C:\Documents and Settings\Administrator\Local Settings\Temp\0315212800000af4qzpdoeqqkx تفسير القرآن الكريم Exegesis of Holy QuranE
التفسير في عهد الرسول
مصادر التفسير في عصر الصحابة
القرآن الكريم
النبي
ابن كثير ومصادر التفسير
التفسير في عصر التدوين
مدارس التفسير
التفسير بالمأثور
التفسير بالرأي
التفسير في العصر الحديث
مذاهب التفسير في العصر الحديث
أدوات المفسر
اللغة
النحو
علم التصريف
علوم المعاني والبيان والبديع
علم القراءات
علم أصول الدين
علم أصول الفقه
علم أسبا ب النزول
علم الناسخ والمنسوخ
علم الفقه
علم الحديث والسنن
الموهبة
علم الاشتقاق
أسئلة
--------------------------------------------------------------------------------
تفسير القرآن الكريم أحد العلوم الشرعية الأساسية، لأنه يتعلق بالقرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى هداية للناس، ورحمة ونورا يبحث في معاني كلام الله، ومحكم آياته. وقد أمر الله الناس بتدبر آياته، وتفهم معانيه، ومعرفة أحكامه ليدركوا عظمة الله تعالى وفضله عليهم، وليقوموا بما أمرهم به، ويجتنبوا ما نهاهم عنه. قال تعالى: ﴿كتاب أنزلناه إليك مباركٌ ليدَّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب﴾ ص: 29. وقال تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ النساء : 82.
والتفسير في اللغة يعني الإيضاح والتبيين لقوله تعالى: ﴿ولا يأتونك بمَثَلٍ إلا جئناك بالحق وأَحَسَن تفسيرًا ﴾ الفرقان : 33. أي بيانًا وتفصيلاً. وفي الاصطلاح الشرعي للتفسير عدة تعريفات تعود كلها إلى مفهوم واحد، وهو أنه المبين لألفاظ القرآن الكريم ومفاهيمها. وعرَّفه الزركشي بأنه ¸علم يبحث فيه عن أحوال القرآن المجيد، من حيث دلالته على مراد الله تعالى، بقدر الطاقة البشرية·.
يهدف علم التفسير إلى فهم كتاب الله تعالى، واستنباط الأحكام الشرعية بوجه صحيح، ومعرفة المنهج الإلهي القويم، والتذكير بحق الله تعالى على عباده، وإنقاذهم من شرك الضلال، وشباك الشيطان، والاطلاع على حقيقة الكون والإنسان والحياة لقوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ الإسراء : 9.
ويرتبط علم التفسير بالكثير من العلوم العربية والشرعية، وهي: علم النحو والصرف والاشتقاق والمعاني والبديع والبيان والقراءات وأصول الدين، وأصول الفقه وأسباب النزول والقصص والناسخ والمنسوخ، والفقه والسنة والأحاديث الشريفة المبينة للمجمل والمبهم، بالإضافة إلى الموهبة التي يمنحها الله لمن شاء من عباده، مع إخلاص النية وصحة الاعتقاد.
التفسير في عهد الرسول ³
لقد أنزل الله تعالى كتابه الكريم بلسان عربي مبين على نبيه الأمين ³ وأمره بالبيان والتبليغ ليكون للعالمين بشيرًا ونذيرًا. قال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ النحل: 44. ولقد كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي ³ بالقرآن وبالسنة المفسرة له، كما قال تعالى: ﴿وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ النساء: 113. ولقد تكفل الله ببيان كتابه، وكلف نبيه إبلاغ هذا البيان ولقد كان عليه الصلاة والسلام يبلغ ما أنزل إليه من ربه، فيبين عن الله لأصحابه ما دعت الحاجة إليه من ألفاظ القرآن الكريم، ولم يترك شيئًا تحتاجه أمته في أمر دينها أو دنياها إلا وبّينه عن الله وفسره أحسن تفسير وبيان. وهنا مسألة جديرة بالاهتمام ألا وهي: هل بيّن الرسول ³ جميع القرآن أو بعضه؟ وللعلماء في هذه المسألة رأيان هما: 1- أن النبي ³ بيَّن جميع معاني القرآن لأصحابه كما بّين لهم كذلك ألفاظه. 2- أن الرسول ³ لم يبّين لأصحابه من معاني القرآن إلا القليل.
ومن يتدبر معاني القرآن في كتب التفسير بالمأثور يجد أن النبي ³ لم يبيّن جميع القرآن، كما أنه لم يكتف ببيان القليل منه كما يرى بعضهم.
إذن فالرأي المرجح أن الرسول ³ بيّن ـ لأصحابه عن الله ـ الكثير من معاني القرآن الكريم، كما تشهد بذلك كتب الصحاح وغيرها ولم يبيّن كل القرآن. ومن الأسباب التي دعت إلى هذا أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يكونوا يتكلفون الأسئلة، وكانوا يتهيبون مقام النبي ³، كما أنهم قد تأدبوا بآداب القرآن الكريم الذي يدعوهم فيه رب العالمين إلى أدب السؤال، بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين يُنزَّل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم¦قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين﴾ المائدة : 101، 102.
فلم يكونوا رضي الله عنهم يبتدرون الرسول ³ بالسؤال حتى يبتدرهم هو ببيان ما يحتاجونه في دينهم وغيره. ولذلك كانوا ـ رضي الله عنهم ـ يحبون أن يأتي الرجل اللبيب من الأعراب، فيسأل الرسول ³ عما يريد والرسول ³ يجيبه عن كل شيء، ولا يعنف عليه. فمن هنا كان الصحابة رضي الله عنهم يستفيدون من هذه المجالسة وهذا الحوار بين الأعرابي اللبيب والرسول الرحيم.
