ قُرَيْشٍ بِهِمْ، لِئَلَّا يَفْتَتِنُوا(٦) بِمَجِيئِهِمْ فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّانِيَةُ جَاءَ كُلٌّ مِنْهُمْ ظَنًا أَنَّ صَاحِبَيْهِ لَا يَجِيئَانِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْعُهُودِ، فَلَمَّا أَجْمَعُوا(٧) جَمَعَتْهُمُ الطَّرِيقُ، فَتَلَاوَمُوا، ثُمَّ تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ جَاؤُوا أَيْضًا، فَلَمَّا أَصْبَحُوا تَعَاهَدُوا أَلَّا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا [ثُمَّ تَفَرَّقُوا](٨)فَلَمَّا أَصْبَحَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيق أَخَذَ عَصَاهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فِي بَيْتِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي(٩) يَا أَبَا حَنْظَلة عَنْ رَأْيِكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ، وَاللَّهِ لَقَدْ سمعتُ أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا وَأَعْرِفُ مَا يُراد بِهَا، وَسَمِعْتُ أَشْيَاءَ مَا عَرَفْتُ مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا. قَالَ الْأَخْنَسُ: وَأَنَا وَالَّذِي حَلَفْتَ بِهِ.ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى أَتَى أَبَا جَهْلٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، مَا رَأْيُكَ فِيمَا سَمِعْتَ مِنْ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: مَاذَا سَمِعْتُ؟ تَنَازَعْنَا(١٠) نَحْنُ وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشَّرَفَ: أَطْعَمُوا فأطعمنا، وَحَمَلُوا فَحَمَلْنَا، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا، حَتَّى إِذَا تَجاثينا عَلَى الرُّكَب، وَكُنَّا كَفَرَسي رِهَان، قَالُوا: مِنَّا نَبِيٌّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنَ السَّمَاءِ! فَمَتَى نُدْرِكُ هَذِهِ؟ وَاللَّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ أَبَدًا وَلَا نُصَدِّقُهُ، قَالَ: فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ(١١)وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ طَرِيقِ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّي، فِي قَوْلِهِ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيق لِبَنِي زُهْرَةَ: يَا بَنِي زُهْرَةَ، إِنَّ مُحَمَّدًا ابْنُ أُخْتِكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ كَفَّ(١٢) عَنْهُ. فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تُقَاتِلُوهُ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا كُنْتُمْ أَحَقَّ مَنْ كَفَّ عَنِ ابْنِ أُخْتِهِ قِفُوا هَاهُنَا حَتَّى أَلْقَى أَبَا الْحَكَمِ، فَإِنْ غُلِبَ مُحَمَّدٌ رَجَعْتُمْ سَالِمِينَ، وَإِنْ غَلَب مُحَمَّدٌ فَإِنَّ قَوْمَكُمْ لَمْ يَصْنَعُوا بِكُمْ شَيْئًا. فَيَوْمَئِذٍ سُمِّي الْأَخْنَسُ: وَكَانَ اسْمَهُ "أُبَيٌّ" فَالْتَقَى الْأَخْنَسُ وَأَبُو جَهْلٍ، فَخَلَا الْأَخْنَسُ بِأَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْحَكَمِ، أَخْبِرْنِي عَنْ مُحَمَّدٍ: أُصَادِقٌ هُوَ أَمْ كَاذِبٌ؟ فَإِنَّهُ لَيْسَ هَاهُنَا مِنْ قُرَيْشٍ غَيْرِي وَغَيْرُكَ يَسْمَعُ كَلَامَنَا. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَيْحَكَ! وَاللَّهِ إِنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ، وَمَا كَذَبَ مُحَمَّدٌ قَطُّ، وَلَكِنْ إِذَا ذَهَبَتْ بَنُو قُصيّ بِاللِّوَاءِ وَالسِّقَايَةِ وَالْحِجَابِ وَالنُّبُوَّةِ، فَمَاذَا يَكُونُ لِسَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ فَآيَاتُ اللَّهِ: مُحَمَّدٌ ﷺ.
* * *وَقَوْلُهُ ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ] ﴾(١٣) هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ(١٤) ﷺ وَتَعْزِيَةٌ لَهُ فِيمَنْ كَذَّبَهُ مِنْ قَوْمِهِ، وَأَمْرٌ لَهُ بِالصَّبْرِ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وَوَعْدٌ لَهُ بِالنَّصْرِ كَمَا نُصِرُوا، وَبِالظَّفَرِ حَتَّى كَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، بَعْدَ مَا نَالَهُمْ مِنَ التَّكْذِيبِ مِنْ قَوْمِهِمْ وَالْأَذَى الْبَلِيغِ، ثُمَّ جَاءَهُمُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، كَمَا لَهُمُ النَّصْرُ فِي الْآخِرَةِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ أَيِ: الَّتِي كَتَبَهَا بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصَّافَّاتِ: ١٧١ -١٧٣] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الْمُجَادَلَةِ: ٢١] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ﴾ أَيْ: مَنْ خَبَرِهِمْ كَيْفَ نُصِروا وأُيدوا عَلَى مَنْ كَذَّبَهُمْ مَنْ قَوْمِهِمْ، فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ وَبِهِمْ قُدْوَةٌ.ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ﴾ أَيْ: إِنْ كَانَ شَقَّ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ عَنْكَ ﴿فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ﴾ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: النَّفقُ: السّرْب، فَتَذْهَبَ فِيهِ ﴿فَتَأْتِيَهُمْ(١٥) بِآيَةٍ﴾ أَوْ تَجْعَلَ لَكَ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَصْعَدَ فِيهِ فَتَأْتِيَهُمْ(١٦) بِآيَةٍ أَفْضَلَ مِمَّا آتَيْتَهُمْ بِهِ، فَافْعَلْ.وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ، والسُّدِّي، وغيرهما.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ](١٧) ﴾ [يُونُسَ: ٩٩] ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى﴾ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَحْرِصُ أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ وَيُتَابِعُوهُ(١٨) عَلَى الْهُدَى، فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُؤَمِنُ إِلَّا مَنْ قَدْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ لِدُعَائِكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَيَعِيهِ وَيَفْهَمُهُ، كَقَوْلِهِ: ﴿لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [يس: ٧٠] ، وَقَوْلُهُ ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ﴾ يَعْنِي: بِذَلِكَ الْكَفَّارَ؛ لِأَنَّهُمْ مَوْتَى الْقُلُوبِ، فَشَبَّهَهُمُ اللَّهُ بِأَمْوَاتِ(١٩) الْأَجْسَادِ فَقَالَ: ﴿وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَالِازْدِرَاءِ عَلَيْهِمْ.

