الاثنين، 13 فبراير 2023

من سورة النور

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٣١
من سورة النور 
﴿وَقُل لِّلۡمُؤۡمِنَـٰتِ یَغۡضُضۡنَ مِنۡ أَبۡصَـٰرِهِنَّ وَیَحۡفَظۡنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنۡهَاۖ وَلۡیَضۡرِبۡنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُیُوبِهِنَّۖ وَلَا یُبۡدِینَ زِینَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوۡ ءَابَاۤىِٕهِنَّ أَوۡ ءَابَاۤءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ أَبۡنَاۤىِٕهِنَّ أَوۡ أَبۡنَاۤءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوۡ إِخۡوَ ٰ⁠نِهِنَّ أَوۡ بَنِیۤ إِخۡوَ ٰ⁠نِهِنَّ أَوۡ بَنِیۤ أَخَوَ ٰ⁠تِهِنَّ أَوۡ نِسَاۤىِٕهِنَّ أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُهُنَّ أَوِ ٱلتَّـٰبِعِینَ غَیۡرِ أُو۟لِی ٱلۡإِرۡبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفۡلِ ٱلَّذِینَ لَمۡ یَظۡهَرُوا۟ عَلَىٰ عَوۡرَ ٰ⁠تِ ٱلنِّسَاۤءِۖ وَلَا یَضۡرِبۡنَ بِأَرۡجُلِهِنَّ لِیُعۡلَمَ مَا یُخۡفِینَ مِن زِینَتِهِنَّۚ وَتُوبُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ جَمِیعًا أَیُّهَ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ﴾ [النور ٣١]