فكان الرسول ³ يبّين لأصحابه ما أشكل عليهم من فهم القرآن ويترك ما يفهمونه بالسليقة العربية. لذا قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فيما أخرجه عنه ابن جرير الطبري في تفسيره: (التفسير على أربعة أوجه، وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله).
ومن البديهي أن الرسول ³ لم يفسر لأصحابه ما يرجع فهمه إلى لغة العرب؛ لأن القرآن الكريم إنما نزل بلغتهم، وكذا لم يفسر لهم من القرآن ما يتبادر إلى الأذهان فهمه، وكذا ما استأثر الله تعالى بعلمه كقيام الساعة، وحقيقة الروح، وفواتح بعض السور، وغيرها من عالم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله وحده. ولذا نجد أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانت أفهامهم تتفاوت في فهم القرآن الكريم، كما نجد أن بعضهم قد أشكل عليه من القرآن ما لم يستيقن بمراد الله منه، أو ما لم يَؤْثرُ عن النبي ³ علمًا فيه. ويشهد لهذا ما أخرجه أبو عبيدة في الفضائل عن أنس ـ رضي الله عنه: أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قرأ على المنبر: ﴿وفاكهة وأبًا﴾ عبس : 31. فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها فما الأبّ؟، ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو التكلف يا عمر. وقد عقب ابن كثير على هذا الأثر بقوله: وهذا محمول على أنه رضي الله عنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه ثم أضاف ابن كثير: وإلا فكونه نبتا من الأرض ظاهر لا يجهل.
وقرأ كذلك على المنبر: ﴿أو يأخذهم على تخوُّف﴾ النحل : 47. ثم سأل عن معنى التخوف، فقال رجل من هذيل: التخوف عندنا التنقص. وكذا ما أخرجه أبو عبيدة بسنده عن ابن عباس ـ رضي الله عنه، قال: كنت لا أدري ما ﴿فاطر السماوات﴾ الشورى: 11. حتى أتاني أعرابيان يتخاصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها والآخر يقول: أنا ابتدأتها.
وهذا خلاف ما ذهب إليه العلامة ابن خلدون في مقدمته حيث يقول: إن القرآن نزل بلغة العرب، وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه.
مصادر التفسير في عصر الصحابة
القرآن الكريم. الناظر في القرآن الكريم يجد أنه قد اشتمل على الإيجاز والإطناب، وعلى الإجمال والتبيين، وعلى الإطلاق والتقييد، وعلى العموم والخصوص. وما أوجز في مكان قد يُبسط في مكان آخر، وما أجمل في موضع قد يُبين في موضـع آخر، وما جاء مطلقًا في ناحيـة قد يلحقه التقييد في ناحية أخرى، وما كان عامًا في آية قد يدخله التخصيص في آية أخرى.
ولهذا كان لابد لمن يتعرض لتفسير كتاب الله تعالى أن ينظر في القرآن أولاً، فيجمع ما تكرر منه في موضع واحد، ويقابل الآيات بعضها ببعض، ليستعين بها على ما ذكر.
النبي ³،كان المصدر الثاني الذي رجع إليه الصحابة في تفسيرهم لكتاب الله تعالى، فكان الصحابي إذا أشكلت عليه آية من كتاب الله رجع إلى رسول الله ³ في تفسيرها، فيبين له عن الله ما خفي عليه، لأن وظيفته البيان، كما أخبر الله عنه بذلك في كتابه العزيز حيث قال: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ النحل : 44.
كما نبه على ذلك رسول الله ³ فيما أخرجه أبو داود في سننه بإسناد صحيح، أن الرسول ³ قال: ( ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه) . والمثلية للقرآن في شيئين: الأول أن السنة وحي كالقرآن والثاني أن السنة واجبة الاتباع ـ إذًا ـ كالقرآن.
ابن كثير ومصادر التفسير. وقد أجمل ابن كثير القول في مصادر التفسير وطرقه، مقدمًا بذلك لتفسيره حيث قال: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب أن أصح الطرق في ذلك أن يُفسر القرآن بالقرآن؛ فما أجمل في مكان فإنه قد بسط في موضع آخر، فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن وموضحة له، بل قد قال الإمام أبو عبدالله محمد بن إدريس الشافعي، رحمه الله تعالى، كل ما حكم به رسول الله ³ فهو مما فهمه من القرآن، قال الله تعالى: ﴿إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما﴾ النساء: 105. وقال تعالى: ﴿وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ النحل: 64. وقال تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون﴾ النحل: 44. ولهذا قال رسول الله ³ (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه) يعني السنة، والسنة أيضًا تنزل عليه بالوحي، كما ينزل القرآن إلا أنها لا تتلى كما يتلى القرآن.
ثم قال ابن كثير والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله ³ لمعاذ حين بعثه إلى اليمن، (فبم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله ³ في صدره وقال: ) الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. قال ابن كثير وهذا الحديث في المسند والسنن بإسناد جيد كما هو مقرر في موضعه. ثم قال وحينئذ إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم والعلم الصحيح، والعمل الصالح لا سيما علماءهم وكبراءهم كالائمة الأربعة والخلفاء الراشدين والأئمة المهتدين المهديين وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهم.
ثم أورد قول مسروق، قال عبدالله بن مسعود: والله الذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت، وأين نزلت ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته. ومنهم البر البحر عبدالله بن عباس ابن عم رسول الله ³ وترجمان القرآن، ببركة دعاء رسول الله ³ له حيث قال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) .