(١) زيادة من أ.
(٢) رواه الترمذي في السنن برقم (٤٠٦٤) من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان به، وقال الترمذي: "وهذا أصح" والطبري في تفسيره (١١/٣٣٤) من طريق عبد الرحمن بن مهدى - وتابعه يحيى بن آدم - عن سفيان به مرسلا.
(٣) المستدرك (٢/٣١٥) وتعقبه الذهبي بقول: ناجية بن كعب لم يخرجا له شيئا.
(٤) في م، أ "لأعلم".
(٥) في د، أ: "به".
(٦) في د، م: "يفتنوا".
(٧) في د، م: "أصبحوا".
(٨) زيادة من أ.
(٩) في م: "أخبروني".
(١٠) في م، أ: "قال تنازعنا".
(١١) سيرة ابن إسحاق برقم (٢٣٢) طـ - المغرب.
(١٢) في د: "ذب"
(١٣) زيادة من م.
(١٤) في أ: "لمحمد".
(١٥) في أ: "فيذهب فيه "فيأتيهم".
(١٦) في أ "فيصعد فيه فيأتيهم".
(١٧) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(١٨) في م: "ويبايعوه".
(١٩) في أ: "فشبههم بالأموات".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣١_٣٢ 
من سورة الأنعام 
﴿قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِلِقَاۤءِ ٱللَّهِۖ حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَتۡهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ قَالُوا۟ یَـٰحَسۡرَتَنَا عَلَىٰ مَا فَرَّطۡنَا فِیهَا وَهُمۡ یَحۡمِلُونَ أَوۡزَارَهُمۡ عَلَىٰ ظُهُورِهِمۡۚ أَلَا سَاۤءَ مَا یَزِرُونَ (٣١) وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَعِبࣱ وَلَهۡوࣱۖ وَلَلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ (٣٢)﴾ [الأنعام ٣١-٣٢]