هَذَا(١) أمْرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلنِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ، وغَيْرَة(٢) مِنْهُ لِأَزْوَاجِهِنَّ، عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَمْيِيزٌ لَهُنَّ عَنْ صِفَةِ نِسَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ وَفِعَالِ الْمُشْرِكَاتِ. وكان سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ مُقَاتِلُ بْنُ حيَّان قَالَ: بَلَغَنَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّث: أَنَّ "أَسْمَاءَ بِنْتَ مُرْشدَة" كَانَتْ فِي مَحِلٍّ لَهَا فِي بَنِي حَارِثَةَ، فَجَعَلَ النِّسَاءُ يَدْخُلْنَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُتَأزّرات فَيَبْدُو مَا فِي أَرْجُلِهِنَّ مِنَ الْخَلَاخِلِ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: مَا أَقْبَحَ هَذَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ الْآيَةَ.فَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ أَيْ: عَمَّا حَرَّم اللَّهُ عَلَيْهِنَّ مِنَ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ أَزْوَاجِهِنَّ. وَلِهَذَا ذَهَبَ [كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ](٣) إِلَى أَنَّهُ: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى الْأَجَانِبِ بِشَهْوَةٍ وَلَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ أَصْلًا. وَاحْتَجَّ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَبْهَانَ -مَوْلَى أُمِّ سَلَمَةَ -أَنَّهُ حَدَّثَهُ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثته: أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَمَيْمُونَةُ، قَالَتْ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَهُ أَقْبَلَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُمِرْنا بِالْحِجَابِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "احْتَجِبَا مِنْهُ" فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُنَا ولا يعرفنا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَوَ عَمْيَاوَانِ(٤) أَنْتُمَا؟ أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ"(٥) .ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى جَوَازِ نَظَرِهِنَّ إِلَى الْأَجَانِبِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ جَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ وَهُمْ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ يَوْمَ الْعِيدِ فِي الْمَسْجِدِ، وَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ تَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ وَرَائِهِ، وَهُوَ يَسْتُرُهَا مِنْهُمْ حَتَّى مَلَّت وَرَجَعَتْ(٦) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر:، عَنِ الْفَوَاحِشِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ: عَمَّا لَا يَحِلُّ لَهُنَّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:، عَنِ الزِّنَى. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كُلُّ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقُرْآنِ يُذْكَرُ فِيهَا حِفْظُ الْفُرُوجِ، فَهُوَ مِنَ الزِّنَى، إِلَّا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ أَلَّا يَرَاهَا أَحَدٌ.وَقَالَ(٧) : ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أَيْ: لَا يُظهرْنَ شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ لِلْأَجَانِبِ، إِلَّا مَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ.وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَالرِّدَاءِ وَالثِّيَابِ. يَعْنِي: عَلَى مَا كَانَ يَتَعَانَاهُ نِسَاءُ الْعَرَبِ، مِنَ المِقْنعة الَّتِي تُجَلِّل ثِيَابَهَا، وَمَا يَبْدُو مِنْ أَسَافِلِ الثِّيَابِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ. [وَنَظِيرُهُ فِي زِيِّ النِّسَاءِ مَا يَظْهَرُ مِنْ إِزَارِهَا، وَمَا لَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ. وَقَالَ](٨) بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَأَبُو الْجَوْزَاءِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعي، وَغَيْرُهُمْ.وَقَالَ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ قَالَ: وَجْهُهَا وَكَفَّيْهَا وَالْخَاتَمُ. ورُوي عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَعَطَاءٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الشَّعْثَاءِ، وَالضَّحَّاكِ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعي، وَغَيْرِهِمْ -نحوُ ذَلِكَ. وَهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِلزِّينَةِ الَّتِي نُهِينَ عَنْ إِبْدَائِهَا، كَمَا قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبيعي، عَنْ أَبِي الأحْوَص، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ : الزِّينَةُ القُرْط والدُّمْلُج وَالْخَلْخَالُ وَالْقِلَادَةُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: الزِّينَةُ زِينَتَانِ: فَزِينَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ: الْخَاتَمُ وَالسُّوَارُ، [وَزِينَةٌ يَرَاهَا الْأَجَانِبُ، وَهِيَ](٩) الظَّاهِرُ مِنَ الثِّيَابِ.وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: [لَا يَبْدُو](١٠) لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ إِلَّا الْأَسْوِرَةُ وَالْأَخْمِرَةُ والْأَقْرِطَةُ مِنْ غَيْرِ حَسْرٍ، وَأَمَّا عَامَّةُ النَّاسِ فَلَا يَبْدُو مِنْهَا إِلَّا الْخَوَاتِمُ.وَقَالَ مَالِكٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ: ﴿إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ الْخَاتَمُ وَالْخَلْخَالُ.وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَرَادُوا تَفْسِيرَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَيُسْتَأْنَسُ لَهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ:حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ كَعْبٍ الْإِنْطَاكِيُّ ومُؤَمَّل بْنُ الْفَضْلِ الحَرَّاني قَالَا حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ بَشِير، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ دُرَيك، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: "يَا أَسْمَاءُ، إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا" وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ(١١) .لَكِنْ قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ؛ خَالِدُ بْنُ دُرَيك لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عَائِشَةَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ يَعْنِي: الْمَقَانِعَ يُعْمَلُ لَهَا صَنفات ضَارِبَاتٌ عَلَى صُدُورِ النِّسَاءِ، لِتُوَارِيَ مَا تَحْتَهَا مِنْ صَدْرِهَا وَتَرَائِبِهَا؛ لِيُخَالِفْنَ شعارَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُنَّ لَمْ يَكُنَّ يَفْعَلْنَ ذَلِكَ، بَلْ كَانَتِ الْمَرْأَةُ تَمُرُّ بَيْنَ الرِّجَالِ مُسَفِّحَةً بِصَدْرِهَا، لَا يُوَارِيهِ شَيْءٌ، وَرُبَّمَا أَظْهَرَتْ(١٢) عُنُقَهَا وَذَوَائِبَ شَعْرِهَا وَأَقْرِطَةَ آذَانِهَا. فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَسْتَتِرْنَ فِي هَيْئَاتِهِنَّ وَأَحْوَالِهِنَّ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ﴾ [الْأَحْزَابِ: ٥٩] . وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ والخُمُر: جَمْعُ خِمار، وَهُوَ مَا يُخَمر بِهِ، أَيْ: يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ، وَهِيَ الَّتِي تُسَمِّيهَا النَّاسُ الْمَقَانِعَ.قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿وَلْيَضْرِبْن﴾ : وَلِيَشْدُدْنَ ﴿بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ يَعْنِي: عَلَى النَّحْرِ وَالصَّدْرِ، فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ.وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيب(١٣) : حدَّثنا أَبِي، عَنْ يُونُسَ، عَنِ(١٤) ابْنِ شِهَاب، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شقَقْنَ مُرُوطهن فَاخْتَمَرْنَ بِهِ(١٥)(١٦) .وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ صَفيّة بِنْتِ شَيْبَةَ؛ أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَانَتْ تَقُولُ(١٧) : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ : أَخَذْنَ أُزُرَهُنَّ فَشَقَقنها مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي، فَاخْتَمَرْنَ بِهَا(١٨) .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ، حَدَّثَنِي الزِّنْجِيُّ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْم، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَذَكَرْنَا نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ لِنِسَاءِ قُرَيْشٍ لَفَضْلًا وَإِنِّي -وَاللَّهِ -وَمَا رَأَيْتُ أفضلَ مِنْ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ. لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ ، انْقَلَبَ إِلَيْهِنَّ رِجَالُهُنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ فِيهَا، وَيَتْلُو الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ، وَعَلَى كُلِّ ذِي قَرَابَةٍ(١٩) ، فَمَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطها المُرَحَّل فَاعْتَجَرَتْ بِهِ، تَصْدِيقًا وَإِيمَانًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابِهِ، فأصبحْنَ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصُّبْحَ مُعْتَجَرَاتٍ، كأن على رؤوسهن الغربان.وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ، بِهِ(٢٠) .وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنَّ قُرَّةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَة، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّهَا قَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ النِّسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الأوَل، لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ شَقّقن أكثَف مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ وَهْبٍ، بِهِ(٢١) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ يَعْنِي: أَزْوَاجَهُنَّ، ﴿أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ كُلُّ هَؤُلَاءِ مَحَارِمُ الْمَرْأَةِ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ عَلَيْهِمْ بِزِينَتِهَا، وَلَكِنْ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَادٍ وَتُبَهْرُجٍ(٢٢) .وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: حَدَّثَنَا مُوسَى -يَعْنِي: ابْنَ هَارُونَ -حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي شَيْبَةَ -حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا دَاوُدُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ وعِكْرمَة فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ -حَتَّى فَرَغَ مِنْهَا قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ الْعَمَّ وَلَا الْخَالَ؛ لِأَنَّهُمَا ينعَتان(٢٣) لِأَبْنَائِهِمَا، وَلَا تَضَعُ خِمَارَهَا عِنْدَ الْعَمِّ وَالْخَالِ فَأَمَّا الزَّوْجُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ أَجْلِهِ، فَتَتَصَنَّعُ لَهُ مَا لَا يَكُونُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ يَعْنِي: تُظهر زِينَتَهَا أَيْضًا لِلنِّسَاءِ الْمُسَلِمَاتِ دُونَ نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ؛ لِئَلَّا تَصِفَهُنَّ لِرِجَالِهِنَّ، وَذَلِكَ -وَإِنْ كَانَ مَحْذُورًا فِي جَمِيعِ النِّسَاءِ -إِلَّا أَنَّهُ فِي نِسَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَشَدُّ، فَإِنَّهُنَّ لَا يَمْنَعُهُنَّ مِنْ ذَلِكَ مَانِعٌ، وَأَمَّا الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ فَتَنْزَجِرُ عَنْهُ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا تُبَاشِرُ المرأةَ المرأةَ، تَنْعَتُهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ(٢٤) .وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْغَازِّ،، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَتَبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فانْهَ مَنْ قِبَلَك فَلَا(٢٥) يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِالْلَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى عَوْرَتِهَا إِلَّا أَهْلُ مِلَّتِهَا(٢٦) .وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ قَالَ: نِسَاؤُهُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَيْسَ الْمُشْرِكَاتُ مِنْ نِسَائِهِنَّ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ أَنْ تَنْكَشِفَ بَيْنَ يَدَيِ الْمُشْرِكَةِ.وَرَوَى عَبد فِي تَفْسِيرِهِ(٢٧) عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ ، قَالَ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ لَا تُبْدِيهِ لِيَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَهُوَ النَّحْر والقُرْط والوٍشَاح، وَمَا لَا يَحِلُّ أَنْ يَرَاهُ إلا محرم.وَرَوَى سَعِيدٌ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَا تَضَعُ الْمُسْلِمَةُ خِمَارَهَا عِنْدَ مُشْرِكَةٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿أَوْ نِسَائِهِنَّ﴾ فَلَيْسَتْ(٢٨) مِنْ نِسَائِهِنَّ.وَعَنْ مَكْحُولٍ وَعُبَادَةَ بْنِ نُسَيّ: أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ تُقَبِّلَ النصرانيةُ وَالْيَهُودِيَّةُ وَالْمَجُوسِيَّةُ الْمُسْلِمَةَ.فَأَمَّا مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَة قَالَ: قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ: وَلَمَّا قَدِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، كَانَ قَوَابل نِسَائِهِمُ الْيَهُودِيَّاتُ وَالنَّصْرَانِيَّاتُ فَهَذَا -إِنْ صَحَّ -مَحمولٌ عَلَى حَالِ الضَّرُورَةِ، أَوْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الِامْتِهَانِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كَشَفُ عَوْرَةٍ وَلَا بُدَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ قَالَ ابْنُ جُرَيج(٢٩) : يَعْنِي: مِنْ نِسَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُظْهِرَ [زَينَتَهَا لَهَا وَإِنْ كَانَتْ مُشْرِكَةً؛ لِأَنَّهَا أَمَتُهَا. وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ المسيَّب. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: بَلْ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَظْهَرَ](٣٠) عَلَى رَقِيقِهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَاسْتَدَلُّوا بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ:حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو جُمَيْعٍ سَالِمُ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ(٣١) ﷺ أَتَى فَاطِمَةَ بِعَبْدٍ قَدْ وَهَبَهُ لَهَا. قَالَ: وَعَلَى فَاطِمَةَ ثَوْبٌ إِذَا قَنَّعت بِهِ رَأْسَهَا لَمْ يَبْلُغْ رِجْلَيْهَا، وَإِذَا غَطَّتْ بِهِ رِجْلَيْهَا لَمْ يَبْلُغْ رَأْسَهَا، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيُّ ﷺ مَا تَلْقَى قَالَ: "إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ، إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلَامُكِ"(٣٢) .وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي تَارِيخِهِ [فِي](٣٣) تَرْجَمَةِ حُدَيْج الخَصِيّ -مُوَلَى مُعَاوِيَةَ -أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعَدَة الْفَزَارِيَّ كَانَ أَسْوَدَ شَدِيدَ الْأَدْمَةِ، وَأَنَّهُ قَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ وَهَبَهُ لِابْنَتِهِ فَاطِمَةَ، فَرَبَّتْهُ ثُمَّ أَعْتَقَتْهُ، ثُمَّ قَدْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ مَعَ مُعَاوِيَةَ أَيَّامَ صِفِّينَ، وَكَانَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ(٣٤) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَة، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَبْهَان، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، ذَكَرَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَب، وَكَانَ لَهُ مَا يُؤَدِّي، فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ".وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّد، عَنْ سُفْيَانَ، بِهِ(٣٥) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ﴾ يَعْنِي: كَالْأُجَرَاءِ وَالْأَتْبَاعِ الَّذِينَ لَيْسُوا بِأَكْفَاءَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ فِي عُقُولِهِمْ وَله وخَوَث(٣٦) ، وَلَا همَّ لَهُمْ إِلَى النِّسَاءِ وَلَا يَشْتَهُونَهُنَّ.قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمُغَفَّلُ الَّذِي لَا شَهْوَةَ لَهُ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الأبْلَه.وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ المخَنَّث الَّذِي لَا يَقُومُ زُبُّه. وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ.وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ يدخل على أهل رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، وَكَانُوا يعدونه من غير أولي الإربة، فدخل النبي ﷺ وَهُوَ ينَعت امْرَأَةً: يَقُولُ إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا، لَا يدخلَنّ عليكُنَ" فَأَخْرَجَهُ، فَكَانَ بِالْبَيْدَاءِ يَدْخُلُ يَوْمَ كُلِّ جُمُعَةٍ يَسْتَطْعِمُ(٣٧) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيْهَا [رَسُولُ اللَّهِ ﷺ](٣٨) وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ، وَعِنْدَهَا [أَخُوهَا](٣٩) عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ [وَالْمُخَنَّثُ يَقُولُ لِعَبْدِ اللَّهِ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ](٤٠) إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، فَعَلَيْكَ بِابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرْ(٤١) بِثَمَانٍ. قَالَ: فَسَمِعَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لِأُمِّ سَلَمَةَ: "لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكِ".أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، مِنْ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، بِهِ(٤٢) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَر، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رَجُلٌ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ مُخَنَّثٌ، وَكَانُوا يَعُدّونه مِنْ غير أولي الإربة، فدخل النبي صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً. فَقَالَ: إِنَّهَا إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "أَلَا أَرَى هَذَا يَعْلَمُ مَا هَاهُنَا؟ لَا يدخلَنَّ عَلَيْكُمْ هَذَا" فَحَجَبُوهُ.وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، بِهِ(٤٣) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ﴾ يَعْنِي: لِصِغَرِهِمْ لَا يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ مِنْ كَلَامِهِنَّ(٤٤) الرَّخِيمِ، وَتَعَطُّفِهِنَّ فِي الْمِشْيَةِ وَحَرَكَاتِهِنَّ، فَإِذَا كَانَ الطِّفْلُ صَغِيرًا لَا يَفْهَمُ ذَلِكَ، فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِهِ عَلَى النِّسَاءِ.فَأَمَّا إِنْ كَانَ مُرَاهِقًا أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، بِحَيْثُ يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ وَالْحَسْنَاءِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الحَمْو؟ قَالَ: "الحَمْو الْمَوْتُ".
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ كَانَتِ الْمَرْأَةُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَتْ(٤٥) تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ وَفِي رَجْلِهَا خَلْخَالٌ صَامِتٌ -لَا يُسْمَعُ صَوْتُهُ -ضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا الْأَرْضَ، فَيَعْلَمُ الرِّجَالُ طَنِينَهُ، فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنَاتِ عَنْ مَثَلِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ زِينَتِهَا مَسْتُورًا، فَتَحَرَّكَتْ بِحَرَكَةٍ لِتُظْهِرَ(٤٦) مَا هُوَ خَفِيٌّ، دَخَلَ فِي هَذَا النَّهْيِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ : وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهَا تُنْهَى عَنِ التَّعَطُّرِ وَالتَّطَيُّبِ عِنْدَ خُرُوجِهَا مِنْ بَيْتِهَا ليَشْتَمَّ(٤٧) الرِّجَالُ طِيبَهَا، فَقَدْ قَالَ أبو عيسى الترمذي: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ القَّطَّان، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُمَارة الْحَنَفِيِّ، عَنْ غُنَيْم بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "كُلُّ عَيْنٍ زَانِيَةٌ، وَالْمَرْأَةُ إِذَا اسْتَعْطَرَتْ فمرَّت بِالْمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وَكَذَا" يَعْنِي زَانِيَةً(٤٨) .قَالَ: وَفِي الْبَابِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا حَسَنٌ صَحِيحٌ.رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ ثَابِتِ بْنِ عُمَارَةَ،(٤٩) بِهِ.وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ عَاصِمِ بْنِ(٥٠) عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عُبَيْدٍ مَوْلَى أَبِي رُهْم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لقيتْه امْرَأَةٌ وَجَدَ مِنْهَا رِيحَ الطِيبِ، وَلِذَيْلِهَا إِعْصَارٌ فَقَالَ: يَا أَمَةَ الْجَبَّارِ، جِئْتِ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ لَهَا: [وَلَهُ](٥١) تَطَيَّبتِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ حِبِّي أَبَا الْقَاسِمِ(٥٢) ﷺ يَقُولُ: "لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ تَطَيبت لِهَذَا الْمَسْجِدِ، حَتَّى تَرْجِعَ فَتَغْتَسِلَ غُسلها مِنَ الْجَنَابَةِ".وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أبي شيبة، عن سُفْيَانَ -هُوَ ابْنُ عُيَيْنَةَ -(٥٣) بِهِ.وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ مُوسَى بْنِ عُبَيدة، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَالَ: "الرَّافِلَةُ فِي الزِّينَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا، كَمَثَلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا نُورَ لَهَا"(٥٤) .وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُنَّ يُنهَين عَنِ الْمَشْيِ فِي وَسَطِ الطَّرِيقِ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّبَرُّجِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ:حَدَّثَنَا القَعْنَبِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ -يَعْنِي: ابْنَ مُحَمَّدٍ -عَنْ(٥٥) أَبِي الْيَمَانِ، عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ حِمَاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ الْمَسْجِدِ -وَقَدِ اخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّسَاءِ فِي الطَّرِيقِ -فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِلنِّسَاءِ: "اسْتَأْخِرْنَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحْققْن(٥٦) الطَّرِيقَ، عَلَيْكُنَّ بِحَافَّاتِ الطَّرِيقِ"، فَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تُلْصَقُ بِالْجِدَارِ، حَتَّى إِنَّ ثَوْبَهَا لِيَتَعَلَّقُ بِالْجِدَارِ، مِنْ لُصُوقِهَا بِهِ(٥٧) .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أَيْ: افْعَلُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ، وَاتْرُكُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْأَخْلَاقِ وَالصِّفَاتِ الرَّذِيلَةِ، فَإِنَّ الفَلاح كُلَّ الفَلاح فِي فِعْلِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ، وَتَرْكِ مَا نَهَيَا(٥٨) عَنْهُ، والله تعالى هو المستعان [وعليه التكلان](٥٩) .