ثم قال ابن كثير إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين كمجاهد بن جبر؛ فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحق: حدثنا أبان بن صالح؛ عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات من فاتحته إلى خاتمته أوقفه عند كل آية منها وأسأله عنها ثم أورد رواية ابن جرير عن ابن أبي مليكة قال: رأيت مجاهدًا سأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، قال: فيقول له ابن عباس: اكتب، حتى سأله عن التفسير كله. ولهذا كان سفيان الثوري يقول: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك! وكسعيد بن جبير وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري... وغيرهم من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم، فتذكر أقوالهم في الآية فيقع في عبارتهم تباين في الألفاظ يحسبها من لا علم عنده اختلافًا فيحكيها أقوالاً وليس كذلك فإن منهم من يعبر عن الشيء بلازمه أو بنظيره، ومنهم من ينص على الشيء بعينه والكل بمعنى واحد في أكثر الأماكن فليتفطن اللبيب لذلك.
وأفاد ابن كثير ـ بعد هذا ـ أن التابعين إذا أجمعوا على الشيء فلا يُرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض ولا على من بعدهم ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك.
ثم قال: فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام؛ لما رواه الترمذي وأصحاب السنن بإسناد حسن من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله ³ قال: (من قال في القرآن برأيه، أو بما لا يعلم فليتبوأ مقعده من النار) . وهذا الذي رآه ابن كثير وساق له ما رواه إنما يعني به الرأي الذي يطرح هذه المصادر، ثم ينساق وراء الفكر الشخصي أو الاتجاه المذهبي أو التعصب الطائفي ليقول عن الله ورسوله ما يصادم ما جاء عن الله ورسوله في القرآن والسنة وفيما أثر الصحابة والتابعون عن الله ورسوله.
فأما الاجتهاد بمعنى قوة الاستنباط ودقة الاستنتاج في فهم كتاب الله وبيانه وفيما لم يرد فيه نص صريح في كتاب أو سنة وبما لا يعارض نصًّا في القرآن ولا في السنة، ولا إجماعًا للصحابة والتابعين فهو أمر واجب لأن التفقه في الدين أمر واجب، ولأن تعلم تأويل الكتاب أمر لازم ما دام ذلك الاجتهاد في إطار ما جاء عن الله ورسوله وما دام ملتزمًا بقواعد الكتاب والسنة وما دام معتمدًا أول الأمر وآخره على الكتاب وصحيح السنة دون تناقض أو معارضة.
فأما أن يكون الرأي في تفسير القرآن فيما ورد فيه تفسير مخالف في القرآن والسنة أو فيما يتعارض مع ما جاء عن الله ورسوله فذلك هو الضلال البعيد وهذا هو المعيار الذي يقاس به أي تفسير، فكل ما وافق ما جاء عن الله ورسوله، واعتمد على ما جاء عن الله ورسوله فهو التفسير وما لا فلا.
التفسير في عصر التدوين
هذه المرحلة هي الثالثة من مراحل التفسير بعد مرحلتي عهد النبي ³ وصحابته، وعهد التابعين، وتبدأ من ظهور التدوين وذلك في أواخر عهد دولة بني أمية وأول عهد دولة العباسيين. وقد كان التفسير قبل هذه المرحلة يتناقل بطريق الرواية؛ فقد رواه الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ عن الرسول ³ كما رواه بعضهم عن بعض، ثم رواه التابعون عن الصحابة وكذا بعضهم عن بعض.
ولما بدأ عهد التدوين لحديث الرسول ³ كان التفسير ضمن أبوابه، ولم يكن التفسير عندها مفردًا بالتأليف سورة سورة وآية آية، بل كان بابًا من أبواب الحديث التي اجتهد العلماء لجمعها، ونقبوا في الأمصار لتدوينها، فكان من أثر هذه الرحلات الميمونة للعلماء أن جُمع إلى جانب الحديث قسط لا بأس به من التفسير المسند إلى رسول الله ³ أو إلى الصحابة أو التابعين.
ومن هؤلاء العلماء الذين قاموا بهذا الجهد العظيم في الجمع والتدوين: يزيد بن هارون السُّلمي المتوفَّى سنة 117هـ، وشعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160هـ، ووكيع ابن الجراح المتوفى 197هـ، وسفيان بن عيينة المتوفى سنة 198هـ، وعبد الرزاق بن همام المتوفى في 211هـ. غير أن هذا الأخير استطاع أن يجمع إلى جوار حديث الرسول ³ تفسيرًا واسعًا يعتبر من أوائل التفاسير التي كتبت في عصر التدوين، وما يزال هذا التفسير مخطوطًا، وتوجد قطعة منه في دار الكتب المصرية. ويشهد لهذا أن الطحاوي قد رجع إليه كثيرًا في كتابه مشكل الآثار. خطا العلماء بالتفسير خطوة أخرى استطاعوا بها أن يفصلوا التفسير عن الحديث، وبذلك أصبح هذا اللون من العلم، علمًا قائمًا بذاته يتناول كل آية من القرآن، ومرتبًا كذلك على سور المصحف. ومن هؤلاء الذين نهضوا بهذا العلم على هذا النحو: عبد الرزاق بن هَمَّام ـ كما سبق أن ذكرنا ـ وابن ماجة المتوفى في 273هـ، وابن جرير الطبري المتوفى في 310هـ، وأبو بكر بن المنذر النيسابوري المتوفى في 318هـ، وابن أبي حاتم المتوفى في 327هـ، والحاكم المتوفى في 405هـ وغيرهم من العلماء في هذا الشأن.