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ خَسَارة مَنْ كَذَّبَ بِلِقَاءِ اللَّهِ وَعَنْ خَيْبَتِهِ إِذَا جَاءَتْهُ السَّاعَةُ بَغْتَةً، وَعَنْ نَدَامَتِهِ عَلَى مَا فَرَّطَ مِنَ الْعَمَلِ، وَمَا أَسْلَفَ مِنْ قَبِيحِ الْفِعَالِ(١) وَلِهَذَا قَالَ: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا﴾وَهَذَا الضَّمِيرُ يُحْتَمَلُ عَوْدُه عَلَى الْحَيَاةِ [الدُّنْيَا](٢) وَعَلَى الْأَعْمَالِ، وَعَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، أَيْ: فِي أَمْرِهَا.
* * *وَقَوْلُهُ ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ أَيْ: يَحْمِلُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْمَلُونَ.[وَ](٣) قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ قَالَ: ويُستقبل الْكَافِرُ -أَوِ: الْفَاجِرُ -(٤) -عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ كَأَقْبَحِ صُورَةٍ رَآهَا وَأَنْتَنَ(٥) رِيحًا، فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَوْ مَا تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ إلا أن الله [قد](٦) قَبَّحَ وَجْهَكَ ونَتَّن رِيحَكَ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، هَكَذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا خَبِيثَ الْعَمَلِ مُنْتِنَهُ، طَالَمَا(٧) رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا، هَلُمَّ أَرْكَبُكَ، فَهُوَ قوله: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] ﴾(٨)(٩)وَقَالَ أَسْبَاطٌ: عَنِ السُّدِّي أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ظَالِمٍ يَمُوتُ فَيَدْخُلُ قَبْرَهُ إِلَّا جَاءَهُ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، أَسْوَدُ اللَّوْنِ، مُنْتِنُ الرَّائِحَةِ(١٠) عَلَيْهِ ثِيَابٌ دَنِسَةٌ، حَتَّى يَدْخُلَ مَعَهُ قَبْرَهُ، فَإِذَا رَآهُ قَالَ: مَا أَقْبَحَ وَجْهُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ قَبِيحًا(١١) قَالَ: مَا أَنْتَنَ(١٢) رِيحُكَ! قَالَ: كَذَلِكَ كَانَ عَمَلُكَ مُنْتِنًا(١٣) ! قَالَ: مَا أَدْنَسَ ثِيَابُكَ، قَالَ: فَيَقُولُ: إِنَّ عَمَلَكَ كَانَ دَنِسًا. قَالَ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَمَلُكَ! قَالَ: فَيَكُونُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، فَإِذَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ لَهُ: إِنِّي كُنْتُ أَحْمِلُكَ فِي الدُّنْيَا بِاللَّذَّاتِ وَالشَّهَوَاتِ، وَأَنْتَ الْيَوْمَ تَحْمِلُنِي. قَالَ: فَيَرْكَبُ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَسُوقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ أَيْ: إِنَّمَا غَالِبُهَا كَذَلِكَ ﴿وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾

(١) في أ: "الفعل".
(٢) زيادة من م.
(٣) زيادة من أ.
(٤) في أ: "والفاجر".
(٥) في أ: رأينها وأنتنه".
(٦) زيادة من م، أ.
(٧) في أ: "فطال ما".
(٨) زيادة من م، أ.
(٩) وهذا مرسل، وأبو مرزوق التجيبي، قال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به. وقد روى هذا الأثر موقوفا على عمرو بن قيس الملائي دون ذكر أبي مرزوق. ورواه الطبري في تفسيره (١١/٣٢٧) عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ عَمْرِو به.
(١٠) في أ: "الريح".
(١١) في أ: "قبيح" وهو خطأ.
(١٢) في أ: "ما أنت".
(١٣) في أ: "منتن".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الجمعة، 23 ديسمبر 2022

من سورة النساء

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٥٠_١٥٢
من سورة النساء 
﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡفُرُونَ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیُرِیدُونَ أَن یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَیَقُولُونَ نُؤۡمِنُ بِبَعۡضࣲ وَنَكۡفُرُ بِبَعۡضࣲ وَیُرِیدُونَ أَن یَتَّخِذُوا۟ بَیۡنَ ذَ ٰ⁠لِكَ سَبِیلًا (١٥٠) أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ حَقࣰّاۚ وَأَعۡتَدۡنَا لِلۡكَـٰفِرِینَ عَذَابࣰا مُّهِینࣰا (١٥١) وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦ وَلَمۡ یُفَرِّقُوا۟ بَیۡنَ أَحَدࣲ مِّنۡهُمۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ سَوۡفَ یُؤۡتِیهِمۡ أُجُورَهُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا (١٥٢)﴾ [النساء ١٥٠-١٥٢]