(١) في ف، أ: "وهذا".
(٢) في أ: "وعزة".
(٣) زيادة من ف، أ.
(٤) في أ: "أفعمياوان".
(٥) سنن أبي داود برقم (٤١١٢) وسنن الترمذي برقم (٢٧٧٨) .
(٦) صحيح البخاري برقم (٤٥٤) .
(٧) في أ: "وقوله".
(٨) زيادة من ف، أ.
(٩) زيادة من ف، أ.
(١٠) زيادة من ف، أ.
(١١) سنن أبي داود برقم (٤١٠٤) .
(١٢) في ف: "ظهرت".
(١٣) في هـ: "حدثنا أحمد بن شبيب" وفي ف، أ: "حدثنا أحمد بن شبيب قال" والمثبت من البخاري.
(١٤) في ف، أ: "قال".
(١٥) في ف: "بها" وفي أ: "بهن".
(١٦) صحيح البخاري برقم (٤٧٥٨) .
(١٧) في هـ، ف: "رضي الله عنها قالت: لما"،والمثبت من البخاري.
(١٨) صحيح البخاري برقم (٤٧٥٩) .
(١٩) في ف: "قرابته".
(٢٠) سنن أبي داود برقم (٤١٠٠، ٤١٠١) .
(٢١) تفسير الطبري (١٨/٩٤) وسنن أبي داود برقم (٤١٠٢) .
(٢٢) في أ: "بهرج".
(٢٣) في أ: "يتبعان".
(٢٤) صحيح البخاري برقم (٥٢٤١) .
(٢٥) في ف، أ: "فإنه لا".
(٢٦) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (٧/٩٥) من طريق سعيد بن منصور، به.
(٢٧) في ف: "تفسير".
(٢٨) في ف: "فليس"، وفي أ: "فلسن".
(٢٩) في أ: "جرير".
(٣٠) زيادة من ف، أ.
(٣١) في ف: "نبي الله".
(٣٢) سنن أبي داود برقم (٤١٠٦) .
(٣٣) زيادة من ف، أ.
(٣٤) تاريخ دمشق (٤/٢٧٨ "المخطوط") .
(٣٥) المسند (٦/٢٨٩) وسنن أبي داود برقم (٣٩٢٨) .
(٣٦) في ف، أ: "وحوب".
(٣٧) صحيح مسلم برقم (٢١٨١) وزيادة: "فأخرجه، فكان بالبيداء يدخل كل يوم جمعة.... الحديث" أخرجها أبو داود في السنن برقم (٤١٠٩) من طريق الزهري، به، وليست في صحيح مسلم.
(٣٨) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٣٩) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٤٠) زيادة من ف، أ، والمسند.
(٤١) في ف، أ: "وتذهب".
(٤٢) المسند (٦/٢٩٠) وصحيح البخاري برقم (٥٨٨٧) وصحيح مسلم برقم (٢١٨٠) .
(٤٣) المسند (٦/١٥٢) وصحيح مسلم برقم (٢١٨١) وسنن أبي داود برقم (٤١٠٨) والنسائي في السنن الكبرى (٩٢٤٧) .
(٤٤) في ف: "كلامهم".
(٤٥) في ف: "كانت المرأة إذا كانت في الجاهلية".
(٤٦) في ف: "ليظهر".
(٤٧) في أ: "ليشم".
(٤٨) سنن الترمذي برقم (٢٧٨٦) .
(٤٩) سنن أبي داود برقم (٤١٧٣) وسنن النسائي (٨/١٥٣) .
(٥٠) في ف: "عن".
(٥١) زيادة من ف، أ، وأبي داود.
(٥٢) في ف: "رسول الله".
(٥٣) سنن أبي داود برقم (٤١٧٤) وسنن ابن ماجه برقم (٤٠٠٢) .
(٥٤) سنن الترمذي برقم (١١٦٧) وقال الترمذي: "وهذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث من قبل حفظه وهو صدوق، وقد رواه بعضهم عن موسى بن عبيدة ولم يرفعه".
(٥٥) في ف: "ابن".
(٥٦) في ف: "تحتضن"، وفي أ: "تختص".
(٥٧) سنن أبي داود برقم (٥٢٧٢) .
(٥٨) في أ: "ما نهاه".
(٥٩) زيادة من ف، أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