أما منهج هؤلاء المفسرين المذكورين في تأليفهم لكتب التفسير، فإنه كان على طريق الرواية بالإسناد إلى الرسول ³ أو الصحابة ـ رضوان الله عنهم ـ والتابعين وتابعي التابعين، أي كان يغلب عليه التفسير بالمأثور، إلا ما كان من ابن جرير الطبري، فإنه كان يذكر بعض الأقوال، ويرجح بعضها على بعض، كما كان يعنى باستخراج الأحكام من الآية، وكذا أمور الإعراب والاستشهاد بأشعار العرب وكلامهم إذا دعت لذلك الحاجة. وهنا مسألة مهمة تجدر الإشارة إليها وهي: مَن أول مَن كتب في التفسير على هذا النحو؟ فنجد ابن النديم في كتابه الفهرست يذهب إلى أن الفراء المتوفى في 207هـ هو أول من فسر القرآن مبتدئًا بسورة الفاتحة إلى آخر القرآن، ثم قال: قال أبو العباس ثعلب: لم يعمل أحد مثله، ولا أحب أن أحدًا يزيد عليه.
والظاهر أن هذا الكلام مبالغ فيه، إذ الناظر في تفسير الفراء هذا والمعروف بمعاني القرآن يجد أنه لا يعدو أن يكون تفسيرًا لبعض ما أشكل من آي القرآن سورة سورة، ولم يتناول جميع آي القرآن بالتفسير، وكتابه هذا شبيه بكتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معْمر بن المثنى، الذي تناول فيه ما أشكل من القرآن فقط.
وهذا عبد الرازق بن همام قد ألف تفسيرًا شاملاً لكل آي القرآن، ومعروف أنه كان ـ رحمه الله ـ معاصرًا للفراء فلا يُعرف كيف أهمل ابن النديم ذكْر تفسير عبد الرزاق، واهتم بتفسير الفراء، مع أن الأخير أقل شمولاً من تفسير عبد الرزاق.
ومن هنا يمكننا القول كذلك إن هذا اللون من التفسير الذي اتسم بالشمول والتفصيل لم يتأخر التأليف فيه إلى نهاية القرن الثاني وأول القرن الثالث الهجريين كما يرى بعض العلماء، بل الأدلة تُثبت أن العمل والتأليف بدآ فيه مبكرًا.
قال ابن جرير الطبري في تفسيره فيما يرويه عن أبي مليكة: قال: رأيت مجاهدًا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه، فيقول له ابن عباس: اكتب قال: حتى سأله عن التفسير.
مدارس التفسير
التفسير بالمأثور. يشمل التفسير بالمأثور ما كان تفسيرًا للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيرًا للقرآن بالسنة، وما كان تفسيرًا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروي عن التابعين.
وإنما أدرجنا في التفسير بالمأثور ما روي عن التابعين ـ وإن كان فيه خلاف: هل هو من قبيل المأثور أو من قبيل الرأي ـ لأنا وجدنا كتب التفسير بالمأثور ـ كتفسير ابن جرير وغيره ـ لم تقتصر على ذكر ماروي عن النبي ³ وماروي عن أصحابه، بل ضمت إلى ذلك ما نقل عن التابعين في التفسير.
تدرج التفسير في دورين: دور الرواية ودور التدوين. أما في دور الرواية، فإن رسول الله ³ بيّن لأصحابه ما أشكل عليهم من معاني القرآن، فكان هذا القدر من التفسير يتناوله الصحابة بالرواية بعضهم لبعض، ولمن جاء بعدهم من التابعين.
ثم وُجد من الصحابة من تكلم في تفسير القرآن بما ثبت لديه عن رسول الله ³، أو بمحض رأيه واجتهاده، وكان سبب ذلك ـ على قلته ـ الروح الدينية التي كانت لهذا العهد، والمستوى العقلي الرفيع لأهله، وتجدد حاجات حياتهم العملية، ثم شعورهم أن هذا التفسير شهادة على الله تعالى.
ثم وُجد من التابعين أيضًا من تصدى للتفسير ـ فروى ما تجمع لديهم من ذلك عن رسول الله ³ وعن الصحابة، وزاد على ذلك من القول بالرأي والاجتهاد بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعد الناس عن عصر النبي ³ والصحابة.
ثم جاءت الطبقة التي تلي التابعين، وروت عنهم ما قالوا، وزادوا عليه بمقدار ما زاد من غموض سبَّبه بُعد الزمن أيضًا... وهكذا ظل التفسير يتضخم طبقة بعد طبقة. وتروي الطبقة التالية ما كان عند الطبقات التي سبقتها كما أُشير إلى ذلك فيما سبق.
ثم ابتدأ دور التدوين ـ وهو ما يعنينا في هذا البحث ـ فكان أول مادوّن من التفسير هو التفسير بالمأثور، على تدرج في التدوين كذلك، فكان رجال الحديث والرواية هم أصحاب الشأن الأول في هذا. وكان أصحاب مبادئ العلوم حين ينسبون ـ على عادتهم ـ وضع كل عِلم لشخص بعينه، يعدون واضع التفسير بالمأثور بمعنى جامعه لا مدونه.
ولم يكن التفسير إلى هذا الوقت قد اتخذ شكلاً منظمًا، ولم يفرد بالتدوين، بل كان يكتب على أنه باب من أبواب الحديث المختلفة، يجمعون به ما روي عن النبي ³ وعن الصحابة والتابعين. ثم بعد ذلك انفصل التفسير عن الحديث، وأفرد بتأليف خاص، فكان أول ما عرف لنا من ذلك، تلك الصحيفة التي رواها علي بن أبي طلحة عن ابن عباس.
ثم وُجد من ذلك جزء أو أجزاء دونت في التفسير خاصة، مثل ذلك الجزء المنسوب لأبي روحة، وتلك الأجزاء الثلاثة التي يرويها محمد بن ثور عن ابن جريج.