يَتَوَعَّدُ [تَبَارَكَ وَ](١) تَعَالَى الْكَافِرِينَ بِهِ وَبِرُسُلِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، حَيْثُ فَرّقوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ فِي الْإِيمَانِ، فَآمَنُوا بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِبَعْضٍ، بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْعَادَةِ، وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ، لَا عَنْ دَلِيلٍ قَادَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بَلْ بِمُجَرَّدِ الْهَوَى وَالْعَصَبِيَّةِ. فَالْيَهُودُ -عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ-آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ إلا عيسى ومحمد عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالنَّصَارَى آمَنُوا بِالْأَنْبِيَاءِ وَكَفَرُوا بِخَاتَمِهِمْ وَأَشْرَفِهِمْ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَالسَّامِرَةُ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ بَعْدَ يُوشَعَ خَلِيفَةِ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَالْمَجُوسُ يُقَالُ: إِنَّهُمْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيٍّ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ(٢) زَرَادِشْتُ، ثُمَّ كَفَرُوا بِشَرْعِهِ، فَرُفِعَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ، وَاللَّهُ(٣) أَعْلَمُ.وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مَنْ كَفَرَ بِنَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَقَدْ كَفَرَ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ الْإِيمَانَ وَاجِبٌ بِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَنْ رَدَّ نُبُوَّتَهُ لِلْحَسَدِ أَوِ الْعَصَبِيَّةِ أَوِ التَّشَهِّي تَبَيَّنَ أَنَّ إِيمَانَهُ بِمَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ لَيْسَ إِيمَانًا شَرْعِيًّا، إِنَّمَا هُوَ عَنْ غَرَضٍ وَهَوًى وَعَصَبِيَّةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ فَوَسْمَهُمْ بِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴿وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ أَيْ: فِي الْإِيمَانِ ﴿وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا﴾ أَيْ: طَرِيقًا وَمَسْلَكًا.ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا﴾ أَيْ: كُفْرُهُمْ مُحَقَّقٌ لَا مَحَالَةَ بِمَنِ ادَّعَوُا الْإِيمَانَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَرْعِيًّا، إِذْ لَوْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِهِ لِكَوْنِهِ رَسُولَ اللَّهِ لَآمَنُوا بِنَظِيرِهِ، وَبِمَنْ هُوَ أَوْضَحُ دَلِيلًا وَأَقْوَى بُرْهَانًا مِنْهُ، لَوْ نَظَرُوا حَقَّ النَّظَرِ فِي نُبُوَّتِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾ أَيْ: كَمَا اسْتَهَانُوا بِمَنْ كَفَرُوا بِهِ إِمَّا لِعَدَمِ نَظَرِهِمْ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَإِقْبَالِهِمْ عَلَى جَمْعِ حُطَامِ الدُّنْيَا مِمَّا لَا ضَرُورَةَ بِهِمْ إِلَيْهِ، وَإِمَّا بِكُفْرِهِمْ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ حَسَدُوهُ عَلَى مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ الْعَظِيمَةِ، وَخَالَفُوهُ وَكَذَّبُوهُ وَعَادُوهُ وَقَاتَلُوهُ، فَسَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ الدُّنْيَوِيَّ الْمَوْصُولَ بِالذُّلِّ الْأُخْرَوِيِّ: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٦١] فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ﴾ يَعْنِي بِذَلِكَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِكُلِّ كِتَابٍ أَنْزَلَهُ اللَّهُ وَبِكُلِّ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ](٤) ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٨٥] .ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى بِأَنَّهُ قَدْ أَعَدَّ لَهُمُ الْجَزَاءَ الْجَزِيلَ وَالثَّوَابَ الْجَلِيلَ وَالْعَطَاءَ الْجَمِيلَ، فَقَالَ: ﴿أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ﴾ عَلَى مَا آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أَيْ: لِذُنُوبِهِمْ أَيْ: إِنْ كَانَ لبعضهم ذنوب.