السبت، 11 فبراير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٢٣_١٢٤
من سورة الأنعام 
﴿وَكَذَ ٰ⁠لِكَ جَعَلۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجۡرِمِیهَا لِیَمۡكُرُوا۟ فِیهَاۖ وَمَا یَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ (١٢٣) وَإِذَا جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَةࣱ قَالُوا۟ لَن نُّؤۡمِنَ حَتَّىٰ نُؤۡتَىٰ مِثۡلَ مَاۤ أُوتِیَ رُسُلُ ٱللَّهِۘ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ حَیۡثُ یَجۡعَلُ رِسَالَتَهُۥۗ سَیُصِیبُ ٱلَّذِینَ أَجۡرَمُوا۟ صَغَارٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعَذَابࣱ شَدِیدُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَمۡكُرُونَ (١٢٤)﴾ [الأنعام ١٢٣-١٢٤]

يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمَا جَعَلْنَا فِي قَرْيَتِكَ -يَا مُحَمَّدُ -أَكَابِرَ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَرُؤَسَاءَ وَدُعَاةً إِلَى الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِلَى مُخَالَفَتِكَ وَعَدَاوَتِكَ، كَذَلِكَ كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِكَ يُبْتَلون بِذَلِكَ، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا](١) ﴾ [الْفُرْقَانِ: ٣١] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا](٢) ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ١٦] ، قِيلَ: مَعْنَاهُ: أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَاتِ، فَخَالَفُوا، فَدَمَّرْنَاهُمْ. وَقِيلَ: أَمَرْنَاهُمْ أَمْرًا قَدَرِيًّا، كَمَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ قَالَ: سَلَّطنا شِرَارَهَا فَعَصَوْا فِيهَا، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: ﴿أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا﴾ قَالَ عُظَمَاؤُهَا.قُلْتُ: وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ [سَبَأٍ: ٣٤، ٣٥] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ: ٢٣] .وَالْمُرَادُ بِالْمَكْرِ هَاهُنَا دُعَاؤُهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ بِزُخْرُفٍ مِنَ الْمَقَالِ وَالْفِعَالِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ قَوْمِ نُوحٍ: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا﴾ [نُوحٍ: ٢٢] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] ﴾(٣) [سبأ: ٣١ -٣٣] .وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: كُلُّ مَكْرٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ عَمَلٌ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ أَيْ: وَمَا يَعُودُ وَبَالُ مَكْرِهِمْ ذَلِكَ وَإِضْلَالِهِمْ مَنْ أَضَلُّوهُ إِلَّا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، كَمْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ١٣] ، وَقَالَ ﴿وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النَّحْلِ: ٢٥] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أَيْ: إِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ وَبُرْهَانٌ وَحُجَّةٌ قَاطِعَةٌ، قَالُوا: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ أَيْ: حَتَّى تَأْتِيَنَا الْمَلَائِكَةُ مِنَ اللَّهِ بِالرِّسَالَةِ، كَمَا تَأْتِي إِلَى الرُّسُلِ، كَقَوْلِهِ، جَلَّ وَعَلَا ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا](٤) ﴾ [الْفَرْقَانِ: ٢١] .
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ حَيْثُ يَضَعُ رِسَالَتَهُ وَمَنْ يَصْلُحُ لَهَا مِنْ خَلْقِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك﴾ الْآيَةَ [الزُّخْرُفِ: ٣١، ٣٢] يَعْنُونَ: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ عَظِيمٍ كَبِيرٍ مُبَجَّلٍ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴿مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ﴾ أَيْ: مَكَّةَ وَالطَّائِفِ. وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ -قَبَّحَهُمُ اللَّهُ -كَانُوا يَزْدَرُونَ بِالرَّسُولِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، بَغْيًا وَحَسَدًا، وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُمْ: ﴿وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٣٦] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا﴾ [الْفُرْقَانِ: ٤١] ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ١٠] . هَذَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِفَضْلِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ. وَطَهَارَةِ بَيْتِهِ وَمَرْبَاهُ وَمَنْشَئِهِ، حَتَّى أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ: "الْأَمِينَ"، وَقَدِ اعْتَرَفَ بِذَلِكَ رَئِيسُ الْكُفَّارِ "أَبُو سُفْيَانَ" حِينَ سَأَلَهُ "هِرَقْلُ" مَلِكُ الرُّومِ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قَالَ: لَا الْحَدِيثُ بِطُولِهِ الَّذِي اسْتَدَلَّ بِهِ مَلِكُ الرُّومِ بِطَهَارَةِ(٥) صِفَاتِهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَلَى صِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ مَا جَاءَ بِهِ.وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصعب، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ شَدَّاد أَبِي عَمَّارٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي إِسْمَاعِيلَ بَنِي كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى مِنْ بَنِي كِنَانَةَ قُرَيْشًا، وَاصْطَفَى مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ".انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ -وَهُوَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو إِمَامُ أَهْلِ الشَّامِ، بِهِ نحوه(٦) .وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "بُعِثت مِنْ خَيْرِ قُرون بَنِي آدَمَ قَرْنًا فَقَرْنًا، حَتَّى بُعِثْتُ مِنَ الْقَرْنِ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ"(٧) .وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيم، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارث ابن نَوْفَلٍ، عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: بَلَغَهُ ﷺ بعضُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَقَالَ: "مَنْ أَنَا؟ ". قَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ فِرْقَتَيْنِ(٨) فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ فِرْقَةٍ، وَخَلَقَ الْقَبَائِلَ فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِ قَبِيلَةٍ. وَجَعَلَهُمْ بُيُوتًا فَجَعَلَنِي فِي خَيْرِهِمْ بَيْتًا، فَأَنَا خَيْرُكُمْ بَيْتًا وَخَيْرُكُمْ نَفْسًا"(٩) . صَدَقَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ.وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا الْمَرْوِيِّ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "قَالَ لِي جِبْرِيلُ: قَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ رَجُلًا أَفْضَلَ مِنْ مُحَمَّدٍ، وَقَلَّبْتُ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا فَلَمْ أَجِدْ بَنِي أَبٍ أَفْضَلَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ". رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ(١٠) . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْش، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ](١١) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ. ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ، فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ، يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ(١٢) .وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شُجاع بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ: ذَكَرَ قَابُوسُ بْنُ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ "يَا سَلْمَانُ، لَا تُبْغِضْنِي فَتُفَارِقَ دِينَكَ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ أبْغِضُك وَبِكَ هَدَانَا اللَّهُ؟ قَالَ: "تُبْغِضُ الْعَرَبَ فَتُبْغِضُنِي"(١٣) .وَذَكَرَ(١٤) ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الْجَوَازُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: أَبْصَرَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَدْخُلُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا نَظَرَ إليه راعه، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ عَبَّاسٍ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ [بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ] ﴾(١٥) هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ مِنَ اللَّهِ وَتَهْدِيدٌ أَكِيدٌ، لِمَنْ تَكَبَّرَ عن اتباع رسله والانقياد لهم(١٦) فيما جاؤوا بِهِ، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ﴿صَغَارٌ﴾ وَهُوَ الذِّلَّةُ الدَّائِمَةُ، لَمَّا(١٧) أَنَّهُمُ اسْتَكْبَرُوا أَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ ذُلا كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غَافِرٍ: ٦٠] أَيْ: صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ حَقِيرِينَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ﴾ لَمَّا كَانَ الْمَكْرُ غَالِبًا إِنَّمَا يَكُونُ خَفِيًّا، وَهُوَ التَّلَطُّفُ فِي التَّحَيُّلِ وَالْخَدِيعَةِ، قُوبِلُوا بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ جَزَاءً وِفَاقًا، ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ٤٩] ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ﴾ [الطَّارِقِ: ٩] أَيْ: تَظْهَرُ الْمُسْتَتِرَاتُ وَالْمَكْنُونَاتُ وَالضَّمَائِرُ. وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ: "يُنْصَب لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسُتِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرة فَلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ"(١٨) .وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْغَدْرُ خَفِيَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصِيرُ عَلَمًا مَنْشُورًا عَلَى صَاحِبِهِ بما فعل.