ثم وجدت من ذلك موسوعات من الكتب المؤلفة في التفسير، جمعت كل ما وقع لأصحابها من التفسير المروي عن النبي ³ وأصحابه وتابعيهم، كتفسير ابن جرير الطبري. ويلاحظ أن ابن جرير ومن على شاكلته ـ وإن نقلوا تفاسيرهم بالإسناد ـ توسعوا في النقل وأكثروا منه، حتى استفاض وشمل ما ليس موثوقًا به، كما يلاحظ أنه كان ما يزال موجودًا إلى ما بعد عصر ابن جرير ومن على شاكلته ـ ممن أفردوا التفسير بالتأليف ـ رجال من المحدثين بَوَّبُوا للتفسير بابًا ضمن أبواب ما جمعوا من الأحاديث. ثم وجد بعد هذا أقوام دوَّنوا التفسير المأثور دون أن يذكروا أسانيدهم في ذلك، وأكثروا من نقل الأقوال في تفاسيرهم وبدون تفرقة بين الصحيح وغيره، مما جعل الناظر في هذه الكتب لا يركن لما جاء فيها، لجواز أن يكون من قبيل الموضوع المختلق، وهو كثير في التفسير.
بعد ذلك تغيرت الاتجاهات، فبعد أن كان التدوين في التفسير لا يتعدى المأثور فيه، تعدى إلى تدوين التفسير بالرأي على تدرج فيه.
علمنا مما تقدم أن التفسير بالمأثور يشمل ماكان تفسيرًا للقرآن بالقرآن، وما كان تفسيرًا للقرآن بالسنة، وما كان تفسيرًا للقرآن بالموقوف على الصحابة أو المروي عن التابعين. أما تفسير القرآن بالقرآن، أو بما ثبت من السنة الصحيحة، فذلك مما لا خلاف في قبوله؛ لأنه لا يتطرق إليه الضعف، ولا يجد الشك إليه سبيلاً.
وأما ما أضيف إلى النبي ³ وهو ضعيف في سنده أو سنته فذلك مردود غير مقبول ـ مادام لم تصح نسبته إلى النبي ³.
وأما تفسير القرآن بما يروى عن الصحابة أو التابعين، فقد تسرب إليه الخلل وتطرق إليه الضعف، إلى حد كاد يفقدنا الثقة بكل ماروي من ذلك، لولا أن قيض الله لهذا التراث العظيم من أزاح عنه هذه الشكوك، فسلم لنا قدرًا لا يستهان به وإن كان ضعيفها وسقيمها ما يزال خليطًا في كثير من الكتب التي عني أصحابها بجمع شتات الأقوال.
أسباب الضعف. ترجع أسباب الضعف في رواية التفسير بالمأثور إلى أمور ثلاثة:
أولها: كثرة الوضع في التفسير. ثانيها: دخول الإسرائيليات فيه. ثالثها: حذف الأسانيد.
التفسير بالرأي. هو التفسير القائم على الاجتهاد، وقد اختلف العلماء حوله منذ القدم بين مجيزٍ لذلك ومانع له. فالذين أجازوه استدلوا بالآيتين التاليتين:- قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أَمْ علىَ قلوبٍ أَقفالها﴾ محمد : 24 . وقوله تعالى: ﴿ولو رَدُّوهُ إلى الرسول وإلى أولي الأمرِ منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم﴾ النساء : 83 .
ففي هاتين الآيتين ما يدل على أن معاني القرآن لا يصل إليها إلا أهلُ الاستنباط والاجتهاد، بما يملكون من مواهب؛ كما أن في الآية أمرًا بالتدبر والاجتهاد في استنباط معانيه. كما كان اختلاف الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ في بعض أقوالهم في تفسير القرآن، يدل على أنهم فسروه باجتهادهم القائم على معرفتهم الخاصة، إذ لولا ذلك لاتفقت أقوالهم. كما كان أيضًا دعاء النبي ³ لابن عباس رضي الله عنهما (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) على جواز الاجتهاد في فهم القرآن.
أما الذين منعوا التفسير بالرأي فلهم أدلتهم التي اعتمدوا عليها وهي:- قوله تعالى: ﴿وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم﴾ النحل : 44. فهذه الآية في رأيهم جعلت تفسير القرآن وبيانه للنبي ³ وحده دون غيره. قوله تعالى: ﴿قل إنما حرّم رَبِّيَ الفواحش ما ظَهَرَ منها وما بطن والإثمَ والبغيَ بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون﴾ الأعراف : 33. فحرّم الله على عباده القول على الله بدون علم، والتفسير بالرأي ـ عند المانعين ـ قول على الله بدون علم. ما رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ³ : (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) ، وما رُوي عن أبي بكر رضي الله عنه: ¸أي سماءٍ تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله·. إضافة إلى امتناع بعض السلف عن القول في القرآن برأيهم. فالمانعون يرون أن التفسير بالرأي قول على الله بغير علم، فلا يجوز لأحد الإقدام عليه؛ لأنه حرام.
والنتيجة تتمثل في ردّ المجيزين على المانعين بما يأتي:- هناك خلاف بين العلماء في المقدار الذي فسره الرسول ³ في القرآن، فمنهم من يرى أنه عليه الصلاة والسلام فسر القرآن كله، ومنهم من يرى أنه ³ فسر القليل؛ والأصوب أنه فسر ما أشكل على الصحابة واختلفوا فيه وسألوه عنه، فلم يكن قليلاً، ولم يستوعب القرآن كله. فما لم يفسره ³، هو الذي فيه مجال لأهل الفقه والعلم والاستنباط والنظر، استنادًا إلى قوله تعالى: ﴿أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها﴾ محمد : 24.