(١) زيادة من ر، أ.
(٢) في ر، أ: "اسمه".
(٣) في ر: "فالله".
(٤) زيادة من: ر، أ، وفي هـ: "الآية".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 21 ديسمبر 2022

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٢٢_٢٣ 
من سورة الروم
﴿وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَ ٰ⁠نِكُمۡۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّلۡعَـٰلِمِینَ (٢٢) وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ مَنَامُكُم بِٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبۡتِغَاۤؤُكُم مِّن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَـَٔایَـٰتࣲ لِّقَوۡمࣲ یَسۡمَعُونَ (٢٣)﴾ [الروم ٢٢-٢٣]

يَقُولُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِ قُدْرَتِهِ العظيمة ﴿خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أي: خلق السموات فِي ارْتِفَاعِهَا وَاتِّسَاعِهَا، وَشُفُوفِ أَجْرَامِهَا وَزِهَارَةِ كَوَاكِبِهَا وَنُجُومِهَا الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، وَالْأَرْضَ فِي انْخِفَاضِهَا وَكَثَافَتِهَا وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَأَوْدِيَةٍ، وَبِحَارٍ وَقِفَارٍ، وَحَيَوَانٍ وَأَشْجَارٍ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ يَعْنِي: اللُّغَاتِ، فَهَؤُلَاءِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، وَهَؤُلَاءِ تَتَرٌ لَهُمْ لُغَةٌ أُخْرَى، وَهَؤُلَاءِ كَرَج، وَهَؤُلَاءِ رُومٌ، وَهَؤُلَاءِ إِفْرِنْجُ، وَهَؤُلَاءِ بَرْبر، وَهَؤُلَاءِ تكْرور، وَهَؤُلَاءِ حَبَشَةٌ، وَهَؤُلَاءِ هُنُودٌ، وَهَؤُلَاءِ عَجَمٌ، وَهَؤُلَاءِ صَقَالِبَةٌ، وَهَؤُلَاءِ خَزَرٌ، وَهَؤُلَاءِ أَرْمَنٌ، وَهَؤُلَاءِ أَكْرَادٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ مِنَ اخْتِلَافِ لُغَاتِ بَنِي آدَمَ، وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِمْ وَهِيَ حُلاهم، فَجَمِيعُ أَهْلِ الْأَرْضِ -بَلْ أَهْلِ الدُّنْيَا -مُنْذُ خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ: كُلٌّ له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وَفَمٌ وَخَدَّانِ. وَلَيْسَ يُشْبِهُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُفَارِقَهُ بِشَيْءٍ مِنَ السَّمْتِ أَوِ الْهَيْئَةِ أَوِ الْكَلَامِ، ظَاهِرًا كَانَ أَوْ خَفِيًّا، يَظْهَرُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ، كُلُّ وَجْهٍ مِنْهُمْ أُسْلُوبٌ بِذَاتِهِ وَهَيْئَةٌ لَا تُشْبِهُ الْأُخْرَى. وَلَوْ تَوَافَقَ جَمَاعَةٌ فِي صِفَةٍ مِنْ جَمَالٍ أَوْ قُبْحٍ(١) ، لَا بُدَّ مِنْ فَارِقٍ بَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَبَيْنَ الْآخَرِ، ﴿إنَّ فِي ذَلِك لَآيَاتٍ للعَالَمين وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أَيْ: وَمِنِ الْآيَاتِ مَا جُعِلَ لَكُمْ مِنْ صِفَةِ النُّوَّمِ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فِيهِ تَحْصُلُ الرَّاحَةُ وَسُكُونُ الْحَرَكَةِ، وَذَهَابُ الْكَلَالِ وَالتَّعَبِ، وَجَعَلَ لَكُمْ الِانْتِشَارَ وَالسَّعْيَ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَسْفَارِ فِي النَّهَارِ، وَهَذَا ضِدُّ النَّوْمِ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أَيْ: يَعُونَ.قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ عِمْرَانَ السَّدُوسِيُّ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحُصَيْنِ الْعُقَيْلِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُلاثة، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدان، سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ(٢) ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: أَصَابَنِي أَرَقٌ مِنَ اللَّيْلِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: "قُلْ: اللَّهُمَّ غَارَتِ النُّجُومُ، وَهَدَأَتِ الْعُيُونُ، وَأَنْتَ حَيٌّ قَيُّومٌ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، [أَنِمْ عَيْنِي وَ](٣) أَهْدِئْ لَيْلِي" فَقُلْتُهَا فَذَهَبَ عَنِّي(٤) .

(١) في أ: "قبيح".
(٢) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(٣) زيادة من ت، ف، ومعجم الطبراني.
(٤) المعجم الكبير (٥/١٢٤) ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة برقم (٧٤٥) وابن عدي في الكامل (٥/١٥٠) من طريق عمرو بن الحصين به، وقال ابن عدي: "تفرد به عمرو بن الحصين وهو مظلم الحديث، ويروي عن قوم معروفين". وله شاهد من حديث أنس، حسنه الحافظ ابن حجر كما في الفتوحات الربانية لابن علان (٣/١٧٧) .

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))