(١) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٢) زيادة من م، أ، وفي هـ: الآية".
(٣) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٤) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(٥) في أ: "بظاهر".
(٦) المسند (٤/١٠٧) وصحيح مسلم برقم (٢٢٧٦) .
(٧) صحيح البخاري برقم (٣٥٥٧) .
(٨) في م، أ: "فريقين".
(٩) المسند (١/٢١٠) .
(١٠) دلائل النبوة للبيهقي (١/١٧٦) من طريق موسى بن عبيدة، عن عمرو بن عبد الله، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ به، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٥١١) "مجمع البحرين" من طريق موسى بن عبيدة الربذي به. قال الهيثمي في المجمع (٨/٢١٧) : "فيه موسى بن عبيدة االربذي وهو ضعيف".
(١١) زيادة من أ.
(١٢) المسند (١/٣٧٩) .
(١٣) المسند (٥/٤٤٠) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٩٢٧) والحاكم في المستدرك (٤/٨٦) والطبراني في المعجم الكبير (٦/٢٣٨) من طريق شجاع بن الوليد عن قابوس به. قال الترمذي: "حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ أبي بدر شجاع بن الوليد، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو ظبيان لم يدرك سلمان، مات سلمان قبل علي".
(١٤) في م، أ: "وقال".
(١٥) زيادة من م، أ. وفي هـ: "الآية".
(١٦) في أ: "إليهم".
(١٧) في أ: "كما".
(١٨) رواه البخاري في صحيحه برقم (٧١١١) ومسلم في صحيحه برقم (١٧٣٥) من حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عنه.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 8 فبراير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١١٨_١١٩ 
من سورة الأنعام 
﴿فَكُلُوا۟ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ إِن كُنتُم بِـَٔایَـٰتِهِۦ مُؤۡمِنِینَ (١١٨) وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَیۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَیۡهِۗ وَإِنَّ كَثِیرࣰا لَّیُضِلُّونَ بِأَهۡوَاۤىِٕهِم بِغَیۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِینَ (١١٩)﴾ [الأنعام ١١٨-١١٩]

هَذَا(١) إِبَاحَةٌ مِنَ اللَّهِ [تَعَالَى](٢) لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الذَّبَائِحِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَمَفْهُومُهُ: أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا كَانَ يَسْتَبِيحُهُ كُفَّارُ(٣) الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَكْلِ(٤) الْمَيْتَاتِ، وَأَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَغَيْرِهَا. ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أَيْ: قَدْ بَيَّن لَكُمْ مَا حَرم عَلَيْكُمْ وَوَضَّحَهُ.وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: ﴿فَصَّلَ﴾ بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ آخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى الْبَيَانِ وَالْوُضُوحِ.﴿إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾ أَيْ: إِلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَكُمْ مَا وَجَدْتُمْ.ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، مِنِ اسْتِحْلَالِهِمُ الْمَيْتَاتِ، وَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى: فَقَالَ ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِاعْتِدَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وَافْتِرَائِهِمْ.

(١) في م: "هذه".
(٢) زيادة من م، وفي أ: "عز وجل".
(٣) في أ: "كفار قريش".
(٤) في م: "أجل".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

خواطر الشيخ محمد الشعراوي

https://m.facebook.com/groups/1656720227912324/permalink/3282270442023953/?mibextid=Nif5oz

السبت، 4 فبراير 2023

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٩_١١٠
من سورة الأنعام 
﴿وَأَقۡسَمُوا۟ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَیۡمَـٰنِهِمۡ لَىِٕن جَاۤءَتۡهُمۡ ءَایَةࣱ لَّیُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡـَٔایَـٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا یُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَاۤ إِذَا جَاۤءَتۡ لَا یُؤۡمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفۡـِٔدَتَهُمۡ وَأَبۡصَـٰرَهُمۡ كَمَا لَمۡ یُؤۡمِنُوا۟ بِهِۦۤ أَوَّلَ مَرَّةࣲ وَنَذَرُهُمۡ فِی طُغۡیَـٰنِهِمۡ یَعۡمَهُونَ (١١٠)﴾ [الأنعام ١٠٩-١١٠]

يَقُولُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنِ الْمُشْرِكِينَ: إِنَّهُمْ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ، أَيْ: حَلَفُوا أَيْمَانًا مُؤَكَّدَةً ﴿لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ﴾ أَيْ: مُعْجِزَةٌ وَخَارِقٌ، ﴿لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾ أَيْ: لَيُصَدِّقُنَّهَا، ﴿قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْأَلُونَكَ الْآيَاتِ تَعَنُّتًا وَكُفْرًا وَعِنَادًا، لَا عَلَى سَبِيلِ الْهُدَى وَالِاسْتِرْشَادِ: إِنَّمَا مَرْجِعُ(١) هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ أَجَابَكُمْ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَكُمْ، كَمَا قَالَ، قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:حَدَّثَنَا هَنَّاد(٢) حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْر، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَر، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِي قَالَ: كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُرَيْشًا، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، تُخْبِرُنَا أَنَّ مُوسَى كَانَ مَعَهُ عَصًا يَضْرِبُ بِهَا الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ عِيسَى كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، وَتُخْبِرُنَا أَنَّ ثَمُودَ كَانَتْ لَهُمْ نَاقَةٌ، فَأْتِنَا مِنَ الْآيَاتِ حَتَّى نُصَدِّقَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أي شَيْءٍ تُحِبُّونَ أَنْ آتِيَكُمْ بِهِ؟ ". قَالُوا: تَجْعَلُ لَنَا الصَّفَا ذَهَبًا. فَقَالَ لَهُمْ: "فَإِنْ فَعَلْتُ تُصَدِّقُونِي؟ ". قَالُوا: نَعَمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتَ لَنَتَّبِعُكَ أَجْمَعِينَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُو، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ لَهُ: لَكَ مَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَصْبَحَ الصَّفَا ذَهَبًا، وَلَئِنْ أُرْسِلَ آيَةً فَلَمْ يُصَدِّقُوا عِنْدَ ذَلِكَ لَيُعَذِّبَنَّهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْهُمْ حَتَّى يَتُوبَ تَائِبُهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ [ﷺ](٣) بَلْ يَتُوبُ تَائِبُهُمْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾(٤) إِلَى قَوْلِهِ [تَعَالَى](٥) ﴿يَجْهَلُونَ﴾وَهَذَا مُرْسَلٌ(٦) وَلَهُ شَوَاهِدُ مِنْ وُجُوهٍ أُخَرَ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ [وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا](٧) ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٥٩] .
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ قِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِ ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ الْمُشْرِكُونَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ بِصِدْقِكُمْ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ الَّتِي تُقْسِمُونَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا فَالْقِرَاءَةُ: "إِنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ" بِكَسْرِ "إِنَّهَا" عَلَى اسْتِئْنَافِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ بِنَفْيِ الْإِيمَانِ عِنْدَ مَجِيءِ الْآيَاتِ الَّتِي طَلَبُوهَا، وَقِرَاءَةُ(٨) بَعْضِهِمْ: "أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا تُؤْمِنُونَ" بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ.وَقِيلَ: الْمُخَاطَبُ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمَا يُشْعِرُكُمْ﴾ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ فِي(٩) ﴿أَنَّهَا﴾ الْكَسْرُ كَالْأَوَّلِ وَالْفَتْحُ عَلَى أَنَّهُ مَعْمُولُ يُشْعِرُكُمْ. وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ "لَا" فِي قَوْلِهِ: ﴿أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ صِلَةً كَمَا فِي قَوْلِهِ: ﴿مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٢] ، وَقَوْلُهُ ﴿وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٥] . أي: ما منعك أن تسجد إذ أَمَرْتُكَ وَحَرَامٌ أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَتَقْدِيرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَا يُدْرِيكُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ تَوَدُّونَ لَهُمْ ذَلِكَ حِرْصًا عَلَى إِيمَانِهِمْ -أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ يُؤْمِنُونَ(١٠)وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "أَنَّهَا" بِمَعْنَى لَعَلَّهَا.قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَذَكَرُوا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ. قَالَ: وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْعَرَبِ سَمَاعًا: "اذْهَبْ إِلَى السُّوقِ أَنَّكَ تَشْتَرِي لِي(١١) شَيْئًا" بِمَعْنَى: لَعَلَّكَ تَشْتَرِي.قَالَ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَ عَدِيِّ بْنِ زَيْدٍ الْعَبَّادِيِّ مِنْ هَذَا:أَعَاذِلُ مَا يُدْريك أَنَّ مَنيَّتي ... إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الغَد(١٢)وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ وَذَكَرَ عَلَيْهِ شَوَاهِدَ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ وَاللَّهُ [تَعَالَى](١٣) أَعْلَمُ.
* * *وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ قَالَ العَوفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَمَّا جَحَدَ الْمُشْرِكُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَمْ تَثْبُتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى شَيْءٍ ورُدَّت عَنْ كُلِّ أَمْرٍ.وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ] ﴾(١٤) وَنَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، فَلَا يُؤْمِنُونَ، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ.وَكَذَا قَالَ عِكْرِمة وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ.وَقَالَ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَ اللَّهُ مَا الْعِبَادُ قَائِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوهُ وَعَمَلَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهُ. قَالَ: ﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فَاطِرَ: ١٤] ، [وَقَالَ](١٥)﴿أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ](١٦) لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزُّمَرِ: ٥٦ -٥٨] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَوْ رُدُّوا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْهُدَى، وَقَالَ: ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٢٨] ، وَقَالَ ﴿وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ قَالَ: لَوْ رُدُّوا إِلَى الدُّنْيَا لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى، كَمَا حُلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقَوْلُهُ: ﴿وَنَذَرُهُمْ﴾ أَيْ: نَتْرُكُهُمْ ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾(١٧) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ والسُّدِّي: فِي كُفْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: فِي ضَلَالِهِمْ.﴿يَعْمَهُونَ﴾ قَالَ الْأَعْمَشُ: يَلْعَبُونَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالرَّبِيعُ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَغَيْرُهُ: فِي كفرهم يترددون.

(١) في م، أ: "ترجع".
(٢) في م: "هناد بن السرى".
(٣) زيادة من م، أ.
(٤) في أ: "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ ليؤمنن بها".
(٥) زيادة من م.
(٦) تفسير الطبري (١٢/٣٨) .
(٧) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(٨) في م: "وقرأ".
(٩) في م، أ: "في قوله".
(١٠) في م: "لا يؤمنون".
(١١) في أ: "لنا".
(١٢) تفسير الطبري (١٢/٤١)
(١٣) زيادة من أ.
(١٤) زيادة من أ.
(١٥) زيادة من أ.
(١٦) زيادة من م، أ، وفي هـ: "إلى قوله".
(١٧) في م، أ: "فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ".

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

من سورة الأنعام

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ١٠٦_١٠٧
من سورة الأنعام 
﴿ٱتَّبِعۡ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ (١٠٦) وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَاۤ أَشۡرَكُوا۟ۗ وَمَا جَعَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظࣰاۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِوَكِیلࣲ (١٠٧)﴾ [الأنعام ١٠٦-١٠٧]

يَقُولُ تَعَالَى آمِرًا لِرَسُولِهِ(١) ﷺ وَلِمَنِ اتَّبع طَرِيقَتَهُ: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ أَيِ: اقْتَدِ بِهِ، وَاقْتَفِ أَثَرَهُ، وَاعْمَلْ بِهِ؛ فَإِنَّ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْية فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ.﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ أَيِ: اعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ، وَاحْتَمِلْ أَذَاهُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ وَيَنْصُرَكَ وَيُظْفِرَكَ عَلَيْهِمْ.وَاعْلَمْ أَنَّ لِلَّهِ حِكْمَةً فِي إِضْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُ لَوْ شَاءَ لَهَدَى النَّاسَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا [وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى](٢)﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ أَيْ: بَلْ لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْحِكْمَةُ فِيمَا يَشَاؤُهُ وَيَخْتَارُهُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
* * *وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ أَيْ: حَافِظًا تَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَأَقْوَالَهُمْ ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ أَيْ: مُوَكَّلٍ عَلَى أَرْزَاقِهِمْ وَأُمُورِهِمْ ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ﴾ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ [الْغَاشِيَةِ: ٢١، ٢٢] ، وَقَالَ ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾ [الرَّعْدِ:٤٠]

(١) في أ: "رسوله".
(٢) زيادة من م، أ.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))

الأربعاء، 1 فبراير 2023

من سورة الروم

صدقة جارية 
تفسير اية رقم ٥٨_٦٠
من سورة الروم 
﴿وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِی هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلࣲۚ وَلَىِٕن جِئۡتَهُم بِـَٔایَةࣲ لَّیَقُولَنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُبۡطِلُونَ (٥٨) كَذَ ٰ⁠لِكَ یَطۡبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلَّذِینَ لَا یَعۡلَمُونَ (٥٩) فَٱصۡبِرۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّۖ وَلَا یَسۡتَخِفَّنَّكَ ٱلَّذِینَ لَا یُوقِنُونَ (٦٠)﴾ [الروم ٥٨-٦٠]

يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ أَيْ: قَدْ بَيَّنَّا لَهُمُ الْحَقَّ، وَوَضَّحْنَاهُ لَهُمْ، وَضَرَبْنَا لَهُمْ فِيهِ الْأَمْثَالَ لِيَتَبَيَّنُوا الْحَقَّ وَيَتَّبِعُوهُ. ﴿وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُبْطِلُونَ﴾ أَيْ: لَوْ رَأَوْا أَيَّ آيَةٍ كَانَتْ، سَوَاءً كَانَتْ بِاقْتِرَاحِهِمْ أَوْ غَيْرِهِ، لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا سِحْرٌ وَبَاطِلٌ، كَمَا قَالُوا فِي انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَنَحْوِهِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ](١) تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ﴾ [يُونُسَ: ٩٦، ٩٧] ؛ وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ. فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أَيِ: اصْبِرْ عَلَى مُخَالَفَتِهِمْ وَعِنَادِهِمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مُنْجِزٌ لَكَ مَا وَعَدَكَ مِنْ نَصْرِهِ إِيَّاكَ، وَجَعْلِهِ الْعَاقِبَةَ لَكَ وَلِمَنِ اتَّبَعَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ﴿وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ أَيْ: بَلِ اثْبُتْ عَلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ، فَإِنَّهُ الْحَقُّ الَّذِي لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا تَعْدِلْ عَنْهُ وَلَيْسَ فِيمَا سِوَاهُ هُدَى يُتَّبَعُ، بَلِ الْحَقُّ كُلُّهُ مُنْحَصِرٌ فِيهِ.قَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ -صلاة الْغَدَاةِ -فَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزُّمَرِ: ٦٥] ، فَأَنْصَتَ لَهُ عَلِيٌّ حَتَّى فَهِمَ مَا قَالَ، فَأَجَابَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ . رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَقَالَ:حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنْ شَرِيك، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي زُرْعَة، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: نَادَى رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَقَالَ: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾(٢) .طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، أَخْبَرَنَا شَرِيكٌ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ ظَبْيان، عَنْ أَبِي تَحْيَا قَالَ: صَلَّى عَلِيٌّ(٣) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، صَلَاةَ الْفَجْرِ، فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ ، فَأَجَابَهُ عَلِيٌّ(٤) ، وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ﴾ .[مَا رُوِيَ فِي فَضْلِ هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ، وَاسْتِحْبَابِ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَجْرِ](٥) :قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، سمعت شبيب -أَبَا رَوْحٍ -يحدِّث عَنْ رَجُلٍ(٦) مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلَّى بِهِمُ الصُّبْحَ، فَقَرَأَ فِيهَا الرُّومُ فَأُوهِمَ، فَقَالَ: "إِنَّهُ يُلَبَّسُ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ، فَإِنَّ أَقْوَامًا مِنْكُمْ يُصَلُّونَ مَعَنَا لَا يُحْسِنُونَ الْوُضُوءَ، فَمَنْ شَهِدَ الصَّلَاةَ مَعَنَا فَلْيُحْسِنِ الْوُضُوءَ"(٧) .وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ وَمَتْنٌ حَسَنٌ(٨) وَفِيهِ سِرٌّ عَجِيبٌ، وَنَبَأٌ غَرِيبٌ، وَهُوَ أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ(٩) تَأَثَّرَ بِنُقْصَانِ وُضُوءِ مَنِ ائْتَمَّ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ مُتَعَلِّقَةٌ(١٠) بِصَلَاةِ الْإِمَامِ.[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "الرُّومِ"](١١) . _

(١) زيادة من أ.
(٢) تفسير الطبري (٢١/٣٨) .
(٣) في ف، أ: "علي بن أبي طالب".
(٤) في ف، أ: "علي بن أبي طالب".
(٥) زيادة من ف، أ.
(٦) في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن رجل".
(٧) المسند (٣/٤٧١) .
(٨) في ت: "إسناده حسن ومتنه حسن".
(٩) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(١٠) في هـ: "معدوقة".
(١١) زيادة من ت.

(تفسير ابن كثير — ابن كثير (٧٧٤ هـ))