إن الاجتهاد في التفسير ليس قولاً على الله بغير علم، وإنما استعمال للعقل الذي أنعم الله به على الإنسان مع شروط يجب توافرها فيمن يقوم بهذا الاجتهاد. إن المجتهد مأجور، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر. فالاجتهاد البعيد عن الهوى والضلالة والجهالة أمرٌ غير مذموم. وقد ورد عن أبي بكر رضي الله عنه حين سُئل عن الكلالة فقال: أقول فيها برأي؛ فإن كان صوابًا فمن الله وإن كان غير ذلك فمنِّي ومن الشيطان، ثم فسَّر معنى الكلالة. أما امتناع أبي بكر وغيره من الصحابة والتابعين عن تفسير القرآن برأيهم فيحمل على الورع والاحتياط وخشية الوقوع في الزلل.
أشهر كتب التفسير بالرأي. 1- مفاتيح الغيب للفخر الرازي (ت 606هـ، 1209م). 2- أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (ت 691هـ، 1291م). 3- مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي (ت 701هـ، 1301م). 4- لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن (ت 741هـ، 1340م). 5- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (ت 745هـ، 1344م). 6-السراج المنير للخطيب الشربيني (ت 977هـ، 1569م). 7- إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم لأبي السُّعود (ت 982هـ، 1574م). 8- تفسير الجلالين: لجلال الدين المحلِّي (ت 864هـ، 1459م) وجلال الدين السيوطي (ت 911هـ، 1505م).
ولا يعني هذا أن هذه الكتب خلت من التفسير المأثور والأثر المنقول، وإنما يعني أنه يكثر فيها التفسير بالرأي. والتفسير بالرأي قد ظهر مبكرًا منذ عهد التابعين، إن لم يكن في عهد الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم أجمعين.
التفسير في العصر الحديث. لم يترك الأوائل للأواخر كبير جهد في تفسير كتاب الله والكشف عن معانيه ومراميه؛ إذ إنهم نظروا إلى القرآن باعتباره دستورهم الذي جمع لهم بين سعادة الدنيا والآخرة، فتناولوه من أول نزوله بدراستهم التفسيرية التحليلية، دراسة سارت مع الزمن على تدرج ملحوظ. والذي يقرأ كتب التفسير على اختلاف مناهجها، لا يداخله شك في أن كل ما يتعلق بالتفسير من الدراسات المختلفة قد وفاه هؤلاء المفسرون الأقدمون حقه من البحث والتحقيق.
وقد تناول المفسرون الأقدمون أيضًا القرآن الكريم، فتوسعوا فيه توسُّعًا ظاهرًا ملموسًا من النواحي اللغوية والبلاغية والأدبية والفقهية والنحوية والمذهبية والكونية، ما كادوا يتركون لمن جاء بعدهم من عمل جديد، أو أثر مبتكر يقومون به في تفاسيرهم التي ألّفوها، اللهم إلا عملاً ضئيلا لا يعدو أن يكون جمعًا لأقوال المتقدمين، أو شرحًا لغامضها أو نقدًا وتفنيدًا لما يعتريه الضعف منها، أو ترجيحًا لرأي على رأي، مما جعل محاولات التفسير تقف وقفة طويلة خالية من التجديد والابتكار.
مميزات التفسير في العصر الحديث. ظل تفسير القرآن على ما هو عليه من تفاسير الأقدمين لا يمتد إليه قلم ولا تغير فيه آراء حتى جاء عصر النهضة العلمية الحديثة، فاتجه العلماء الذين لهم عناية بدراسة التفسير إلى أن ينظروا فيه نظرات خاصة؛ فنظروا في كتاب الله نظرة تخلصوا فيها من كل الاستطرادات العلمية التي أقحمت في التفاسير إِقحامًا، ومُزجت بها على غير ضرورة لازمة، كما عملوا على تنقية التفسير من القصص الإسرائيلي ـ الذي كاد يذهب بجمال القرآن وجلاله ـ وتمحيص ماجاء فيه من الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة على رسول الله ³ أو على أصحابه ـ عليهم رضوان الله تعالى، كما عملوا أيضا على إلباس التفسير ثوبًا أدبيًا اجتماعيًا يظهر روعة القرآن ويكشف عن مراميه الدقيقة وأهدافه السامية، وبيان ما استحدث من نظريات علمية وما اكتشف من حقائق كونية صحيحة، موافقة لما جاء به القرآن.
وكان ذلك من أجل أن يعرف المسلمون وغير المسلمين أن القرآن هو الكتاب الخالد الصالح لتنظيم حياة الإنسان في كل زمان ومكان. وهناك غير هذه الآثار آثار أخرى ظهرت في الاتجاه التفسيري في العصر الحديث، نشأت عن عوامل مختلفة، أهمها التوسع العلمي والتأثر بالمذهب والعقيدة، والإلحاد الذي قام على حرية الرأي الفاسد.
مذاهب التفسير في العصر الحديث أربعة. وهي: المذهب العلمي، والاتجاه المذهبي، والمذهب الإلحادي، والمذهب الأدبي الاجتماعي.
المذهب العلمي. راج التفسير العلمي في العصر الحاضر رواجًا ملحوظًا، وهو يرمي إلى جعل القرآن مشتملاً على سائر العلوم ما جدّ منها وما سيجدّ. وراج لدى بعض المثقفين الذين لهم عناية بالعلوم، وعناية بالقرآن الكريم، وكان من أثر هذه النزعة التفسيرية التي تسلطت على قلوب أصحابها، أن أخرج المشغوفون بها كثيرًا من الكتب يحاول أصحابها فيها أن يحملوا القرآن كل علوم الأرض والسماء، وأن يجعلوه دالاً عليها بطريق التصريح أو التلميح، اعتقادًا منهم أن في هذا بيانًا لناحية من أهم نواحي صدقه، وإعجازه وصلاحيته للبقاء.
من هذه المحاولات: إعجاز القرآن لمصطفى صادق الرافعي وهو من أنصار هذه النزعة التفسيرية ومن المؤيدين لها، وفي هذا الكتاب، يعقد المؤلف بحثًا خاصًا لموضوع القرآن والعلوم. وفيه يقرر: أن القرآن بآثاره النامية معجزة أصيلة في تاريخ العلم كله على بَسْطِ هذه الأرض، من لدن ظهور الإسلام إلى ماشاء الله. وهذا اللون من التفسير قد أدى خدمة جليلة في بيان الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، غير أن بعض العلماء قد وسع الخُطى، وبسط البحث في هذا المجال مما جعلهم يخرجون بالقرآن عن هدفه الأسمى الذي من أجله أُنزل؛ فأصبحوا يلوون أعناق الآيات الكريمة حتى توافق بعض النظريات أو المكتشفات الحديثة. لهذا السبب، نظمت لجان خاصة وهيئات مسؤولة عن هذا المجال، فتكونت لجنة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، وهي تابعة لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وكان لهذه اللجنة الأثر الكبير في ترجمة الإعجاز إلى عدة لغات، وكذا حضور عدة ملتقيات ومؤتمرات عالمية أذعن لها الحاضرون وشادوا بها إعجابًا. بل قد أسلم بعض ممن بلغهم هذا الإعجاز العلمي الباهر.
الاتجاه المذهبي. لم يبق من الفرق المنسوبة إلى الإسلام في العصر الحديث فرقة لها كيان إلا أهل السنة والجماعة، والإمامية الاثنا عشرية والإمامية الإسماعيلية، والزيدية والإباضية من الخوارج، والبهائية من الباطنية.
وهذه الفرق التي لا تزال قائمة وموجودة، محتفظة بتعاليمها وعقائدها التي تسير عليها من أول عهدها ومبدأ ظهورها.
وإذا كان لهذه الفرق في عصورها السابقة عملٌ ظاهر في تفسير كتاب الله وشرحه حسب ما تمليه عقيدة المفسر، فإنه مما لا شك فيه ما يزال موجودًا في العصر الحديث بمقدار ما بقي قائمًا من المذاهب الإسلامية.
فأهل السنّة فسروا القرآن وألفوا الكتب فيه بما يتفق وفهمهم الصحيح للدين، كما نرى ذلك واضحًا في التفاسير الحديثة لأهل السنّة والجماعة. والإمامية الاثناعشرية فسروا القرآن بما يتفق ومذهبهم. وكذلك باقي الفرق، فإنها وإن كتبت في العصر الحديث كتبًا في التفسير، فهي لا تخرج عن معتقدها ومذهبها، ولم يؤثر فيها طول السنين الماضية ولا مرور الأيام.
الاتجاه الأدبي الاجتماعي. يمتاز التفسير في هذا العصر بأنه يتلون باللون الأدبي الاجتماعي، وذلك لمعالجة النصوص القرآنية معالجة تقوم أولاً وقبل كل شيء على إظهار مواضع الدقة في التعبير القرآني، ثم بعد ذلك تصافح المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شائق أخاذ، ثم يطبق النص القرآني على ما في الكون من سنن الاجتماع، ونظم العمران. وعلى رأس هذا الاتجاه، مدرسة الإمام محمد عبده ومن جاء بعده.
أدوات المفسِّر
هناك علوم لا بد منها للمفسر، هذا ما قاله الإمام السيوطي في الإتقان، مع زيادة التوضيح وحسن التصرف. قال بعض العلماء: اختلف الناس في تفسير القرآن: هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم: لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن، وإن كان عالمًا أديبًا، متسعًا في معرفة الأدلة، والفقه والنحو والأخبار والآثار، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي ³ في ذلك. ومنهم من قال: يجوز تفسيره لمن كان جامعًا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها، وهي خمسة عشر علمًا.
اللغة. بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع، قال مجاهد: لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله، إذا لم يكن عارفًا بلغات العرب. وقال الإمام مالك: لا أوتي برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالاً. من هنا فإن العلم الواسع المتعمق باللغة شرط أساسي، ولا يكفي الإلمام اليسير بها، فقد يكون اللفظ مشتركًا وهو يعلم أحد المعنيين ويكون المراد الآخر، وهذا التعمق هو من الأسباب التي مكنت لابن عباس، رضي الله عنه أن يكون حَبْر القرآن ورأس المدرسة المكية التي هي خير المدارس التفسيرية.
النحو. لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من وضعه في الحسبان.
ومن لم يعرف النحو فربما يقع في أخطاء فاحشة مثل ذلك الرجل الذي قرأ قوله تعالى: ﴿وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسولُه﴾ التوبة : 3. بجر كلمة رسوله، فكان المفهوم من قراءته تلك أن الله بريء من المشركين ومن رسوله أيضًا، حاشالله!! فكاد يقع هذا الرجل في الكفر وهو لا يعلم، فكان ذلك من الأسباب الحاملة على وضع علم النحو.
علم التصريف. لأن به تعرف أبنية الكلمات والصيغ.
علم الاشتقاق. لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح: أهو من السياحة أو المسح، فمن الأول سُمي المسيح مسيحًا لكثرة سياحته، وأما من الثاني: فلأنه حسب المأثور من القول وإخبار الله عنه في القرآن، كان لا يمسح على ذي عاهة إلا شُفي بإذن الله تعالى.
علوم المعاني والبيان والبديع. تُعرِّف بخواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعاني، خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها، وبوجوه تحسين الكلام. وهذه العلوم الثلاثة، هي من علوم البلاغة، وهي من أعظم أدوات المفسر.
وقال الزمخشري: من حق مفسر كتاب الله الباهر، وكلامه المعجز أن يتعاهد بقاء النظم على حسنه، والبلاغة على كمالها، وما وقع به التحدي سليمًا من القادح.
والزمخشري بحق خير من له في إدراك إعجاز القرآن باع طويل، وخير من أفصح عن أسرار إعجاز القرآن الكريم بطريقة العرب الفصحاء البلغاء، لا بطريقة أهل الفلسفة والكلام.
علم القراءات. علم يعرف به مخارج الحروف والأصوات وكيفية النطق بها والقراءات المتواترة في القرآن الكريم أو المشهورة أو الشاذة. والوجوه التي يترجح بها بعض القراءات على بعض.
علم أصول الدين. علم يعرف به ما يجب لله تعالى وما يستحيل عليه، وما يجوز في حقه، ويعرف الفرق بين العقائد والشرائع، وما هو من أصول الدين، وما هو من فروعه.
علم أصول الفقه. علم يعرف به وجوه الاستدلال وطريقة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة.
علم أسباب النزول. بمعرفة سبب النزول، يعرف المعنى المراد من الآية، كما أنه يزيل الإشكال عن بعضها، ويبين بعض حكم الله في التشريع، وبعلم القصص، يعلم ما هو من الإسرائيليات التي دُست في الرواية الإسلامية، وما ليس منها، وما هو حق، وما هو باطل.
علم الناسخ والمنسوخ. مهم للمفسر، وإلا وقع في خطأ كبير.
علم الفقه. علم تعرف به الأحكام الشرعية ومذاهب الفقهاء، ومن احتج منهم بالآية ومن لم يحتج بها، وطريقة كل منهم في فهم الآية والأخذ بها، أو الإجابة عنها.
علم الحديث والسنن. والآثار المبينة لتفصيل المجمل، وتوضيح المبهم، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وإلى غير ذلك من وجوه بيان السنة للقرآن.
الموهبة. ما يورِّثه الله تعالى لمن يعمل بعلمه. ويؤيد ذلك قوله تعالى ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾ البقرة: 282. قال ابن أبي الدنيا: وعلوم القرآن وما يستنبط منه بحر لا ساحل له.
فهذه العلوم التي هي كالآلة للمفسر لا يكون مفسرًا إلا بتحصيلها، فمن فسر القرآن بدونها، كان مفسرًا بالرأي المنهي عنه، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرًا بالرأي المنهي عنه. والصحابة والتابعون كان عندهم علوم العربية بالطبع والاكتساب، واستفادوا العلوم الأخرى من النبي ³ قال الإمام السيوطي: ¸ولعلك تستشكل علم الموهبة، وتقول هذا شيء في قدرة الإنسان، وليس كما ظننت من الإشكال والطريق إلى تحصيله، لارتكاب الأسباب الموجبة من العمل والزهد·.
وقال الإمام الزركشي في البرهان: ¸اعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي، ولا يظهر له أسراره وفي قلبه بدعة، أو كبر، أو هوى أو حب للدنيا، أو وهو مُصِر على ذنب، أو غير متحقق بالإيمان، أو ضعيف التحقيق، أو يعتمد على قول مفسر ليس عنده علم، أو راجع إلى مقولة، وهذه كلها حجب، ومواقع بعضها آكد من بعض·.
قال الإمام السيوطي: ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: ﴿سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق﴾ الأعراف : 146.
والموهبة ثمرة من ثمرات التقوى، والتقوى لها معنيان: معنى نفسي وهي: خشية الله ومراقبته في السر والعلن، وهذا هو ما أراده النبي ³ حينما قال: (التقوى ههنا) ثلاثًا، وأشار إلى صدره. ومعنى ظاهري، وهو الاستقامة على الدين، وذلك بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات، وقد تسمو بصاحبها، فتصل به إلى حد فعل النوافل والمستحبات أيضًا، واتباع مكارم الأخلاق، وتوقي الشبهات، خشية الوقوع في المآثم والمحرمات. والتقوى بمعنييها لا بد منها لمن يتصدى لشرح كتاب الله، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانً﴾ الأنفال : 29. أي معنى في القلب يُفرق به بين الحق والباطل.
ومن العلماء من أضاف علومًا أخرى إلى هذه العلوم، حتى يتسنى للمفسر أن يكون على علم واسع في تفسيره لكتاب الله تعالى.
ومن هذه العلوم، علم تاريخ البشر، وعلم السيرة النبوية، والعلوم الكونية، وعلم الاجتماع البشري. وكذلك علم تاريخ الأديان السماوية.
وكذا المذاهب الدينية غير السماوية كالبرهمية، والبوذية، والمزدكية والمانوية وغيرها.
فإذا كان من يتعرض لتفسير كتاب الله على علم بهذه العلوم كلها ـ ما ذكرها السيوطي وغيره من العلماء ـ فقد استأهل أن يفسر القرآن الكريم.
انظر أيضًا: القرآن الكريم؛ الإسلام؛ محمد صلى الله عليه وسلم ؛ الإسرائيليات؛ سور القرآن الكريم.
أسئلة
هل فسَّر الرسول ³ جميع القرآن أو بعضه؟ اذكر الآراء في ذلك.
اشتهرت في عهد الصحابة والتابعين ثلاث مدارس في نشر التفسير. بيّن هذه المدارس.
هناك اتجاهان بارزان في منهج التفسير بالرأي. وضحهما وبين دواعيهما. وما أشهر كتب التفسير بالرأي؟
كان للفرق المبتدعة آراء واتجاهات وتخريجات في تفسير القرآن الكريم. وضح هذه الاتجاهات في ضوء معرفتك بهذه الفرق.
اذكر أهم ملامح ومميزات التفسير في العصر الحديث. وضح ذلك في ضوء المذاهب التي تناولت تفسير القرآن الكريم.
-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق